غريبة حقاً حالة
تونس الراهنة: منذ الانقلاب القراقوشي الذي به أطاح قيس سعيّد، يوم 25 جويلية (يوليو/تموز) 2021، بسائر المؤسسات القائمة على الدستور الذي انتُخب رئيساً على أساسه، وهو انقلاب بكامل معنى الكلمة من حيث إنه استند إلى القوى المسلحة وخوّل سعيّد نفسه من خلاله سلطات لم ينص الدستور عليها بتاتاً، وبعد مضيه إلى الأمام بمشروعه الدستوري الذي بان من خلاله إعجابه المعروف بمعمّر القذافي، وهو دستور جدير بأن يُدرج في قائمة الدساتير المستجدة الأقل مشروعية في التاريخ، إذ شارك في التصويت عليه أقل من ثلث الناخبين والناخبات في يوم الذكرى الأولى للانقلاب، ها أن
الانتخابات التشريعية التي نظمها الحكم المستجد تدخل في سجل الأرقام القياسية بمشاركة حوالي عشرة في المئة من الناخبين والناخبات ـ 11.2 تحديداً حسب الأرقام الرسمية ـ في انتخاب «مجلس نواب الشعب التونسي» (وهو بالأحرى «مجلس نواب عِشر الشعب التونسي)!
وكأن الشعب التونسي الذي وقف في طليعة الموجة الثورية العارمة التي عُرفت بتسمية «الربيع العربي»، منطلقاً إثر استشهاد محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 في تظاهرات ما لبثت أن عمّت البلاد، مُطلقة صرخة انتشرت في شتى أرجاء المنطقة العربية هي صرخة «الشعب يريد إسقاط النظام!»، كأن هذا الشعب نفسه أصابه الزهق بعد اثنتي عشرة سنة إلى حد أنه اكتفى يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي بالتعبير السلبي عن مشاعره السياسية، وذلك برفض الإدلاء بأصواته في المسرحية السعيّدية وكأنه يقول ما مفاده: «الشعب لا يريد تأييد النظام!».
وإنها لحالة معبّرة تماماً عن حالة المنطقة بأسرها: لم يتعب الشعب من التعبير عن إرادته، لكنه لم يعد يرى ما يُلهمها، فنراه يغرق في نوع من الثُبات. ذلك أن الساحات العربية خلا معظمها ممن يلهمون الشعب، ولاسيما شبيبته، بما يكفي لدفعه من جديد إلى الشوارع والساحات مطالباً بإسقاط النظام القائم لفسح المجال أمام بديل يرى فيه باعثاً للأمل. إن القوى التي تمكنت من الهيمنة على الموجة الثورية الأولى وتجييرها لصالحها، وهي القوى المنتمية إلى تيار «الإخوان المسلمين» الإقليمي، فقدت الاعتبار بسرعة بسبب إخفاقها الجلي في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بما يُخرج بلدانها من الأزمة المزمنة التي أدى انفجارها إلى الانتفاضة الإقليمية. فمن تونس إلى مصر إلى ليبيا واليمن وسوريا والمغرب، حيث وصلت القوى المذكورة إلى السلطة، أو إلى الهيمنة على أحد قطبيها حيث قامت ازدواجية السلطة، في كل هذه الساحات، كان فشل تيار الإخوان ذريعاً في إنتاج سياسة اجتماعية أفضل مما كان قائماً بالأصل.
أما القوى الثورية التقدمية، التي بادرت إلى إطلاق انتفاضات «الربيع العربي» في عام 2011، فقد عجزت عن تشكيل بديل ذي مصداقية، لاسيما بعد أن انتهى بها الأمر إلى الارتماء في أحضان أحد قطبي المواجهة بين قوى النظام القديم والتيار الإخواني. وفي الموجة الثورية الثانية التي شهدتها المنطقة الناطقة بالعربية، بدءاً من الثورة السودانية التي انطلقت يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، لم تطفُ على السطح أي قوى قادرة على إلهام الجماهير بمشروعيتها القيادية، سوى في السودان حيث تشكّل تنظيم قاعدي شبابي عُرف باسم «لجان المقاومة» تضافر مع «تجمع المهنيين» على تشكيل بديل شعبي للحكم العسكري، وهو بديل ما زال يخوض نضالاً عنيداً. وحتى لو لم تتمكن القوى الثورية السودانية من الإطاحة بالعسكر حتى الآن، وهي مهمة عسيرة جداً بلا شك أياً كانت القيادة التي تأخذها على عاتقها، يبقى أن الثورة ما زالت تنبض في السودان بينما انتقلت إلى الهمود في الساحات الأخرى.
وقد أصاب قيس سعيّد ما أصاب جماعة «النهضة» الإخوانية الهوى وأصاب جماعة «نداء تونس» البورقيبية المنحى، أي ما أصاب قطبي المواجهة بين النظام القديم والتيار الإخواني في الساحة التونسية، فإن شتى الأطراف التي تعاقبت على حكم تونس منذ الإطاحة بزين العابدين بن علي قد سلكت الطريق ذاتها التي سلكها المخلوع والتي أدت إلى خلعه، ألا وهي طريق السياسات النيوليبرالية التي أتت بأحوال اجتماعية بائسة وببطالة شبابية قياسية. ومثل «النهضة» ومن ثم «نداء تونس» قبله، ظنّ سعيّد أن ما يتوق إليه الشعب هو نظام سياسي جديد انكبّ على ابتداعه، بينما الحقيقة هي أن الشعب يتوق إلى سياسة اقتصادية جديدة تعيد وضع البلاد على سكة التنمية وخلق فرص العمل بما يعيد الكرامة للناس. لذا فشل قيس سعيّد بالسرعة ذاتها التي فشلت بها جماعة «النهضة». وبعد سنوات انتقالية من حكم ائتلافي شاركت فيه هذه الأخيرة إلى جانب جماعة «نداء تونس» وغيرها من فلول نظام بن علي، وقد ساروا جميعاً معا على خطى بن علي في إدارة الاقتصاد، تبعهم سعيّد على الدرب ذاتها كما تأكد من خلال الاتفاق الذي سعت حكومته وراء إبرامه مع صندوق النقد الدولي.
والحقيقة أن هذا المسلك في السياسة الاقتصادية هو ما أنهى التجربة السعيّدية من خلال معارضة «الاتحاد العام التونسي للشغل». فهذا الأخير، الذي ما انفككنا نقول إن مفتاح الوضع التونسي بين أيديه إذ إنه أقوى تنظيم اجتماعي في تونس، وقد لعب دوراً رائداً في الإطاحة ببن علي وبحكم «النهضة» من بعده، وكان لحياده الإيجابي إزاء انقلاب قيس سعيّد دور أساسي في إتاحة المجال أمام هذا الأخير للمضي قدماً بمشروعه القراقوشي، إن «الاتحاد العام التونسي للشغل» إذاً هو الذي قضى على أحلام سعيّد بعدما تنصل منه وأدان سياسته الاقتصادية، الأمر الذي ساهم بلا شك إسهاماً كبيراً في اعتزال الناس صناديق الاقتراع. ولن تخرج تونس من الدوّامة التي وقعت فيها سوى إذا تولّى الاتحاد كامل مسؤوليته وخاض المعركة السياسية إلى جانب سائر القوى الاجتماعية التقدمية، من نسائية ومهنية، من أجل تغيير نوعي في السياسة الاقتصادية يلبّي احتياجات الشعب التونسي، ولاسيما شبيبته، وأمانيهما.
(
القدس العربي)