في العام 326م، قامت القديسة هيلانة، بزيارة حج إلى
فلسطين، وهي
الزيارة التي كانت لها أهمية بالغة في تنشيط رحلات الحج، التي أصبحت بعدها،
فلسطين، أرضا مقدسة. فقد ارتبطت رحلات الحج بعدها ارتباطا وثيقا بـ"
الكتاب
المقدس"، وظهر اهتمام الحجاج الأوائل بتسجيل أسماء المدن الفلسطينية،
باعتبارها أسماء مدن وردت في "الكتاب المقدس"، ووصف الحجاج الأوائل هذه
الأماكن من الناحية الجغرافية والتاريخية من "الكتاب المقدس"، ليشعر
القارئ بقداسة المكان، لارتباطها بأنبياء "الكتاب المقدس".
من حجاج القرن الرابع، الحاجة باولا (Paula)، (385)، فقد قضت سنتيْن،
متنقلة، مسافرة، تصحبها ابنتها العذراء، إيستوكيوم (Eustochium)، في أثنائهما فلسطين، ويافا، والقدس، والخليل، والجليل كله، والسامرة، وغزة. وذهبتا
إلى مصر، برّا، وعادتا منها، بحرا، إلى غزة، ثم استقرتا في بيت لحم، إلى حين
وفاة، الأم سنة 404، وقد انصرفت في هذه المدة إلى أعمال البرّ، فأنشأت أديرة،
وتكايا للحجاج، بين يافا، وبيت لحم.
من كتب الرحلة؟
ومعلوماتنا عن الرحلة مستقاة مما كتبه القديس چيروم بعد عشرين عاما في خطابه برقم 108 لإيستوكيوم، وفيه مدح الحاجة باولا والدتها، ولخص ووصف رحلة
الحج التي قامت بها، ومن خلال علمنا الكثير عن حياتها كيبدة رومانية مرفهة وعن
ثروتها الطائلة ومكانتها العظيمة، كما أوضح أن رحلتها مليئة بالتقوى والورع
والعاطفة العميقة والدراما للأماكن المقدسة. وهذا الخطاب ترجمة الكاتب آيوبري
سنيورات من اللاتينة إلى الإنكليزية، وتم نشره ضمن مجموعة نصوص رحلات الحج إلى
فلسطين (P.P.T.S). ومن رسالة الحاجة باولا رقم 46
لصديقتها مارسيلا، وهي سيدة رومانية ثرية من عائلة شهيرة، تصف فيها رحلتها إلى
الأراضي المقدسة ومصر وفلسطين، قبل أن تقيم نهائيا في بيت لحم.
من هي الحاجة باولا؟
الحاجة باولا، هي من أكثر تلامذة القديس چيروم حماسة وإيمان، ومن طبقة اجتماعية نبيلة، ثرية، ذات نسب روماني
أصيل؛ وتُعد "أول عذراء رومانية نذرت نفسها للعذرية".
مسار الرحلة:
انطلقت الحاجة بولا (385م) من روما جنوبا إلى ميناء أوستا، وأبحرت
إلى قبرص، ثم توقفت في موانئ، بونتيا، وميثون أو مودون، وردوس، وربما في ميناء
باترا في ليقيا، وبعد وصولها قبرص، قضت بعض الوقت في زيارة عدد من الأديرة على
الجزيرة. ومن قبرص عبرت إلى سلوقية، قرب مصب نهر العاصس، ثم تحركت إلى أنطاكية،
وبعد إقامة قصيرة ، وهناك سافرت في ذروة الشتاء إلى بيروت عبر سوريا، وعبر الطريق
الساحلي المعتاد، اتجهت إلى بتوليماس. ثم إلى اسدرالون [سهل يزرعيل]، وسهول مجدو،
إلى اللجون، ومن هناك إلى قيسارية عبر التلال، واللد، ويافا. ثم عادت إلى عِمواس،
ومن هناك سافرت إلى جبع؛ حيث أقامت فترة قصيرة قبل مواصلة رحلتها إلى القدس، ودخلت
المدينة عبر بوابة دمشق. ومن القدس تحركت
إلى بيت لحم، ثم إلى الخليل. وفي رحلة عودتها إلى القدس زارت بلدة مفر باروشا، حيث
قطعت المسافة إلى بلدات سدوم وعمورة، ومنها إلى أريحا، ثم إلى الجلجة وذهيت إلى
الأردن، ومن الأردن صعدت نحو بيت إيل، ثم عبرت من خلال شيلو وشكيم والسامرة إلى أن
وصلت إلى الناصرة. ثم قامت برحلة قصيرة إلى قانا وكفر ناحوم. وفي أثناء عودتها صعدت
جبل طابور، ومنه إلى الشويكة، وإلى نبع شمشون، بالقرب من بيت جبرين، ثم رحلت عبر
مريسا، ولخيش، والصحراء إلى البيلوزي أحد فروع نهر النيل، ومرت على أرض جاسان،
وزارت وادي النطرون، وعادت مرة أخرى إلى بيت لحم، وظلت هناك ثلاث سنوات،
"وكانت مشغولة ببناء الصوامع والأديرة والنزل للحجاج".
الكتاب المقدس هو المرشد!
اعتمدت الحاجة باولا على "الكتاب المقدس"، ومؤلفات
يوسيفوس، كمرشد ودليل له في تجواله، ويؤكد ذلك ذكرها لأسماء المواضع بالمسميات
التي وردت في "الكتاب المقدس"، فنجدها تشير في كثير من الأحيان إلى
معاني أسماء الأماكن باللغة العبرية ومزج تلك المعرفة اللغوية باللاهوت،
وربطت معنى الاسم بالمكان وعلاقته
بالأحداث والوقائع في "الكتاب المقدس".
وربطت معنى الاسم بالمكان وعلاقته بالأحداث والوقائع
في "الكتاب المقدس"، فعندما وصلت إلى مدينة الجيب، أطلقت عليها اسم
"جبعون"، "حيث قام يشوع بن نون، بقتال خمسة ملوك، وأعطى الأوامر
للشمس والقمر"، وسميت مدينة القدس"صهيون"، "حيث قام داوود
بالاستيلاء على المدينة بالقوة ثم أعاد بناءها". والخليل اسمها "قرية
الأربع"، "وهي مدينة الرجال الأربعة وهم: إبراهيم وإسحاق ويعقوب وآدم
الكبير".
وتعد رحلتها بمنزلة رسم خريطة تربط الزمان والمكان معا، وتعتمد
باولا على "الكتاب المقدس" لفهم فلسطين باعتبارها أرض مقدسة كتابية.
وقد اعتمدت الترجمة العربية عن الرحلة على نسخة مترجمة من اللاتينية
إلى الإنجليزية؛ نظرا لعدم حصول المترجم على النسخة الأصلية لخطاب القديس چيروم،
الذي سرد ووصف رحلة القديسة باولا، وقد جاءت الترجمة تحت عنوان: "رحلة حج القديسة باولا كتبها
القديس چيروم" (112 صفحة من القطع المتوسط)، ترجمة ودراسة د. سماح السلاوي،
إصدار نور حوران للدراسات والنشر والتراث، دمشق، 2022.
*كاتِب وباحِث فلسطيني