في الاتصالات التي تجري بين
تركيا وروسيا ونظام الأسد، هناك لاعب
غائب عن المشهد، ولا يبدو أنّ المشاركين في هذه الاتصالات أو حتى المعترضين عليها
قد إستحضروه في نقاشاتهم أو في السجالات الجارية حالياً حول هذه الاتصالات
ودوافعها واهدافها والنتائج التي قد تفضي إليها.
إيران، داعم رئيسي لنظام الأسد لكنّها غير موجودة في جوهر الاتصالات التي
تجري حاليا بين الأطراف السابقة المذكورة. لماذا؟ وما هو موقف إيران من هذه
الاتصالات؟ وما هي حسابات طهران، وماذا تريد بالتحديد؟
إيران كانت ولا تزال تعتبر من الداعمين الرئيسيين لنظام الأسد ضد
الشعب السوري. قدّمت طهران دعماً لا محدوداً للنظام ضد الشعب الثائر لاسيما في
الفترة الممتدة من 2011 وحتى العام 2015. في ذلك العام، وبالرغم من حشدها لعشرات
الآلاف من الميليشيات الشيعية الموالية لها، بالإضافة إلى مقاتلي حزب الله، والحرس
الثوري، والجيش الإيراني، وجدت طهران أنّ دعمها ليس كافياً لإيقاف تقدّم الثوّار
ومنع الإطاحة بنظام الأسد.
حينها، استنجدت طهران بروسيا بعد أن كان الثوّار قاب قوسين أو أدنى
من هزيمة النظام السوري، فدخلت موسكو على خط الأزمة السورية من خلال استدعائها
قوتها العسكرية في الميدان. وبالرغم من نجاح الطرفين في منع انهيار الأسد، إلاّ
أنّ العلاقات بينهما بقيت تتأرجح بين التعاون والتنافس مع التركيز على إبقاء الأسد
ومحاولة بسط نفوذ نظامه وسيطرته على كامل الأراضي السورية، مما أدخلهما في تنافس
وتصادم أحياناً مع تركيا التي احتل الملف السوري رأس قائمة أولوياتها لحوالي عقد
من الزمن.
وبسبب التخاذل الدولي والتراجع الإقليمي للدعم المقدّم للمعارضة
السورية، حرصت أنقرة على المزج بين أدوات القوّة الصلبة (القوة العسكرية)،
والدبلوماسية للتوصّل إلى مخارج تصون أمنها القومي وتحفظ مصالحها دون أن يتعارض
ذلك بالضرورة مع مصالح المعارضة السورية، تماما كما جرى الأمر مع تطهير رقعة واسعة
من الشمال لسوري من مليليشيات "واي بي جي" ووضع حد لتقدّم النظام وداعمه
في إدلب، والحفاظ على حياة ومصالح ملايين السوريين اللاجئين منهم والنازحين.
تحدّثت معلومات مؤخراً عن أنّ الأسد كان قد طالب أن تكون الاتصالات مع أنقرة من خلال إيران وأن تكون طهران (وليس موسكو)، مكاناً لانعقاد اللقاءات الثلاثية.
وقد اختارت تركيا دوماً التفاوض مع الجانب الروسي وليس الإيراني
حينما اقتصى الأمر التوصل إلى تفاهمات أو اتفاقات بشأن
سوريا. وبالرغم من وجود
منصّة الأستانة الثلاثية، إلاّ أنّ التفاهمات الرئيسية كانت ولازالت تجري دوماً
بين أردوغان وبوتين. إيران لا تنظر بشكل إيجابي إلى مثل هذه التحرّكات وهي تفسّرها
على أنّها نظرة دونيّة لها، ومحاولة لتهميشها أو عزلها. نفس الأمر ينطبق على
الاتصالات الحالية الجارية بين تركيا وروسيا ونظام الأسد.
صحيح أنّ إيران تريد أن ينال نظام الأسد الاعتراف والشرعية وأن يتم
ذلك من خلال البوابة التركية، بدليل أنّها كانت قد قدّمت عدّة مقترحات بهذا الخصوص إلى الجانب التركي خلال السنوات الماضية لاسيما منذ عملية غصن الزيتون في العام
2018، لكنّها تريد أن يكون ذلك من خلال البوابة الإيرانية وليس الروسية، وأن تحظى
هي بثمرات مثل هذا الاتفاق وليس أي لاعب آخر، والأهم أن يتم ذلك بتنازل تركي كامل
دون الحصول على أي شيء حقيقي وملموس من قبل نظام الأسد، باستثناء بعض الوعود حول
تأمين الحدود من هجمات ميليشيات "واي بي جي" الكردية.
آخر المحاولات الإيرانية في هذا الصدد كانت في تموز (يوليو) 2022،
حيث حاولت إيران إيجاد صيغة توافقية لمنع أنقرة من إطلاق عملية عسكرية، واستخدمت
في نفس الورقة ورقة تعزيز التعاون بين الميليشيات الشيعية والكردية ونظام الأسد
لمحاولة صد أي عملية عسكرية تركية مرتقبة. آنذاك، حرص الجانب الإيراني على أن
يتحدث بلسان الأسد، في دلالة واضحة على مدى نفوذها وتأثيرها عليه، حيث قال وزير
الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إنه أجرى مباحثات مكثّفة مع بشار الأسد
وأبلغه المخاوف الأمنيّة التركية وأنّ الأسد يدعم أي حل يعتمد الحوار بمساعدة
إيرانية.
وفي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، نقلت وكالة الأسوشيتد برس تقارير
أخرى معلومات عن وساطة إيرانية مجدداً، لكنّ اللافت أنّ مصدراً رسمياً تركيا كان
قد ردّ ليس بالنفي فقط، وإنما بالتأكيد على أنّ روسيا هي التي تدفع تركيا باتجاه
النظام السوري وأنّها تتولى هذه العملية دون أن يتم تحقيق نتائج حتى هذه اللحظة.
لكن، ما أن تمّ الاتفاق على بعض الآليات للتواصل، حتى ظهرت تقارير في ديسمبر
الماضي تشير الى أنّ إيران تحاول إحباط المساعي الروسية بين تركيا والأسد من خلال
الضغط على الأخير، من خلال تكتيكات مثل التسويف، والمماطلة، وعدم إبداء الجدّية،
وغيرها من التكتيكات.
وبالفعل، تحدّثت معلومات مؤخراً عن أنّ الأسد كان قد طالب أن تكون
الاتصالات مع أنقرة من خلال إيران وأن تكون طهران (وليس موسكو)، مكاناً لانعقاد
اللقاءات الثلاثية. علاوةً على ذلك، فإن محاولات نظام الأسد التسويف والتأجيل
كالقول أنّه ليس جاهزاً الآن لمحادثات مع انقرة، أو أنّه يريد الانتظار إلى ما بعد
الانتخابات، تصب في صالح التوجه الإيراني الحالي في نهاية المطاف. محاولات إيران
تعطيل الاتصالات ليست تعبيراً عن عدم رغبتها في تحقيق مصالحة بين تركيا والأسد،
وإنما خشيتها من أنّ يؤدي أي اتفاق لا تكون هي موجودة فيه ولا يُعزا الفضل فيه
إليها إلى تجاهل مصالحها في سوريا، وأن يكون بمثابة محاولة لتقويض نفوذ إيران على
نظام الأسد وفي سوريا بشكل عام.
بعض المحافظين الإيرانيين والصقور انتقدوا غياب إيران عن هذه الإجتماعات في وقت أُعلِنَ فيه أنّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي سيزور سوريا قريبا، في مهمّة لا تبدو منفصلة عن محاولة إيران استعادة زمام المبادة من خلال عرقلت الاتصالات وإعادة فرض نفهسا كلاعب رئيسي في أي تسوية مستقبلية.
وفي مؤتمر صفحي لوزارة الخارجية الإيرانية مؤخراً بُعيدَ الاتصالات
الروسية التركية مع نظام الأسد، سُئل المتحدث باسم الوزارة ـ في سؤال بدا انّه
مُحضّر سلفاً من قبل الجانب الايراني لتسليط الضوء على الموضوع ـ عن تفسيره لغياب
إيران عن هذه الإتصالات، فأشار إلى أنّ هذه الأطراف الثلاثة "تعلم دور إيران
الحاسم في محاربة الإرهاب في سوريا"، وهي إشارة مُبطّنة إلى مدى نفوذ وتأثير
طهران على نظام الأسد، فضلاً عمّا تتوقعه من دورها في هذا المجال.
بعض المحافظين الإيرانيين والصقور انتقدوا غياب إيران عن هذه
الإجتماعات في وقت أُعلِنَ فيه أنّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي سيزور سوريا
قريبا، في مهمّة لا تبدو منفصلة عن محاولة إيران استعادة زمام المبادة من خلال عرقلت
الاتصالات وإعادة فرض نفهسا كلاعب رئيسي في أي تسوية مستقبلية. إذا ما حصلت هذه
الزيارة فستكون الأولى لرئيس إيراني إلى سوريا منذ حوالي 12 عاماً، حيث تحاول
طهران إعادة التموضع وتسويق دورها لتحقيق تسوية بين الجانبين تضمن مصالحها ونفوذها
وتقطع الطريق عل محاولات تهميشها وعزلها.
تثير هذه الزيارة العديد من التساؤلات أكثر مما تقدّم من أجوبة. ماذا
في جعبة طهران؟ هل ستقدّم ما لم تقدّمه موسكو؟ ما هو رد فعل روسيا؟ هل ستقبل تركيا
ضمانات إيرانية بدلاً من الروسية؟ من يمتلك القدرة الأكبر على توجيه الأسد
وإستخدامه وتوظيفه، روسيا أم إيران؟ أسئلة تحتاج الأجوبة عليها إلى مقاربة مرحلة
ما بعد الزيارة.