بعد كل هذه السنوات التي قضيتها في رحاب العمل الإغاثي،
آنَ الأوان باعتقادي لأن أُفردَ بعض المذكّرات الخاصة بسنوات العمل، ومدى تأثّري
بما رأيته وما زلت أراه من مشاهد تُدمي القلوب حول واقع أهلنا في
مخيمات الشتات
الذين يعانون الأمرّين، تحت البرد والمطر والثلوج التي غمرتهم في كثير من الأحيان..
ولعل المخيمات
الفلسطينية في
لبنان كانت من أكثر
المحطات التي عملت فيها ضمن العمل الإغاثي، وبرفقةِ نخبة من الزملاء الذين واصلوا
الليل بالنهار كي يكونوا سنداً لإخوانهم هناك، ويوصلوا حجم معاناتهم في ظل تجاهل
المجتمع الدولي لهم، في الوقت الذي يعيشون فيه أوضاعاً إنسانية صعبة.
هل يُعقَل ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين أن نشاهد عائلات بأكملها من دون مأوى، وأن نعاينَ أطفالاً بعمر الورود لا يعرفون في حياتهم شيئا اسمه المدرسة أو المنزل الذي يؤويهم، أو حتى الشبع والدفء؟!
فهل يُعقَل ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين أن
نشاهد عائلات بأكملها من دون مأوى، وأن نعاينَ أطفالاً بعمر الورود لا يعرفون في
حياتهم شيئا اسمه المدرسة أو المنزل الذي يؤويهم، أو حتى الشبع والدفء؟! بل قُل
أكثر من ذلك بكثير، فقد تعودت أن أزور لبنان مرتين في العام، ولكنني لم أرَهُ في
حياتي كما رأيته مؤخراً، حزيناً كئيباً بائساً، لا كهرباء ولا ماء، إضافة إلى
أوضاع اقتصادية متردّية للغاية على أصحاب البلد نفسه. فكيف ستكون الحال إذن على
أوضاع
اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم، الذين هُجّروا من وطنهم فلسطين بسبب
إجرام الاحتلال الإسرائيلي الذي يُعتبر المسؤول الأول والمباشر عن مأساة أهلنا في
مخيمات لبنان وغيرها..
كذلك يمكن القول إنّ انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية
أمام الدولار زاد من معاناة أهلنا في المخيمات، إذ انعدمت فرص العمل وارتفع معها
معدل البطالة والفقر وشُح المواد الأساسية ومستلزمات الطب والعلاج، فمعظم الأدوية
الضرورية تكاد تكون مفقودة بشكل كامل، وفي حال وجودها في السوق السوداء فإنّ سعرها
يفوق القدرة الشرائية بكثير، إضافة إلى عدم الثقة بالكفاءة والنوعية، ما زاد في
تفاقم أوضاع أهلنا هناك.
إذن هو مشهد سوداوي بكل معنى الكلمة، وقد اعتدنا على
معاينته خلال الحملات السابقة، ورغم كل هذه السوداوية، ورغم كل الصعوبات حاولنا أن
نكون كالشمعة التي تبعث نوراً ولو ضئيلاً في الظلام، حيث طفنا على مخيمات لبنان
للّاجئين الفلسطينيين على مدار السنوات الطويلة الماضية، والتقينا مع العائلات
المتعفّفة هناك.. أصغينا إلى معاناتهم، ونقلنا مأساتهم إلى المجتمع الدولي، وأصبحوا
جزءاً لا يتجزأ من كل حملة.. نلتقي بهم عاماً بعد عام، ننتظرهم وينتظروننا، نشتاق
إليهم ويشتاقون إلينا، ونسألُ عنهم بالاسم أحياناً، لأنّ أواصر الأخوّة بيننا زادت
إلى حدٍّ بعيد، وأصبحنا كالأسرة الواحدة التي تنتظر عودة أحد أفرادها مرةً في كل
عام..
إنّ هؤلاء المُغيّبين بحاجة عاجلة إلى تدخّل منظمات حقوق الإنسان، والمؤسسات الإغاثية، وبحاجةٍ إلى تحرّكٍ عاجل لإخراجهم من هذا الواقع، وتأمين عيشة كريمة لهم حتى يتسنّى لهم ولنا العودة إلى فلسطين
المشهد في مخيمات لبنان لا يُوصَف، فأهلنا هناك يعيشون
خارج نطاق الجغرافية والتاريخ، مُغيَّبون تماماً عن أيّ اهتمام أو دور أو لفتة
كريمة، ولهذا فقد غادرت لبنان مؤخراً وفي القلبِ غصّةٌ لا يعلم بها إلا الله.
وتوجّهنا إلى أهلنا في الجنوب التركي الذين يعانون هم
أيضاً من واقعٍ معيشيّ صعبٍ للغاية، فكثيراً ما كنا نلتقي بأطفالٍ فلسطينيين هناك،
يخرجون لنا من بين أكوام الثلج، كمن يسمع صوتاً للمرة الأولى في حياته، ومنهم
أيضاً من يتمنى أن يذوب الثلج كي يتسنّى له الخروج من خيمته، ومنهم من لم يتناول
الطعام منذ أيام.
ولهذا فإنّ هؤلاء المُغيّبين بحاجة عاجلة إلى تدخّل
منظمات حقوق الإنسان، والمؤسسات الإغاثية، وبحاجةٍ إلى تحرّكٍ عاجل لإخراجهم من
هذا الواقع، وتأمين عيشة كريمة لهم حتى يتسنّى لهم ولنا العودة إلى فلسطين بعد
زوال الاحتلال بمشيئةِ الله، وما ذلك على الله بعزيز..