هي المقولة التي تتأسس عليها أغلب البنى السياسية والفكرية وخاصة
الأيديولوجية للأحزاب والأفراد، حيث يرى المتكلم نفسه مالكا للحقيقة محيطا بها
قابضا على رقبتها. إنها ثنائية الملاك والشيطان أو ثنائية الخير المطلق والشر
المطلق التي تحكم منطق الخطاب السياسي ومنطق تعامل الجماعات الفكرية
العربية مع
بعضها البعض. يدّعي المتكلم أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن مخالفه على ضلال مبين
يوجب إلغاءه والتخلص منه.
الإقصاء والشيطنة والتخوين والتكفير ومحاكم التفتيش الفكري هي المبدأ
السائد في العلاقات بين النخب العربية والجماعات الفكرية ومجاميع التنظير السياسي.
فالإسلاميّ عدو لدود للقومي واليساري والعلماني واللبرالي. أما اليساري فعدو
للإسلامي والقومي واللبرالي وكذا القومي بالنسبة للآخرين. لا توجد في الوعي الفكري
للنخب مكانة لحق الاختلاف أو لمقولات النسبية أو حتى احترام الرأي الآخر، فلا مكان
لمساحة قد تتقاطع فيها الرؤى وتلتقي فيها الأفكار ويتجاوز فيها المتكلم أناه
المنتفخة وكبرياءه السقيم.
حصاد الثورات
ما تقدّم من إقرار هو خلاصة لعشر سنوات من الثورات عرفت فيها الشعوب
العربية واحدة من أخطر التجارب الانتقالية التي تراوحت القراءات فيها بين كونها
مؤامرة أطلسية حسب جماعة المقاومة والممانعة من جهة وأنها من جهة مقابلة مسار ثوري
لم يكتمل كما يرى الآخرون المحسوبون على التيار الثوري خاصة من الإسلاميين ومنتسبي
التيار اليميني المحافظ عامة.
لقد فشلت الثورات وأُجهضت من الداخل لا من الخارج أساسا. لقد فشلت
لأنها لم تكن تملك شروط نجاحها الداخلية وأهمها وجود نخب سياسية وفكرية وثقافية
وأكاديمية قادرة على تحويل القوة الانفجارية الشعبية إلى مشروع انتقالي يقطع
نهائيا مع عودة الدولة الاستبدادية وحكم الفرد الواحد خارج بنية المؤسسات.
لقد فاجأت الثورات النخبَ السياسية والفكرية التي غلب عليها سلوك
التقاتل والتنازع والإقصاء وانقسمت إلى ملائكة وشياطين حسب موقع المتكلم من
المعركة. تقاتلت النخب ولم تنجح في الاتفاق على الحدّ الأدنى الممكن من أجل بناء
مشروع انتقالي قادر على منع تجدد الدكتاتورية وحكم دولة العصابات. اعتبر
الإسلاميون أنفسهم الوحيدين القادرين على خلافة الاستبداد بفضل ثقلهم الشعبي وثقة
الجماهير في نظافة يدهم لكنهم لم يدركوا أن ذلك كله لم يكن كافيا بل لم يدركوا أن
الدولة العميقة كانت أعمق مما يتصورون.
من جهتها اعتبرت قوى اليسار أن الإسلاميين عدوّ لدود لا بد من التخلص
منه ولو كلفهم ذلك التحالف مع الدولة العميقة التي كانوا في الحقيقة أحد أذرعها
الضاربة. أما القوميون والأحزاب الدائرة في فلكهم فقد كُلفوا بمحاربة الثورات
نفسها بعد أن نجحوا في الاندساس داخل التيار الثوري والتحدث باسم الشعب والقوى
الشعبية مستفيدين من شعارات فلسطين رافعين ألوية المقاومة والممانعة.
على صعيد آخر كانت الأحزاب والنخب المستقلة وخاصة منها الليبرالية
المحافظة منشغلة بإعادة التموقع داخل الخارطة السياسية والفكرية الجديدة محاولة
تدارك الحرمان الذي فرضه عليها الاستبداد أو استعادة المواقع التي كانت لها أيام
تحالفها مع الدكتاتوريات نفسها.
إن الإقرار بأن النخب التي تصدرت المشهد خلال السنوات العشر الماضية أو قبلها تتحمل أكبر قسط من المسؤولية في فشل المسار الانتقالي يمثل هو أيضا خطوة في الاتجاه الصحيح لأن محاولة وضع مسؤولية الفشل على المؤامرات الخارجية لا يعدو أن يكون سعيا فاشلا إلى الهروب من المسؤولية التاريخية.
بناء على هذه المنوالات الموزعة على كامل الطيف الفكري والسياسي
العربي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كان فشل الثورات أمرا متوقعا بعد أن وفرت
النخب المتقاتلة فرصة كبيرة لتمكين الخارج من التدخل في مصير الثورات ومساراتها.
لم تكن القوى الدولية قادرة على فرض أجنداتها على الدول العربية أنظمة وشعوبا
ونخبا لولا تفكك الجبهة الداخلية بفعل الصراعات والدسائس والمؤامرات.
إن ما حدث في تونس وليبيا مثلا نموذج صارخ عن فشل النخب السياسية في
تحصين الجبهة الداخلية ومنع القوى الخارجية من توجيه مسار البلاد. في تونس تقاتل
الإسلاميون والقوميون واليساريون واللبراليون والمستقلون أمام الشاشات وعلى الأثير
وتحت قبة البرلمان وفي الكواليس حتى انهار الاقتصاد واستشرت الأزمة وكره الناس
السياسة والسياسيين، وجاء من وضع يده على السلطة كلها وألقى بهم في العراء. في ليبيا
كان المشهد أكثر دموية فقد تمترس كل فريق وراء المدرعات والدبابات منتصرا بهذا
الحليف الخارجي أو ذاك حتى صارت البلاد رهينة القرارات الدولية ولا تعلم إلى أين
سينتهي بها المطاف.
المواسم الجديدة
قد لا يكفي التشخيص المرّ بل إن حالة الجسد المريض قد تستوجب اقتراح
بعض الحلول الممكنة التي قد تقود إلى تبين مخارج من النفق الطويل المظلم. إن
الإقرار بمرارة الحصاد والاعتراف بفشل الطور الأول من مسار التغيير خلال السنوات
العشر الماضية يمثل خطوة أولى على مسار بناء وعي جديد يقر بالمسؤولية الذاتية في
ما آلت إليها تحولات المشهد السياسي والاجتماعي العربي.
ثم إن الإقرار بأن النخب التي تصدرت المشهد خلال السنوات العشر
الماضية أو قبلها تتحمل أكبر قسط من المسؤولية في فشل المسار الانتقالي يمثل هو
أيضا خطوة في الاتجاه الصحيح لأن محاولة وضع مسؤولية الفشل على المؤامرات الخارجية
لا يعدو أن يكون سعيا فاشلا إلى الهروب من المسؤولية التاريخية.
لن تكون الثوراتُ التي هزت المنطقة العربية الأخيرةَ بل إنها موجة من
موجات التغيير التي ستتجدد حتما اليوم أو غدا لأنها سنّة كونية وقانون أزلي يحكم
المجتمعات والشعوب والأمم. لذا فإن المسؤولية الفكرية تلزمنا الاستعداد لهذه
الموجة الجديدة عبر رصد أسباب فشل الموجات السابقة من أجل منع تجدد الانتكاسات
والانكسارات بفعل نفس الأسباب.
إن قانون الملائكة والشياطين الذي يحكم منطق الخطاب السياسي للنخب
العربية يعدّ أحد أهم العقبات في طريق منع انكسار محاولات البناء والتغيير. إنه
المنطق الذي دمّر كل أمل في بناء خطاب سياسي عقلاني مسؤول يقطع مع تطرف
الأيديولوجيا السياسية ويحارب طاعون الأحقاد الشخصية والأوهام الفردية وعنصرية
الأنا المنتفخة التي تحكم عقل المثقف العربي البائس.
"رأيك خطأ يحتمل الصواب ورأيي صواب يحتمل
الخطأ".. هي القاعدة الفكرية الممكنة التي يمكن التأسيس عليها من أجل بناء جيل
جديد من النخب الفكرية القادرة على القطع مع الإرث الموبوء للنخب القديمة التي
ترفض مغادرة المشهد وإن هي غادرته فإنها لن تخلف غير الخراب والدمار كما فعلت
للثورات التي ذهب ضحيتها خيرة شباب الأمة.