في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر
الماضي، وقع
العسكريون في
السودان اتفاقا مع تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت)،
يقضي بخروج العسكر من القصر الرئاسي، وتشكيل حكومة مدنية بالكامل، وكان ذلك
اعترافا من العسكر بأنهم أدركوا أنهم مرفوضون كحكام، خاصة بعد أن انفردوا بالحكم
عقب انقلابهم على الحكم المدني في 25 تشرين أول/ أكتوبر من عام 2021، ولأن وقائع
موثقة ومدونة بالصوت والصورة تثبت أن عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني،
وقائد ذلك الانقلاب ورئيس مجلس السيادة الحالي مجبول على المداهنة والمخاتلة
والحنث بالعهود، فقد ذكرت في مقال لي هنا في "عربي21" في الـ 24 من
كانون الأول/ ديسمبر المنصرم أن البرهان شرع بعد أيام معدودة من مهر ذلك الاتفاق
بتوقيعه، في وضع العديد من العصي في دولاب الاتفاق، عندما قال صراحة إن
"الحديث عن تسوية بين العسكريين والمدنيين ملتبس، وإن الاتفاق سيبقى مفتوحا
لمن يرغب في التوقيع عليه، ويقصد بذلك الإكثار من عدد الفرقاء المتشاكسين سياسيا
في الساحة، بحيث يتعذر الوصول إلى اتفاق نهائي يفضي إلى قيام حكم مدني".
وبمباركة من البرهان نزلت مصر السيسي إلى
الملعب السوداني بهدف خلط الأوراق، لنسف الاتفاق الإطاري، بحيث تعود الأوضاع في
السودان إلى النقطة صفر، وذلك بأن قررت احتضان الكتل شبه المدنية التي ناصرت
انقلاب البرهان، والتي تم استبعادها من الاتفاق، وذلك بهدف التوصل إلى معادلة
جديدة تجعل تلك الكتل جزءا رئيسا من الحكومة المرتقبة، بل إن مصر تقول بعين قوية
إنها لا تحبذ خروج البرهان ورهطه من العسكر من الحكم كليا، بل إن أبواق الإعلام
المصري الرسمي تقول صراحة إنها تعارض عودة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك
الذي أطاح به الانقلاب إلى منصبه، ربما لأنه أول مسؤول سوداني رفيع يرفض الإقرار
بأيلولة مثلث حلايب في شمال شرق السودان إلى مصر.
أكثر ما يقلق البرهان والجنرالات الذين يسبحون بحمده، هو أن تأتي حكومة مدنية وتنتزع الشركات التجارية من الجيش، ومعلوم أن الجيوش الوالغة في الأنشطة التجارية متعددة الأذرع (مصر وباكستان نموذجا) لا تفرط في الحكم المباشر أو عبر وكلاء كي لا يتم إغلاق الحنفية التي ترفد جيوبهم بالملايين.
لا يهم البرهان، الذي هو رأس الدولة في
السودان، أن دولة أخرى (مصر) تتدخل بشكل فج في تفاصيل شأن داخلي، بل إن البرهان
يعرف ويحتضن وكلاء مصر التاريخيين في السودان، ولعله يعرف أن مصر تحتل أرضا
سودانية (مثلث حلايب) منذ عام 1995، ولكن ولأنه هو نفسه يأتمر بأمر مصر، فالراجح
هو أنه يريد التنصل من الاتفاق الإطاري بذريعة أن كيانات مهمة تم استبعادها منه
(سهوا ربما)، وينبغي أن تكون أطرافا فيه، وفي سياق جهده لخلط الأوراق وفتح الأبواب
أمام الخارج، رحب البرهان يوم الأربعاء الماضي في الخرطوم برئيس الحكومة الاثيوبية
آبي أحمد، الذي طفق يجتمع بالقادة السياسيين والعسكريين، مما قد يبيِّض وجه
البرهان، ويبرئه من شبهة أنه سلم رقبته ومصير بلده للحكومة المصرية دون غيرها، بل إن
انصار البرهان باتوا ـ ومن باب تبرير التدخل المصري ـ يقولون علنا إن الاتفاق
الإطاري تم برعاية خارجية، وفي هذا الكثير من الصحة، ولكن شتان ما بين الرعاية
والوصاية، فقد قام الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والسعودية
(يعني من يمثلون فعليا أكثر من 160 دولة) بتيسير التفاوض بين الأطراف، ولم يمارسوا
"الإملاء" عليهم.
أما الدليل القاطع والساطع بأن البرهان
يقول للطرف الثاني في الاتفاق الإطاري "أنا معكم وبريء منكم"، فهو أنه
أعلن قبل أيام انسحابه من الوساطة بين "قحت"، والكيانات المتضررة من
الاتفاق الإطاري، وهم على نحو رئيس لوردات الحروب، الذين أوصلهم اتفاق سلام معتل
ومختل إلى قصور الحكم؛ بينما يقضي الاتفاق الإطاري بأن تتشكل الحكومة المدنية
المرتقبة من التكنوقراط، وليس ان تكون المناصب فيها محاصصة كما يقضي اتفاق السلام،
ومن دواعي الانصاف ان نقول ان البرهان أثبت أنه قادر على "الوفاء"
أحيانا، فقد ساند تجار الحروب أولئك انقلابه الأخير، وما زالوا يشغلون مناصب
سيادية وتنفيذية رفيعة ولا يعصون له أمرا، ولهذا فإنه يتحايل عبر مصر للإبقاء
عليهم حيث هم الآن، كوكلاء له يلجأ اليهم في "ساعة عوزة"، إذا تطلب
الأمر الانقلاب على الحكومة المرتقبة، ولأنه محدود الذكاء وعديم الخبرة السياسية،
فقد نصب البرهان نفسه وسيطا بين قحت والأطراف الرافضة للاتفاق الإطاري، مع أنه ـ
وعلى الورق على الأقل- في صف قحت لأنه بارك الاتفاق وقبل به (وقبل بالتالي إقصاء
من شايعوه وبايعوه).
قبل نحو ثلاثة أسابيع وقف البرهان
خطيبا أمام نفر من ضباط وجنود الجيش قائلا إنه في حال إجراء انتخابات عامة، وفشل
حزب في الحصول على أغلبية تؤهله للحكم، أو حدوث أي انتهاك لـ "الثوابت"
فإن الجيش جاهز لـ "التحرك"، مما يعني النية في القيام بانقلاب مبيَّتة،
وليس سرا أن أكثر ما يقلق البرهان والجنرالات الذين يسبحون بحمده، هو أن تأتي
حكومة مدنية وتنتزع الشركات التجارية من الجيش، ومعلوم أن الجيوش الوالغة في
الأنشطة التجارية متعددة الأذرع (مصر وباكستان نموذجا) لا تفرط في الحكم المباشر أو
عبر وكلاء كي لا يتم إغلاق الحنفية التي ترفد جيوبهم بالملايين.