انتقل
إلى رحمة الله قبل أيام قليلة في بيروت الحاج توفيق حوري (1933-2023)، بعد أن أمضى حوالي تسعين عاما في حركة مستمرة من أجل الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية
ولتطوير المجتمع العربي والإسلامي نحو الأفضل.
والحاج
توفيق حوري لم يكن زعيما سياسيا أو رئيس حزب سياسي أو قائدا شعبيا بالمعنى التقليدي
ولم يكن يحب الإعلام كثيرا، ورغم ذلك فقد افتقده الكثيرون في بيروت والعالم العربي
وشاركوا في نعيه وتقديم التعازي لعائلته ومحبيه، والحديث عن شخصيته المميزة وإنجازاته
الهامة في مسيرته العلمية والنضالية والمجتمعية والفكرية.
فمن
هو الحاج توفيق حوري؟ وكيف استطاع بناء العديد من المؤسسات بإمكانيات ضعيفة، وأي
دور له في نهضة المجتمع؟ وكيف نستفيد من تجربته في مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل؟
الحاج
توفيق هو ابن مدينة بيروت، ولد في العام 1933 بينما كان
لبنان وسوريا تحت الانتداب
الفرنسي وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي، وعاش في مرحلة الصعود الصهيوني والتحضير
لاحتلال فلسطين من قبل الحركة الصهيونية وبدعم بريطاني غربي، ولذلك تشكل وعيه الأول
حول فلسطين وكيفية مواجهة هذا الخطر، ولا سيما بعد حرب 1948 وقيام الكيان الصهيوني
وقتل وتشريد عشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني. ولذا كانت القضية الفلسطينية
همّه الأول سواء من خلال مشاركته ونشاطه في جماعة عباد الرحمن (إحدى أولى الجماعات
الإسلامية في بيروت والتي كان لها دور مهم في المجالات التربوية والاجتماعية
والفكرية). ولاحقا تحول عدد كبير من قادة هذه الجماعة إلى حركة الإخوان المسلمين وأسسوا
حركة الجماعة الإسلامية، وأبرزهم الدكتور فتحي يكن والشيخ فيصل المولوي وإبراهيم
المصري وغيرهم.
وكان
مؤسس جماعة عباد الرحمن الداعية محمد عمر الداعوق (والد زوجة الحاج توفيق)، وأما
والده فهو الحاج راشد حوري، مؤسس جمعية البر والإحسان وأحد قادة العمل العربي والإسلامي
في بلاد الشام، وهذه الجمعية كان لها الفضل في تأسيس جامعة بيروت العربية في بيروت
ومؤسسات تربوية أخرى.
وفي
هذه الأجواء تطور وعي الحاج توفيق حوري بين الاهتمام التربوي والاجتماعي والسياسي،
وبعد دراسته في مدارس المقاصد والجامعة الأمريكية في بيروت والعلوم الاقتصادية في لندن
عاد إلى بيروت لمتابعة النضال من أجل فلسطين، فعمل لدعم الشعب الفلسطيني ونضاله وأسس
حركة الطوابير لدعم الشعب الفلسطيني. ومن ثم كان له دور مهم في دعم حركة فتح
وكتابة بيانها الأول، وتحويل مجلته فلسطيننا إلى مجلة ناطقة باسم الحركة، ووفّر
للفلسطينيين والمناضلين من أجل فلسطين أماكن تدريب في شمال لبنان بعد أن أقام هناك
مشاريع تنموية ومزارع سمك.
وقد
تحدث الكثيرون عن الدور الفلسطيني والنضالي للحاج توفيق حوري، ولكنْ هناك وجوه أخرى
في حياته وشخصيته ينبغي تسليط الضوء عليها، والتي تركز على بناء المؤسسات وتطوير
الطاقات وتنمية ثقافة الوقف، وكيفية الاستفادة من الطاقات المتفرقة والفردية
لتحويلها إلى مؤسسة متكاملة وتيار مؤثر في المجتمع.
فمن
خلال دوره في جمعية البر والإحسان وجامعة بيروت العربية ولا سيما في فترة
السبعينات بدأ يستشعر المخاطر التي تصيب المجتمع العربي والإسلامي، سواء بسبب
الحروب والصراعات أو بسبب الهجمة الغربية والإعلامية، ولذلك كان التركيز الأول له
على ضرورة جمع المعلومات وتحليلها وتشكيل وعي جديد وإصدار التقارير العلمية.
ولذلك
وإلى جانب عمله كأمين عام لجامعة بيروت العربية، بدأ في مكتبه المتواضع تأسيس مركز
خاص للأرشيف والمعلومات، الذي تحوّل إلى أحد أهم مراكز المعلومات المتخصصة بالعالم
الإسلامي والتابع لجامعة الإمام الأوزاعي. ومن ثم أسس المركز الإسلامي للتربية،
وبدأ بإصدار التقرير الإسلامي والذي كان يتضمن دراسات ومعلومات هامة، وكل ذلك بإمكانيات
متواضعة، لينطلق لاحقا لتأسيس كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية والتي
تحولت إلى جامعة الإمام الأوزاعي، وكل ذلك بإمكانيات متواضعة وقدرات محدودة ومن
خلال زكاة العلم وعمل التطوع.
لكن
الجانب الأهم في دوره ولا سيما في مرحلة الثمانينات من القرن الماضي وفي ظل نمو
العمل الإسلامي، كانت دعوته لاستعادة ثقافة الوقف وبناء المؤسسات الوقفية وإصدار
دراسة خاصة في سبيل ذلك، وبدأ بتنفيذ هذا النموذج الذي يدعو إليه، وكان هذا ردا
على التضييق الذي كانت تتعرض له بعض الجمعيات والمؤسسات الإسلامية ولربط هذه
المؤسسات بالجانب الشرعي والمحاكم الشرعية.
كان
الحاج توفيق شخصية استشرافية يدرس آفاق المستقبل ويضع الخطط من أجل المواجهة، وكان
شخصية وحدوية وعملية ولم يكن يحب التنظير وإطلاق المواقف السياسية، لكنه كان يطبّق
الأفكار من خلال تجربته وعمله، ولذلك تحولت جامعة الإمام الأوزاعي والمؤسسات التي أقامها
إلى مؤسسات وحدوية تقدم
الفكر الإسلامي الوحدوي رغم الصراعات المذهبية والطائفية.
وعلى
الصعيد الأكاديمي كان يدعو دائما من أجل ربط الفكر الإسلامي بالقضايا والتحديات
المباشرة والواقعية، سواء كانت فكرية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، لأنه
يعتبر أن مسؤوليتنا مواجهة هذه التحديات وتقديم الحلول لها، بدل الغرق في الصراعات
والخلافات المذهبية أو الحزبية أو العودة إلى القضايا التاريخية والإشكالية.
كان
الحاج توفيق حوري قادرا على تحويل الإمكانيات الضعيفة والقليلة إلى مؤسسة فاعلة
ومؤثرة، وهذا ما فعله في جامعة الإمام الأوزاعي التي خرّجت آلاف الباحثين والعلماء
والمفكرين وكان نموذجا للعامل في سبيل الإسلام والمسلمين بصمت وهدوء.
كان
يوجّه الملاحظات والانتقادات وينشر الوعي دون تجريح أو صدام، هو نموذج مهم للداعية
الإسلامي في عصرنا اليوم، وكم نحتاج إلى أمثاله بوعيه وبصيرته واستشرافه، وكم
نحتاج لدراسة تجربته والاستفادة منها اليوم لمواجهة مختلف التحديات.
رحمك
الله يا حاج توفيق، ووفق العاملين في المؤسسات التي ساهمت في تأسيسها وإطلاقها
لمتابعة هذه المسيرة الوحدوية والعملية لنهضة المجتمع العربي والإسلامي.