في بداية الانقلاب في
مصر، طرح عليّ أحد الزملاء سؤالاً عن
موقف
شخصيات مثل فؤاد سراج الدين، ومصطفى كامل مراد، وإبراهيم شكري، من الانقلاب
العسكري، لو كانوا على قيد الحياة!
وكان جوابي أنهم لم يكونوا ليدخلوا في اشتباك مع
الانقلاب لكنهم في الوقت نفسه لن يكونوا طرفاً في حملة الإبادة ضد الإخوان، وكانوا
سيحاولون رأب الصدع، والقيام بدور الوساطة، في حدود ما هو متاح، وما تقبل به أطراف
الصراع السياسي!
ورأيي أن من أزمات الثورة المصرية، وليس فقط من
الإشكاليات بعد الانقلاب، أن مصر تفتقد إلى الشخصيات الكبيرة، التي ليست طرفاً في حالة
الصراع السياسي التي بدأت بعد الثورة، واستمرت بعد فوز الرئيس محمد مرسي. فمصر
تفتقد إلى من يمكنهم القيام بدور كبير العائلة، أكثر من حاجتها إلى زعامات سياسية
غير مكتملة النمو، وتفتقد للنضج. وكنت وما زلت أرى أن الدور المناسب الذي كان يمكن
للإخوان أن يلعبوه هو ملء فراغ غياب "كبير العائلة"، لا الفراغ في
الحكم، لكن مكلف الأيام ضد طباعها، متطلب في الماء جذوة نار!
من أزمات الثورة المصرية، وليس فقط من الإشكاليات بعد الانقلاب، أن مصر تفتقد إلى الشخصيات الكبيرة، التي ليست طرفاً في حالة الصراع السياسي التي بدأت بعد الثورة، واستمرت بعد فوز الرئيس محمد مرسي. فمصر تفتقد إلى من يمكنهم القيام بدور كبير العائلة، أكثر من حاجتها إلى زعامات سياسية غير مكتملة النمو، وتفتقد للنضج. وكنت وما زلت أرى أن الدور المناسب الذي كان يمكن للإخوان أن يلعبوه
فالإخوان هم في الأصل والفصل جماعة سياسية، وأي كلام
يمكن أن يقال الآن هو ضرورة فرضتها سياسة الأمر الواقع، سرعان ما يتم تجاوزها إذا
سنحت الفرصة لذلك، ليتغير الشعار كما تغير من قبل، فبعد سنوات طويلة من القول نحن
نريد أن نُحكَم بشرع الله، صار الواقع نحن نريد أن نحكم ونرى متى يكون مناسباً
تطبيق شرع الله. ولم ينس الإمام المؤسس للنحاس باشا أنه حال بينه وبين عضوية
البرلمان، مع أنه أنجز الهدف المعلن من سعيه لخوض الانتخابات وهو إلغاء الترخيص
لبيوت الدعارة!
مصر كلها هناك:
عندما دُعيت للمرة الأولى لحضور حفل إفطار الجماعة في
أول شهر رمضان بعد الثورة، كتبت تقريراً بعنوان "مصر كلها كانت هناك"،
ولم أُدعَ لحضور افتتاح المقر الجديد للجماعة، لكني رأيت أن مصر كلها هناك، بمن في
ذلك خصومها، فحضر رئيس حزب التجمع رفعت السعيد، كما حضر اللواء فؤاد علام، الضابط
السابق المتهم بتعذيبهم منذ الاعتقالات الأولى في عهد عبد الناصر، وهم من وجهوا له
الاتهام بقتل القيادي في الجماعة ومرشدها
السري كمال السنانيري!
وهذا الاعتراف يمثل خطوة كان يمكن البناء عليها، لكن كلٌ
ميسّر لما خُلق له، والسياسة جزء من تكوين الجماعة، ولم تُخلق للقيام بدور
"كبير العائلة" أو تزاحم عليه، مع أنه ليس دوراً هيناً. وقد ظل السادات في
سنوات حكمه يعيد ويزيد في أنه "كبير العائلة"، أو "كبير
العيلة"، لكن أحداً لم يقر له بذلك، لأنه أراد أن يكون كذلك بحكم موقعه
رئيساً للجمهورية، وهما لا يجتمعان، فالكبير في النسق الاجتماعي التقليدي موقع لا
يُطلب، ولكن من تؤهله لذلك مكانته، المستمدة من قبول المجتمع به، وقدرته على الحل
والربط، وعدم الانحياز إلا للحقيقة، ولهذا ورد في الأثر من ليس له كبير يشتري له
كبيراً!
السيسي ليس السادات، والأخير هو ابن المجتمع المصري، عاش
في هذا المجتمع هارباً ورئيساً، بينما السيسي حدثت بينه وبين هذا المجتمع عزلة
شعورية مبكراً، ومنذ أن انخرط في الدراسة العسكرية ثم السلك العسكري، قبل أن يتم
الخامسة عشرة من عمره، ولم يُروَ عنه أنه كان يزور قريته في محافظة المنوفية. ومن
الملاحظ أنه خارج الأسرة النووية لا علاقة تربطه بالأسرة الممتدة، وإذا كان مبارك
مثالاً للرئيس الموظف، فقد كان محيط حكمه فيه من الوجهاء والأعيان ما يكفي للحفاظ
على هذا الحكم، قبل أن تتفكك دولته في السنوات العشر الأخيرة، بعد أن تخطى جمال
مبارك الرقاب، لتكون دولته قريبة الشبه بالدولة القائمة الآن، ويحل أحمد عز محل
كمال الشاذلي، وتحال القيادات التاريخية بالحزب في المحافظات للاستيداع لصالح
شخصيات أكاديمية لا قيمة لها ولا وزن في محيطها الشعبي!
مع هذا التفكك الذي أصاب الحياة السياسية في مصر حكماً ونخبة، فإن البحث عن كبير للعائلة المصرية هو واجب الوقت، لمرحلة ما بعد السيسي، لأن الطبيعة الخاصة لحكمه لا يقدم فيها ولا يؤخر وجود هذا الكبير، وما يشغلني الآن، هو ماذا لو غاب السيسي عن المشهد، وبين الفصائل السياسية المختلفة ما صنع الحداد، وربما لم ينجُ سوى عدد قليل من الشخصيات من مرحلة الصراع السياسي؟
ومع هذا التفكك الذي أصاب الحياة السياسية في مصر حكماً
ونخبة، فإن البحث عن كبير للعائلة المصرية هو واجب الوقت، لمرحلة ما بعد السيسي، لأن
الطبيعة الخاصة لحكمه لا يقدم فيها ولا يؤخر وجود هذا الكبير، وما يشغلني الآن، هو
ماذا لو غاب السيسي عن المشهد، وبين الفصائل السياسية المختلفة ما صنع الحداد،
وربما لم ينجُ سوى عدد قليل من الشخصيات من مرحلة الصراع السياسي؟ فمن يجمع المصريين
على كلمة سواء؟!
إذا حدث وصار موقع الرئيس شاغراً بشكل طبيعي، فقد تعيد
المؤسسة العسكرية إنتاج نفسها، استغلالاً لهذه الفرقة بين القوى السياسية، تماماً
كما حدث بعد الثورة، وإن كنت أعتقد أنها ستكون أكثر زهداً في الحكم بعد هذه
التجربة الأليمة، وسواء فُتحت شهيتها أو لم تفتح فإن وجود "كبير العائلة
المصرية" أمر لا غنى عنه، ليسدد ويقارب!
أما إذا حدث الفراغ لأسباب أخرى، فإن وجود شخصية لا
يختلف حولها الناس، ستكون صمام أمان، لبلد، ووطن، وأمة!
الشيخ الطيب هو الحل:
في هذا الصباح كنت أقلب في "فيسبوك"، عندما
عثرت على صورة للشيخ
أحمد الطيب، شيخ
الأزهر، في افتتاح معهد لتعليم اللغة العربية
لغير الناطقين بها، فأوحت لي الصورة بفكرة هذا المقال، وإن كانت فكرة "كبير
العائلة المصرية" مستقرة في ذهني منذ فترة ليست بالقصيرة، فالشيخ فضلا عن أنه
سيد في قومه، فإن شعبيته في الشارع لم تتحقق لمن يشغل هذا الموقع الرفيع منذ الشيخ
عبد الحليم محمود، ومثله في استقامته كانت شعبيته على مستوى النخبة الدينية مثل
الشيخ جاد الحق على جاد الحق ولم تتعدها إلى مستوى الزعامة الشعبية، لطبيعة كونه
عمل بالقضاء، على العكس من الشيخ الطيب، ابن الأقصر وابن ساحة العائلة!
ودائما يضرب البعض المثل في الاستقلال بالشيخ جاد، لا سيما
الأجيال الجديدة، التي تستمد معلوماتها التاريخية من السوشيال ميديا، في حين أنهم
يذهبون لاصطياد هذا الموقف أو ذاك في مسيرة الشيخ الطيب الطويلة ليكونوا ضده!
ولأنهم من الأجيال الجديدة، فلم يعرفوا أن الشيخ جاد
الحق تنقل بين المواقع الدينية العليا، ومن مفتي الديار المصرية، إلى وزير
الأوقاف، قبل أن يصبح شيخاً للأزهر، وهو قبل أن يكون في موقعه الأخير، كان في
الخطاب العام يُحسب على شيوخ السلطة، ولم يكن بعيداً عن تأييد قانون الأحوال
الشخصية المسمى بقانون جيهان السادات، لكنه عندما عُين شيخاً للأزهر استشعر أهمية
الموقع وقيمته الكبرى، فتصرف على هذا المستوى، وكذلك الشيخ أحمد الطيب.
إن دراسة التحولات في شخصية من يتولون المناصب الكبرى تكتشف
أنها تحولات مثيرة للغاية، وهناك استثناءات كان الشيخ محمد سيد طنطاوي يمثلها في
عدم التغيير، وعلى مستوى آخر كان الدكتور نعمان جمعة يمثل الجانب السلبي فيها،
فالرجل الذي شغل موقع عميد كلية الحقوق في جامعة القاهرة، فقد اتزانه لمجرد أن
استشعر أنه بانتخابه رئيساً لحزب الوفد يجلس على نفس الكرسي الذي جلس عليه
الباشوات: سعد زغلول، ومصطفى النحاس، وفؤاد سراج الدين، فارتج عليه. ولم تكن إدارته
جيدة وكان يخبط خبطاً عشوائياً، وانتهى الأمر إلى الانقلاب عليه وطرده من رئاسة
الحزب بمعاونة أطراف في السلطة؛ صفوت الشريف وحبيب والعادلي!
الطيب والسيسي:
وعند المقارنة الموضوعية، فإن الشيخ الطيب أفضل من
الشيخ جاد الحق، لأن الأخير لم يواجه بأي تحديات، لقد قرر أن يكون على مستوى
الموقع الرفيع، واستشعر معنى أن يكون على قمة هذه المؤسسة العريقة. وكان مبارك لا
يطلب منه ما يخالف قناعاته، أو يدخل معه في مناكفات، فما لا يساعده فيه شيخ الأزهر
يطلبه من المفتي ووزير الأوقاف، بل وعندما هاجمه فرج فودة بمقال حط فيه من قدره،
في جريدة حزب التجمع اليساري "الأهالي"، فإن مبارك من خاطب بنفسه رئيس
الحزب خالد محيي الدين، الذي ذهب في موقفه بعيداً فتم وقفه عن الكتابة كلية!
الشيخ الطيب فإنه يتعرض لمناكفات لا تتوقف، فالسيسي يريد أن يفرض قناعاته الشخصية باعتبارها ديناً، وفي نفسه شيء من تحصين موقع شيخ الأزهر، ويدفع به للاستقالة لكن دون جدوى. ثم إنه العهد الذي تم إغراء غلمان المرحلة به فوجهوا الإهانة للشيخ في منابرهم الإعلامية
أما الشيخ الطيب فإنه يتعرض لمناكفات لا تتوقف، فالسيسي
يريد أن يفرض قناعاته الشخصية باعتبارها ديناً، وفي نفسه شيء من تحصين موقع شيخ
الأزهر، ويدفع به للاستقالة لكن دون جدوى. ثم إنه العهد الذي تم إغراء غلمان
المرحلة به فوجهوا الإهانة للشيخ في منابرهم الإعلامية، وعندما يحصل على حكم واجب
النفاذ ضد أحد الصحفيين، لا يُسجن، بل ويسافر مع الوفد المرافق للسيسي نفسه، في
إشارة لا تخطئ العين دلالتها بأننا نحمي من أهانك، ثم يلغى الحكم من محكمة النقض،
بشكل مخالف للقانون، وتتم ترقية هذا الصحفي ليكون رئيساً لتحرير واحدة من الصحف
المملوكة للشركة المتحدة!
ومع كل هذا فإن الشيخ لا يخضع لهذا الابتزاز، ولا يتوقف
عن الجهر بحكم الدين وإن خالف رأي الجنرال، والذي تعد مشكلته الكبرى أنه ليس
مبارك، ولكنه يتصرف على أنه نبي، أو ولي، فتارة هو نبي الله سليمان، وتارة العبد
الصالح، وهو يعتبر نفسه فقيه الأمة ومجدد الدين، ويحول الشيخ الطيب بينه وبين أن
يذهب بعيداً في هذا الاتجاه!
إننا عندما نذكر الشيخ أحمد الطيب لا نجد سوى التذكير
بأنه كان في مشهد الانقلاب، وهو موقف أخذناه عليه في حينه، لكننا نقر بأننا لم
نستمع له في هذه الليلة الليلاء، لقد اكتفى الجميع ببيان السيسي، في حين أن خطاب
شيخ الأزهر كان تاريخياً بمعنى الكلمة، إنه لم يدعُ لهذه الإجراءات، ولم يصفق لها،
فهي عنده تمثل أخف الضررين، وهو يشاهد اقتتالاً في شوارع مصر بين الأطراف كافة، ثم
إنه أدان جريمتي رابعة والحرس الجمهوري!
ولا ننسى أن معظم الذين دعوا لمشهد الانقلاب، جاءوا على
أساس أن سعد الكتاتني رئيس حزب الإخوان سيكون ضمن الحاضرين، ومعلوم أنه عُرضت
الوزارة على الدكتور باسم عودة. وفي النهاية يُعذر المرء باجتهاده، وهو لم يكن
البرادعي الذي تآمر على المسار، ولم يكن مطلوباً من الشيخ أن يتحول إلى ثائر يهتف
في الشوارع: "مرسي رئيس ومعاه الشرعية"!
الجنرال الذي لم يعش في مجتمعه، لا يمكنه أن يستوعب شخصية مثل الشيخ أحمد الطيب، الذي يعتز بمكانته وبشخصه، ويعرف معنى أن يكون شيخاً للأزهر الشريف، وما كان لمثله أن يجيد التعامل مع شخصية كهذه، وقد جاء من تربية مختلفة لم تعرف إلا أن تكون رتبة أدنى فتسمع وتطيع، أو رتبة أعلى فتُسمع وتُطاع
دعك من حالة المراهقة السياسية التي لا يزال يعيش فيها
البعض، فالذين يقفون عند هذه الصورة لا يبرحونها هم الذين يريدون أن تستمر تداعياتها
ربما ليوم يبعثون، ولا يجوز لوطن أن يكون أسرى لدى هؤلاء!
إن الجنرال الذي لم يعش في مجتمعه، لا يمكنه أن يستوعب
شخصية مثل الشيخ أحمد الطيب، الذي يعتز بمكانته وبشخصه، ويعرف معنى أن يكون شيخاً
للأزهر الشريف، وما كان لمثله أن يجيد التعامل مع شخصية كهذه، وقد جاء من تربية
مختلفة لم تعرف إلا أن تكون رتبة أدنى فتسمع وتطيع، أو رتبة أعلى فتُسمع وتُطاع،
فليس هو السادات الذي يمكنه الوصول إلى مفاتيح هذه الشخصية (الطيب). انظر كيف يمكن
لواحد مثل محمد بن زايد أن يستوعب مثل هذه الشخصية، والذي لا يعني استيعابه لها أنه
يضعه في جيبه، ولا يتخذ موقفاً حاسماً برفض ما يسمى بالديانة الإبراهيمية، لكن ابن
زايد أعقل منه أن يطلب منه تأييداً، أو يغضب لهذا الهجوم على مشروعه وديانته!
والحال كذلك، فليس هناك دور في السياسة يمكن أن يقوم به
الشيخ الطيب في وجود السيسي، لكن الدور سيكون بعد هذه المرحلة البائسة، إن أطال
الله في عمره وحفظ له عافيته!
والشيخ قام بأدوار مهمة لرأب الصدع بعد الثورة، وفي فترة
حكم الرئيس محمد مرسي، لكن كان كل حزب بما لديهم فرحون.
فرجه قريب!
twitter.com/selimazouz1