* ليس الإنسان وحده من ينكشف هشّا أمام حدث كهذا. كل شيء
بدا بلحظتها من جنس الورق، وحتى الحديد أظهر نفسه معدنا تافها. تحكي بعض الخرافات أن
الأرض محمولة على ظهر حوت يسبح في الماء. وربما يكون في خرافة كهذه شيء من الحقيقة، فالزلزال يُذكّرنا بما ننساه دوما؛ أننا نطفو على الأرض ولا نقف عليها،
وما يبدو صلبا تحتنا ليس سوى تراب عائم، وأن هناك عالَما بحريا أسفلنا ماؤه من
المعادن المصهورة. وعلى سطح هذا البحر الخفيّ وصفائحه الطافية، لسنا سوى تفصيل
تافه لا يعني بطنَ الأرض بشيء، وقد يُطاح بنا بأي لحظة.
* يقال بأن الزلازلَ تُسّوي الأرض، ولا أعرف تعبيرا أكثر كذباً من
هذا. لم يُسوِّ
الزلزال الأخيرُ شيئا، بل زاد في تباين كل شيء، وعمّق الفوارق حيثما
ضرب، وأكّد أن قوة الدولة تأتي لك بمشاعر أكثر ومعدات حفر أكبر. ليس الأمر وقْفاً
على فارق المعونة بين جانبي الحدود، التركي والسوري، وإنما حتى ضمن الحدود
الواحدة. في حلب، صمدت أغلب مباني الأحياء الميسورة، وتركّز الخراب في الأحياء
الشعبية والفقيرة (الشعّار والفردوس وبستان القصر وصلاح الدين)، والأمر نفسه حصل
أينما وصلت بؤرة الهزة. حتى الطبيعة، بالتواطؤ مع الظلم وانعدام العدالة، تجور على
الفقراء في بطشها، والغِنَى -الذي لا يشتري السعادة- قادرٌ على الأقل أن يشتري
بيوتا أكثر أمناً.
لم يُسوِّ الزلزال الأخيرُ شيئا، بل زاد في تباين كل شيء، وعمّق الفوارق حيثما ضرب، وأكّد أن قوة الدولة تأتي لك بمشاعر أكثر ومعدات حفر أكبر. ليس الأمر وقْفاً على فارق المعونة بين جانبي الحدود، التركي والسوري، وإنما حتى ضمن الحدود الواحدة
* عاد موضوع العقوبات الأمريكية لواجهة الأحداث، لا بوصفه وجهاً
واحدا من مأساةِ
سوريا، بل رمزاً لوجوه كثيرة فيها. واحدةٌ من أردأ السجالات هي تلك
التي لا يبوح فيها المتحاورون برأيهم الفعلي ويضطرون للفجور في الكلام حتى يتجنبوا
قوله صراحةً. ويحقّ للمؤسسة الأمريكية -في هذا الإطار- أن تفخر بعقوباتها كمثل
فخرِها بأسلحة دمارها الشامل، فلا شك بنجاعتها في الأذية الشاملة للمجتمعات، تجربة
في إثر تجربة.
لقد تطوّرت العقوبات مع الوقت، حتى وصلْنا اليوم إلى خرافة
العقوبات الذكية، التي تصيب الحاكم في عينه وتَحِيد عن المحكوم في عيشه. لا يختلف
الأمر كثيرا عن خرافة الصواريخ الذكية، والتي يعرف أبناء منطقتنا أكثر من سواهم أي
ذكاء أعمى فيها. من يقودون حملات الدفاع عن العقوبات يعرفون هذا تماما، لكن هدفهم
يصعب التصريح به: تهشيم ما تبقى من المجتمع -فوق كل التهشيم الذي حل به- بوصفه
سبيلا لتقويض النظام. هكذا، تكسب مادةً إعلامية يومية عن فشل النظام وتجارة
الكبتاغون ومعاناة الناس؛ الناس الذين تَبكيهم في تقريرك المصور بينما تريد لمأساتهم
أن تتعمق بوصفها مكسبا دعائيا في مشروعك السياسي المعطَّل.
رفع الحصار مكسب سياسي واقتصادي للحكومة السورية بدمشق، لكنه قبل ذلك متنفس للسوريين؛ أقول "السوريين" وليس "سكان مناطق سيطرة النظام" ولا "سكان مناطق سيطرة النصرة" كما صار معجم الدعاية السياسية الوضيع يستوجب هذه الأيام
* لا يستطيع سياسيٌّ تكلّمَ كثيرا عن حصارات التجويع التي مارستها سلطة
بشار الأسد أبشع ممارسة؛ أن يصفق علنا لحصارٍ تجويعي آخَر ينال بلدا بأكمله هذه
المرة. لهذا السبب، ترى كذبا كثيرا وفجورا في الكلام لأن الهدف الفعلي لا يصلح أن
يقال. تحت رحى هذه العقوبات، لا تزداد المنظومة التي يقودها حاكم دمشق -المسؤول
الأول عن هذه المأساة- إلا فسادا وعدوانا على حياة الناس، ويغتني المهربون وتنتعش أعمالهم،
ليُعاد تدوير هذا كلِّه تبريرا للإمعان في العقوبات. لا شك أن رفع الحصار مكسب
سياسي واقتصادي للحكومة السورية بدمشق، لكنه قبل ذلك متنفس للسوريين؛ أقول "السوريين"
وليس "سكان مناطق سيطرة النظام" ولا "سكان مناطق سيطرة
النصرة" كما صار معجم الدعاية السياسية الوضيع يستوجب هذه الأيام.
* ليس الحديث هنا خاصا بالمعارضة السياسية السورية، فأل التعريف لا
تصلح مع هذا السديم السياسي الواسع الذي أقصِيت خير عناصره وغُلّبت عليها أخرى بتمويل
وإرادة دولية. ولا شك أن هذا التمسك الملحمي بمسألة العقوبات يحكي عن إفلاس سياسي لقيادات
لم تعد تملك إلا أن تتوسل غيرها أن يحاصر لها خصمها (حتى لو حاصر مجتمعَها
بالمعية). ولعله ذات الإفلاس الذي يجعل المشهد السوري اليوم مزدحما بالإعلاميين،
ومُقفرا من أهل السياسة ورجال الدولة.