عندما تم الانقلاب العسكري الذي أوصل الجبهة الإسلامية في السودان إلى
الحكم في منتصف عام 1989، بسلاسة وسهولة، سك سدنة الانقلاب الذي جعل من عمر البشير
رئيسا شعار "أمريكا دنا عذابها"، باعتبار أن السودان سيصبح القطب الدولي
القوي الأوحد، واستوجب ذلك إدراج روسيا في قائمة المبشرين بالعذاب، ومنذ سنوات،
ومن منطلقات التفكير الرغبوي، يتحدث كثيرون عن أن الصين ستزيح الولايات المتحدة من
صدارة المشهد العسكري والاقتصادي في العالم، خلال عقود قليلة.
وصحيح أن الصين بصدد التحول إلى عملاق اقتصادي، ولكن صحيح أيضا أن
التحول المرتقب ينجم عن أنها صارت قوة استعمارية ناعمة، تنهش لحوم شعوب الدول الإفريقية
وتنهب ثرواتها، بشراء ذمم الحكام الفاسدين، وبنفس أساليب صندوق النقد والبنك
الدوليين: تقديم قروض مليارية مقرونة بشروط تعجيزية، وحين يأتي وقت السداد ولا
سداد، يبدأ إملاء الشروط ووضع اليد على موارد ضخمة تجرد البلد المدين من فرص
استشراف المستقبل.
إن الولايات المتحدة بلد ديمقراطي فعلا وقولا، ويتمتع مواطنوه بالكثير من الحقوق، ولكنها كديمقراطية إسرائيل: الحريات كافة لنا، وليذهب الآخرون إلى الجحيم، ولكن ما نجحت فيه الحكومات الأمريكية المتعاقبة هو أنها استغلت وسائل الإعلام لترويض وتدجين بل وتغييب الشعب
وفوق هذا كله فالصين محكومة بنظام "اشتمالي" قمعي باطش،
والاشتمالية مصطلح سككته وأحوز حق امتلاكه "فكريا"، وصفا لكل نظام حكم
يجمع بين الاشتراكية والرأسمالية في إطار شمولي، والحزب الشيوعي الحاكم في الصين لقرابة
ثمانين سنة يمثل أقلية، والتنور الصيني يفور بين الحين والآخر رافضا هذا الشكل أو
ذاك من أشكال الحكم، وخلال الأشهر القليلة الماضية أظهرت شرائح واسعة من الشعب
الصيني رفضها النهج القمعي لفرض إجراءات لتطويق موجة جديدة من الكورونا، فانحنت
الحكومة للعاصفة، ولكنها مرشحة لزوابع رعدية قد تتسبب في تسونامي يزلزل عرش الحزب
الحاكم، ومن ثم فالصين مرشحة لزلازل شعبية بعيدة الأثر، تفقد عندها قوة اندفاعها
الاقتصادية والعسكرية، وقد تصبح عندها نمرا من ورق.
وبالمقابل فإن الولايات المتحدة بلد ديمقراطي فعلا وقولا، ويتمتع مواطنوه
بالكثير من الحقوق، ولكنها كديمقراطية إسرائيل: الحريات كافة لنا، وليذهب الآخرون إلى
الجحيم، ولكن ما نجحت فيه الحكومات الأمريكية المتعاقبة هو أنها استغلت وسائل
الإعلام لترويض وتدجين بل وتغييب الشعب، بل إن الآلة الإعلامية الأمريكية الضخمة
نجحت في تصدير الثقافة الأمريكية إلى مختلف أرجاء العالم، ثم جاء الأنترنت ووضع
كنوزا هائلة من المعلومات في جراب الحاوي الأمريكي، وصارت اللغة الإنجليزية هي لغة
المعلومات الأولى، ونسي الناس أو كادوا أن تلك اللغة تخص أصلا أهل أنجلترا.
25% من الأمريكان اليوم لا يعرفون من هي
كمالا هاريس (نائبة الرئيس)، ولكن أكثر من 95% منهم يعرفون الكثير المثير عن عائلة
كارداشيان، بدرجة أن مجلتي فوغ وإنسايدر تقولان عن تلك العائلة إنها الأكثر نفوذا
في العالم، بينما كل ما هناك هو أن نساء تلك العائلة ظللن يظهرن طوال 14 سنة في
البرامج المسماة تلفزيون الواقع، وهن يعرضن تضاريس أجسادهن، ويتناولن النبيذ ويقمن
الحفلات في بيوت فخمة البناء والأثاث.
هناك اليوم ثلاث قنوات تلفزيونية هي أكسيس هوليوود، وتي أم زي،
وإنترتينمنت تونايت، متخصصة فقط في سير المشاهير: ماذا يأكلون ويشربون وكيف يسكنون
وينامون ويتناسلون، بينما هناك 1884 محطة تلفزة أخرى ومعها 12600 محطة إذاعية تلهث
وراء المشاهير، أو تصنع مشاهير خاصين بها في الولايات التي تنطلق منها، بدرجة أن
الطب النفسي في أمريكا يقول إن ربع الشعب الأمريكي يعاني من متلازمة عبادة
المشاهير Celebrity Worship Syndrome CWS.
ويحلو للأمريكان الزعم أنهم أكثر شعوب الغرب تدينا، ولكنه أيضا كتدين
الإسرائيليين: اهتمام بقشور التدين ومظاهره الخارجية ثم إتيان كل ما ينهى عنه
الدين؛ أي دين (مثلا: غولدا مائير أشهر رؤساء الحكومة الإسرائيلية وموشيه دايان أشهر
وزير دفاع إسرائيلي كانا ملحدين، ومع هذا كانا يقولان إن إسرائيل هي أرض الميعاد
التي وعد بها الله قوم موسى).
ما يقلق التربويين والأطباء النفسانيين الأمريكان هو أن عبادة المشاهير جعلت الملايين من الشباب ميالين إلى الأمور المادية والإنفاق البذخي، بحسبان أنهم بذلك يجارون معبوديهم، كما جردت ذلك الجيل من الطموح المهني لأنه يريد أن يقتدي بهذا المطرب أو الممثلة او اللاعب الذي حقق المجد والشهرة وامتلك الملايين، ولا ينظر الى المحاسبين والمديرين الذين يبنون ويحرسون تلك الأمجاد والثروات.
ثم جاء عصر تويتر وانستغرام وفيسبوك، وصارت متابعة نجوم الطرب
والرياضة والتمثيل فيها ضربا من العبادة في الولايات المتحدة، والغالبية تتوهم أن
ذلك يجعلها في حال علاقة حقيقية مع هذا النجم أو ذاك، وقبل أشهر دفعت مجلة
فاراياتي أكثر من أربعة ملايين دولار نظير الفوز بحق التقاط صورة لمولود لنجمة
تلفزيونية، وعاد العدد الذي تم فيه نشر تلك الصورة على المجلة بأكثر من 24 مليون
دولار، بعد تهافت الشركات على نشر إعلانات في ذلك العدد "المميز"، ومن
يريد لسلعة رواجا في الولايات المتحدة يقرنها بشخصية مشهورة عند الإعلان عنها، بل إن
"النجوم" تايلر سويفت وجنيفر لوبيز وهالي بيري وجاستن بيبر ومادونا
وشانيا توين جمعوا الملايين من عطور تحمل أسماءهم، بينما هي أقل نفاذا من عطور
فرنسية من الدرجة الثانية؛ أما إذا قالت مقدمة البرامج الأمريكية المشهورة أوبرا
وينفري إن كتابا ما يستحق القراءة، فإنه يتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعا في جريدة
نيويورك تايمز خلال أسابيع، ويعتبر جمهور الكتب تلك الجريدة المرجع الثقافي، الذي
لا يأتيه الباطل من قُبُل أو دُبُر.
ما يقلق التربويين والأطباء النفسانيين الأمريكان هو أن عبادة
المشاهير جعلت الملايين من الشباب ميالين إلى الأمور المادية والإنفاق البذخي،
بحسبان أنهم بذلك يجارون معبوديهم، كما جردت ذلك الجيل من الطموح المهني لأنه يريد
أن يقتدي بهذا المطرب أو الممثلة او اللاعب الذي حقق المجد والشهرة وامتلك الملايين،
ولا ينظر الى المحاسبين والمديرين الذين يبنون ويحرسون تلك الأمجاد والثروات.
وهذا عين ما تريده الحكومات الأمريكية: ينصرف الشعب أو غالبه إلى
عبادة أصنام هوليوود والملاعب، وينصرف أهل الحكم إلى دعم شركات إنتاج السلاح
بإشعال الحروب هنا وهناك، ثم يعود الجنود الأمريكان من أفغانستان والعراق وغيرهما
ويتم استقبالهم بالكثير من الهيلمان، "لأنهم يدافعون عنا وعن حريتنا وعن حقنا
في العيش في سلام"، دون أن يتوقف عامة الشعب للتساؤل: وكيف هددت شعوب تفصلنا
عنها عشرات الآلاف من الأميال حريتنا وسلامتنا؟