في المقال الأول من هذه السلسلة، تعرَّفتَ (عزيزي
القارئ) على الشخصيات الثلاث: الزعيم اللئيم (
جمال عبد الناصر)، والصعلوك الكريم
(عم أحمد البدوي الستيني)، والمجاهد العظيم (المحامي الشاب حسن العشماوي، الهارب
من رفيق الدرب جمال عبد الناصر)..
وفي
هذا المقال وما يليه، نعرض فصول هذه القصة الواقعية المثيرة التي يجهل تفاصيلها
جيل اليوم، بل والجيل الذي عاصرها أيضا؛ لأسباب لم تعد خافية على أحد، ويمكن
اعتبارها (في غير تَعَسُّف ولا تكلُّف) عنوانا أو سمة لحكم العسكر الذي عانت منه
مصر (ولا تزال) منذ عام 1952 وحتى اليوم!
ترصد
هذه القصة (التي أثق، كل الثقة، في بطلها وكاتبها) تحوُّل العلاقة بين الرفاق أو
الفرقاء من النقيض إلى النقيض، عندما يقرر أحد طرفي العلاقة أن "ينقلب"
على الطرف الآخر، فيقلب له ظهر المِجَن، غير آبه بقَسَمٍ قطعه على نفسه، أو بـ"عيش
وملح"، أو بـ"عِشرة" لمس فيها (من رفيقه) البذل، والتضحية بالغالي
والنفيس، عن طيب خاطر، وفي غير مَنٍّ ولا أذى!
تهاوت القِيَم، وتبخرت المبادئ التي لم تكن موجودة أصلا (حسبما يبدو من وقائع القصة) لدى الطرف "المنقلب" الذي تجاوز كل الخطوط، واستباح كل المحظورات، وجعل من رفاق الأمس شياطين وخوَنة، حين امتلك السلاح والإعلام، فدفع الوطنُ وخلقٌ كثير من أبنائه ثمنا فادحا لجموح الطرف الباغي وطموحه المريض
في
هذه العلاقة التي نحن بصددها، تهاوت القِيَم، وتبخرت المبادئ التي لم تكن موجودة
أصلا (حسبما يبدو من وقائع القصة) لدى الطرف "المنقلب" الذي تجاوز كل
الخطوط، واستباح كل المحظورات، وجعل من رفاق الأمس شياطين وخوَنة، حين امتلك
السلاح والإعلام، فدفع الوطنُ وخلقٌ كثير من أبنائه ثمنا فادحا لجموح الطرف الباغي
وطموحه المريض!
كتب
العشماوي مذكراته (الصادقة الصادمة) في جزئين: الجزء الأول حمل عنوان "مذكرات
هارب" ومنه نقلتُ (في المقال الأول) جانبا من التمهيد لهذه السلسلة، أما
الجزء الثاني، فجاء تحت عنوان "الأيام الحاسمة وحصادها"، وفيه تسجيل لـ"محاضر
الاجتماعات" التي انعقدت على مدى عشرة أيام (قبل وبعد 23 تموز/ يوليو 1952)
في بيت "عبد القادر" عضو جماعة
الإخوان المسلمين، وضمَّت عددا من قيادات
الجماعة، وقيادات تنظيم "الضباط الأحرار" الذي استطاع جمال عبد الناصر
(بطريق الخداع) الاستيلاء عليه، بعدما أنشأه عضوَا الإخوان المسلمين من ضباط الجيش:
أبو المكارم عبد الحي (الذي كان يكرهه عبد الناصر كراهية شديدة) وعبد المنعم عبد
الرؤوف، وهما الضابطان اللذان أرغما الملك فاروق على التنازل عن العرش، بعد حصاره
في قصر رأس التين بالإسكندرية..
عشرة
أيام وساعة الصفر
تحت
هذا العنوان، في الجزء الثاني من مذكراته "الأيام الحاسمة وحصادها"، سجَّل
العشماوي أسماء ثمانية عشر شخصا، اختار لكل منهم اسما "مفردا" بدلا من
اسمه "الثنائي" المعروف به بين الناس، الأمر الذي يجعل من العسير (حتى على
بعض المهتمين) التعرُّف على هوية كل الشخصيات التي حضرت هذه الاجتماعات.. فقد تعذَّر
عليَّ معرفة هوية ثلاثة منهم! وقد وضعت بين هذين القوسين [...] الاسم الثاني وأحيانا
الأول؛ حتى تتضح هوية الشخص، عدا أولئك الثلاثة الذين، لم أستطع تحديد هويتهم، ولا
أظن أن ذلك سيؤثر (بأي قدر) فيما سيخرج به القارئ العزيز من خلاصة.. وفيما يلي
أسماء المجتمعين، في تلك "الأيام الحاسمة" التي صنعت الواقع الذي يعيشه
العرب والمصريون اليوم:
- عبد القادر [صاحب البيت - لم أستدل على هويته]
قانوني - عضو جمعية [الإخوان] - 31 سنة.
- صلاح [شادي] ضابط بوليس - عضو جمعية - 34 سنة.
- حسن [العشماوي - صاحب المذكرات] محام - عضو جمعية -
31 سنة.
- صالح [أبو رقيق] دبلوماسي - عضو جمعية - 35 سنة.
- جمال [عبد الناصر] ضابط جيش - 35 سنة.
- عبد الحكيم [عامر] ضابط جيش - 32 سنة.
- كمال [الدين حسين] ضابط جيش - 32 سنة.
- سالم [صلاح] ضابط طيار - 35 سنة.
- سليمان [لم أستدل على هويته] ضابط مدفعية - 32 سنة.
- المستشار [الهضيبي - المرشد العام للإخوان المسلمين]
مستشار سابق - رئيس جمعية - 60 سنة.
- منير [الدَّلَّة] قانوني - عضو جمعية - 38سنة.
- أنور [السادات] ضابط جيش - 35 سنة.
- فريد [عبد الخالق]: مدرس - عضو جمعية 34 سنة.
- عبد المنعم [عبد الرؤوف] ضابط جيش - عضو جمعية - 36
سنة.
- عبد الحي [أبو المكارم] ضابط - عضو جمعية - 36سنة.
- حسن [لم أستدل على هويته]: أستاذ جامعي - عضو جمعية
- 37 سنة.
- عبد الرحمن [السندي - رئيس الجهاز الخاص] موظف
حسابات - عضو جمعية - 37 سنة.
- عودة [عبد القادر] قاض سابق - عضو جمعية - 40 سنة.
حقيقة ما اتفق عليه المجتمعون، وهي غير ما أعلنه عبد الناصر، وكتبه التاريخ.. كما أظنها (المقتطفات) كافية لرسم الشخصية "الحقيقية" لعبد الناصر، وطبيعة العلاقة التي كانت تربطه (وقتذاك) بزملائه الضباط الذين كان يحتقرهم ولا يثق بهم، وبقيادات الإخوان المسلمين الذين ألصق بهم (بعد عام من الانقلاب) أحط الصفات، ووجه إليهم أشنع الاتهامات
من
خلال المقتطفات التي سأنقلها هنا، من "محاضر" هذه الاجتماعات؛ ستقف
(عزيزي القارئ) على حقيقة ما اتفق عليه المجتمعون، وهي غير ما أعلنه عبد الناصر،
وكتبه التاريخ.. كما أظنها (المقتطفات) كافية لرسم الشخصية "الحقيقية"
لعبد الناصر، وطبيعة العلاقة التي كانت تربطه (وقتذاك) بزملائه الضباط الذين كان
يحتقرهم ولا يثق بهم، وبقيادات الإخوان المسلمين الذين ألصق بهم (بعد عام من
الانقلاب) أحط الصفات، ووجه إليهم أشنع الاتهامات، ثم حاكمهم (جميعا) محاكمة صورية
هزلية، افتقرت إلى أدنى معايير العدالة، وانتهت بتعليق بعضهم على المشانق، وإيداع
آخرين السجن، وبقي بعضهم مطاردا حتى مات عبد الناصر، ومنهم حسن العشماوي، صاحب هذه
المذكرات الذي وافته المنية بعد موت عبد الناصر بسنتين تقريبا!
اليوم
الأول 18 يوليو 1952
(1)
"جرس
الباب يدق!
عبد
القادر: هذا جمال (يذهب.. ثم يعود ومعه جمال الذي يسأل وهو يسلم).
جمال:
ألم يحضر عبد الحكيم؟
عبد
القادر: بل سبقك بقليل.. إنه في دورة المياه.
جمال (متسائلا):
يتوضأ؟
عبد
القادر: لا أظن.
جمال:
هل أستطيع أن أتوضأ لأصلي المغرب؟ إنها تكاد أن تفوتني.
(يخرج
مع عبد القادر.. ويعود عبد الحكيم ليجلس بجوار حسن).
يعود
جمال بعد لحظة، وقد شمَّر أكمامه وبنطلونه.. ينتحي ناحية، فيصلي ثلاث ركعات بسرعة..
يقوم ليجلس مع الجالسين".
(2)
جمال:
لا بد أن نتحرك فورا.. يجب ألا تفوت الفرصة، كما حدث في مارس الماضي، وإلا فقد
انتهى الأمر نهائيا..
صلاح (في
تعجب): نهائيا؟! لماذا؟!
جمال:
قل لهم يا عبد الحكيم.
عبد
الحكيم: لقد وصلت أسماؤنا جميعا إلى الملك، فيما عدا جمال، ولا بد أن نبدأ، وإلا قُبض
علينا، وأصبح من المستحيل أن نعمل شيئا بعد ذلك.
عبد
القادر (متسائلا): أسماؤكم فيما عدا جمال؟! جمال وحده؟!
عبد
الحكيم: نعم.. هو وحده الذي لم يعرفوا اسمه بعد.
عبد
القادر: إنه هكذا دائما.. آخر من يُعلم اسمه.
جمال
(في ضيق): ماذا تعني؟
عبد
القادر (في حدة): أنت تفهمني جيدا.
صلاح
(مقاطعا): وماذا تنوون الآن؟
جمال:
ننوي أن نتحرك.. أن نحدد ساعة الصفر.. ولكن لا بد من الاطمئنان إلى تأييدكم
الكامل.. إلى أننا نعمل معا.. (يخفض صوته) وإلى عدم تدخل الإنجليز.
عبد
القادر (في شيء من السخرية): والأمريكان؟
جمال:
هؤلاء لا تشغل بالك بهم.
حسن:
البركة في "كارتر" وأمثاله.. هؤلاء مضمونون من جمال ومن معه، وضامنون
لهم أيضا..
صلاح
(مقاطعا في ضيق): أما تأييدنا، فأمر يحتاج الرجوع إلى المستشار [الهضيبي]، وإن كنت
أضمنه لكم.. أما الإنجليز فماذا تعني بضمانهم؟ إننا على استعداد لأن نقاتلهم معكم
في الشوارع.
حسن (مقاطعا):
جمال لا يحب القتال السافر..
جمال
(محتجا): ماذا تعني؟
حسن:
أعني أن أشير إلى ما سبق أن قلته أنت لي بنفسك.. لا عليك.. ماذا تريد من الإنجليز
غير أن نقاتلهم إذا اعترضوا الانقلاب؟
جمال:
هل يمكنكم الاتصال بهم لضمان عدم تدخلهم؟
صلاح
(مستنكرا): نحن لا نتصل بأية دولة أجنبية.
حسن:
الحرب خدعة. أليس كذلك يا جمال؟
جمال
(في ضيق): أتسخر مني؟
حسن:
لا.. ولكنكما مختلفان. تأكد يا جمال أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا [الإخوان] مع
الإنجليز ما فعلته أنت مع الأمريكان، ولا حتى مع اليهود.
جمال
(في ثورة): ماذا تقصد باليهود؟
حسن (في
هدوء): أقصد لباقتك في اتصالك بالضابط إياه..
عبد
الحكيم (مقاطعا في رجاء): لقد جئنا لنتفق لا لنختلف.. أنت وحسن (يا جمال) يفهم كل
منكما الآخر.. فاسأل مباشرة، ولا داعي للدوران.. وأجب يا حسن، ولا داعي للسخرية،
ولا إلى التلميحات التي قد تثير حفيظة صديقك، أنا واثق من حبك لجمال، فلماذا
تثيره؟
حسن:
أنا لم أنكر أني أحب جمالا وأقدره.. وقد أبلغته مرارا أننا لا نستطيع الاتصال
بسفارة أجنبية"..
ملاحظة
"تاريخية" لا بد من الإشارة إليها: "الاتصال بالإنجليز"، كان من
أبرز الاتهامات التي وجهها جمال عبد الناصر للإخوان، ومن ثم وصمهم بالخيانة
والعمالة للإنجليز"!
ملاحظة "تاريخية" لا بد من الإشارة إليها: "الاتصال بالإنجليز"، كان من أبرز الاتهامات التي وجهها جمال عبد الناصر للإخوان، ومن ثم وصمهم بالخيانة والعمالة للإنجليز"!
(3)
"جمال
(يسأل عبد القادر): ألا يوجد شيء آكله؟
عبد
القادر: الآن؟ ليس عندي غير الجبن والقراقيش.
جمال:
جبن وقراقيش.. رائع هلم بنا.
(يذهب
عبد القادر لإحضار الطعام.. بينما ينتحي صلاح ناحية ويصلي وحده).
عبد
الحكيم (لجمال): أرى شهيتك تنفتح على أكل عبد القادر، وسجائر حسن!
جمال:
ألسنا إخوة؟ أليست الأخوَّة بذلا ومحبة؟
عبد
الحكيم: بذل ومحبة متبادلان!
جمال:
القادر اليوم يعين أخاه"!
(4)
"عبد
الحكيم (مخاطبا الإخوان): لقد قررنا أن نقوم بالحركة خلال أسبوع، وإلا فات الأوان.
ونريد الآن أن نطمئن إلى أمور ثلاثة: مساندة ضباطكم وجنودكم للحركة، ومساندة
أفرادكم لها دون إعلان عن ذلك، ثم إمكانية الطمأنينة إلى موقف الإنجليز.. هل نستعد
لحربهم؟ أم نتفق معهم سلفا؛ لنضمن عدم تدخلهم لإحباط حركتنا؟
صلاح:
أما مساهمة ضباطنا وجنودنا، ومساهمة أفرادنا، فهذا ما أضمنه لكم.. أما الإنجليز
فنحن لا نتصل بهم ولا بغيرهم.. ولكننا نستعد لقتالهم إذا احتاج الأمر".
(5)
"(ينهض
جمال، ويحمل صينية الطعام إلى عبد القادر الذي يذهب بها.. يجلس جمال وحسن متجاورين
على أريكة.. يعود عبد القادر، ويجلس بجوار عبد الحكيم).
جمال:
ما رأيكم فيما قاله عبد الحكيم؟
صلاح:
اتفقنا على كل شيء إلا الاتصال بالإنجليز، أو غيرهم من الأجانب.
عبد
القادر: اتفقنا بشرط موافقة المستشار [الهضيبي].
صلاح:
طبعا بشرط أن يوافق المستشار.. وإن كنت أضمن موافقته سلفا.
جمال:
إذن، نرجئ الحديث، حتى نعرف رأي المستشار.. هل يمكن ذلك غدا؟
عبد
القادر: إن زوجة حسن [العشماوي] ستلد الليلة.. ولا أعتقد أنه يسافر قبل ولادتها..
ولا بد من وجوده معنا، عند مقابلة المستشار.. فلننتظر إلى بعد غد.. ولكن يحسن أن
نلتقي غدا في المساء، ومعكم من تريدون منكم؛ حتى يكون الأمر واضحا كله، وبذلك نعرض
على المستشار كل شيء، وإلا فإني واثق أنه لن يعطي رأيه.
جمال:
إذا سنرجئ الأمر إلى غد، وسيكون معنا سالم [صلاح]، وكمال [الدين حسين]، وعبد
اللطيف [البغدادي].. وقد يكون معنا آخرون.. هل لديكم مانع؟
صلاح:
لا طبعا..
جمال:
إلى لقاء غدا مساءً.. هنا.. إن شاء الله".
(يتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com