رمضان شهر فضيل مبارك..
إنه شهر الرحمة، والتوبة، والمغفرة، والعِتق
من النار.. وليس بأي حال من الأحوال شهر القتل، والرعب، والإرهاب، والظلم
والاستبداد بأفظع صوره. مئات ملايين العيون تنظر إلى السماء في هذا الشهر الفضيل،
آناء الليل وأطراف النهار، تسأل الله، وتنتظر رحمة الله.. وبينها ملايين وملايين،
تفيض بالدمع، وتنتظر الفرج، بعد ألف شِدَّة وشِدَّة.. ومنها عيون أطفال تسكنها
البراءة، ويتغشّاها الحرمان، ويفترسها الجوع والمرض والخوف، الظلم والقهر والعجز..
وهي ترى ذويها بكاءً، أو دماءً، أو أشلاء.. ويرون الناس يعجزون حتى عن تقديم
البسمة لهم.؟!
إنهم يعرفون الله كما قُدم لهم، رحمن رحيم، ولا يمكن أن يفكروا في أن
ما هم فيه من أحوال وأهوال يعجز عنها الوصف، هو عقابٌ لهم على أفعال ما قاموا بها،
وآثام وخطايا ما ارتكبوها!؟.. فهم البراءة، وطهارة القلب واليد، وأنفسهم لا تأمر
بالشر، وعقولهم لا تفكر به، ومن باب أولى ألا تُوعز بتنفيذه، وأكفّهم الصغيرة
الضارعة لا تبطش، بل إنها من الضعف بحيث لا تكاد ترفع اللقمة إلى أفواههم، إن هي
وُجِدت.. فكيف يَخْطَؤون ويَأثَمون، ومن ثم يدفعون ثمن الخطايا والآثام؟! نعم
إنهم، في معظم الأحوال، أو فيها جميعاً " ضحايا"، نعم ضحايا، ومشاريع
نزف دماء، وتناثر أشلاء، وجثث بلا أضرحة، وحتى بلا غطاء.. يحصدهم الإجرام المنهجي
بزخَّات من الرصاص وبالقذائف والصواريخ، فيحيلهم شظايا بشر، أو يهدم على رؤوسهم
البيوت فلا يبقى لهم أثر..
هؤلاء، وهم في الضيق، وقبل أن يحصد القتل منهم من يحصد، كانوا وما
زالوا ينتظرون الفَرَج بعد الشدة، فتنقضُّ عليهم الشدّة، ويفتقدون الفَرَج.؟! لكن
الأدهى من ذلك، مما يدخل في أبواب الأعظم من الأقسى والأعتى والأشد من كل شدة، أن
من ينتظرون أن يأتي الفَرَجُ على أيديهم، هم من يقتلونهم.. وأنهم في المحنة تجدهم
أبصارُهم شاخصة إلى أهلهم، الذين هم عجزٌ مطبق، وفي حضيض المعاناة، لا حول لهم ولا
قوة، يكرعون الألم، ويعيشون الذل والضيم، ولا يملكون لفلذات أكبادهم شيئاً، ولا
لأنفسهم أيضاً، حيث ينتظرهم الموت ألواناً، فكيف يعطون، وفاقد الشيئ لا يعطيه.؟!
للأطفال ولذويهم، للضحايا، ولمشاريع الجثث والأشلاء.. لهؤلاء وأولئك،
ومن أجل هؤلاء وأولئك، وبسبب كل ما ينتابهم من شقاء، وما يتعرَّضون له من عذاب،
وما ينتظرهم ويترصَّدهم ويتقصّدهم من "رعب، وتشريد، وتهجير، وقتل و.. و.. على
يدَيْ من يمارسون الإرهاب ومن يتصدون للإرهاب، حيث الكل يقتل..!!، من أجل هؤلاء
وأولئك، ومن أجلنا، نحن الواقفين على شفير الهاوية ننظر ونبصر ونعيش بعض ما
يعيشون، وقد نكون، نسبياً، بمنجى مما ينتظرون.. من أجلهم نمضغ التمنّيات، ولا يصل
ريقُنا إلى حلوقنا، ونتلفَّع بالذل والعار إذ نسكت وإذ نتكلم، وتَسْفَعُنا نار
الفتنة، وتقمعنا القوة الغاشمة، وتهددنا الجريمة في كل لحظة، ونشعر بالعجز من
جانبين ولسببين: لأننا العجز، ولأننا نتمنى فقط فيرتد علينا التمني عجزاً يضاعف
عجزنا المقيم، فننوء تحت الأثقال، ونستأنف السعيَ أقوالاً.. نتمنّى ولا نفعل فنغيب
رغم الحضور، ناسين أو متناسين أن الواقع لا يتغير من دون مُغَيِّرين وإرادة تغيير،
وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنه سبحانه أمرنا بأن
نعمل: ﴿ وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى
اللَّـهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ وَسَتُرَدّونَ إِلى عالِمِ الغَيبِ
وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ ﴿١٠٥﴾ سورة التوبة.؟!
ونحن هذه الأيام على عتبة شهر رمضان الفضيل، شهر العبادة والعمل، شهر
الصبر والأمل، شهر الرحمة والمغفرة.. فهل من سبيل إلى تغيير عميق شامل صادق وحاسم،
يشمل أنفسنا وواقعنا وما حولنا، مستنداً إلى نتائج واستنتاجات مما مرَّ بنا وعشناه
وما زلنا نعيشه، مشفوعاً بسؤل الله سبحانه أن يهدينا إلى ما فيه خيرنا وخير وطننا
وأمتنا، واثقين برحمته واستجابته للسائلين المؤمنين العاملين الصادقين، إذ يقول في
محكَم تنزيله: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿١٨٦﴾ سورة البقرة.
لقد تحملت شعوبنا وبلداننا فوق ما تطيق وما يُطاق، واكتوت بنار الحرب، وزلزلتها الزلزلة، وفقد الكثير من الناس ما يعنيه الوطن للإنسان ومما تعنيه المواطَنَة للمواطن، وما يُبقي الكائن الإنسان على قيد الحياة، ويبقي له بعض الأمل والكرامة، وما يوفر للبشر الرزق، ويبني الشعوب والبلدان وينهض بها، ويبقي الوطن سيداً عزيزاً كريماً مُستقراً ودار أمن وأمان.
إننا ندعوه سبحانه، وندعوا باسمه، وباسم حق الإنسان في الحياة..
ندعوا الضالين والمُضَلِّلين والبغاة والعداة وكل من يحكُمُه كِبْرٌ وتغذيه فتنةُ
ويغذويها، ومَن يستثمر في الأحقاد والفساد والإفساد والإرهاب، ومَن لا تعنيهم إلا
شخوصهم ومصالحهم وشهواتُهم.. وللذين يستقوون على أبناء الشعب والوطن والأمة
بالأجنبي والمحتل، إلى أن يتوقفوا وأن يراجعوا أنفسهم وما سلف منهم وأن يرجعوا إلى
الله والحق والعدل والحكمة وعِبَر الحياة والتاريخ.. ليس هناك من خلود لبشر، ولا
مَن يملك الأرض والناس ويدير دولاب الزمن إلى الأبد.. فاتعظوا بغيركم ممن سبقكم من
الخلق، وانظروا ما كان منكم في صراعات عقيمة وحروب مجنونة أفنت ودمرت وأفقرت
وأرهبت.. لم يوجد ولن يوجد مَن يملك الأرض والناس ويقرر مصائر الخلق وأقدارهم، ولا
يدوم إلا وجه الله.. فأوبوا إلى الله وراجعوا ما أنتم فيه.. فإن من حق الإنسان أن
يعيش في وطنه بأمن وسلم وكرامة، وأن تصان قيمه وحريته وحقوقه كافة وعلى رأسها الحق
في الحياة..
ونقول على اسم الله وباسم تعاليمه، لمن يعنيهم الكلام معنى ومبنى،
ولمن يعنيهم رضى الله، وإحياء الأنفس، وبناء الأوطان والنهوض بها وبأهلها، نقول:
إن السبل إلى ذلك واضحة " إقامة العدل، وتجنب الظلم والطغيان والاضطهاد
والقتل، والعمل على ما يحيي الأنفس لا ما ينهكها ويفسدها ويُرديها ويُردي بها،
والأخذ بما تمليه تعاليم الأديان، ومكارم الأخلاق، وشرائع الإنسان الحكيمة الحاكمة
النافذة التي تطبق على الجميع بمساواة وإنصاف وحزم.
لقد تحملت شعوبنا وبلداننا فوق ما تطيق وما يُطاق، واكتوت بنار
الحرب، وزلزلتها الزلزلة، وفقد الكثير من الناس ما يعنيه الوطن للإنسان ومما تعنيه
المواطَنَة للمواطن، وما يُبقي الكائن الإنسان على قيد الحياة، ويبقي له بعض الأمل
والكرامة، وما يوفر للبشر الرزق، ويبني الشعوب والبلدان وينهض بها، ويبقي الوطن
سيداً عزيزاً كريماً مُستقراً ودار أمن وأمان.
وقد آن أوان:
1 ـ أن تتوقف عواصف الرعب، وصواعق الظلم،
وفظائع المتحكمين برقاب العباد، والكوارث من كل نوع.. وأن تنتهي صراعات الدول
والأمم في وطننا، بنا وعلى حسابنا.. نريد أن يتوقف القتل، وأن يَستتبَّ الأمن،
ويُستنبَت الأملُ في الأنفس بعد تنظيفها من الدِّمن، وتنظيف البيئة ممن ينشرونها
ويستثمرون فيها..
2 ـ وآن أوان لجم الفتنة والفتنويين والمَفتونين
بالقوة، وأن يُحجَر على المصابين بجنون الحرب، وجنون العَظَمَة، وبلوثات أخرى من
هذا القبيل وغيره مما يرهق الناس ويقضي على أرواح وأمن وأسباب عيش واستقرارهم
وازدهار في الديار..
3 ـ وآن أن ينتهي الإرهاب، والتطرف، والعنف، والتسلط، وينتهي الذي
يسبب ذلك وينمي الفكر الذي يغذيه، وأن تُعالج الأسباب التي تجعل لذلك كله حواضن
اجتماعية وسياسية وفكرية..
4 ـ وآن أن يُكشف السِّتار ليتعرَّى من يَتخفى وراء ذلك، وما يثيره
ويغذيه ويستثمر فيه من فتن ومناخ شرور وثبور.. بهدف استمرار استنزاف الأمة وقواها
الحية ومراكز النبض الحي فيها.
5 ـ وآن أوان أن يرتاح الناس، ويأمن الأطفال ويشبعون ويتعلمون، وتشرق
على الجميع شمس الله بالنعمة والراحة والأمن والسلم.
ورمضان مبارك..
إنه شهر عبادة تنبع من إيمان وتعزز الإيمان، عبادة تستدعي إرادة
وتعزز الإرادة، وهو شهر مغفرة برحمة الله ومشيئته، وعمل يقطف المرء العامل ثماره،
وشهر حسنات وبركات وطيبات ينالها من يقدم قرضاً حسناً لخلق الله، بأمر الله
ووعده.. إذ الحسنة بعشرة أمثالها، والكلمة الطيبة حسنة ضرب الله بها مثلاً فقال:﴿
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ
طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا
كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)﴾ ـ سورة إبراهيم.
إنه شهر تأمل وتدبر، وتبتّل، ومراجعة وجدانية عميقة وصحيحة وبناءة،
للأفعال والمواقف والأقوال والنيات، ليكون المرء من بعدها، وبفضلها: نقياً شفافاً
كشعاع، بعد أن غُسِل قلبه ونفسه وروحه بالاعتراف الذاتي، بالمراجعة الذاتية،
واغتسل بماء التوبة، ووقف أمام مرآة نفسه، حيث لا يعلم أمره إلا الله الذي خلق
الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً. شهر رمضان شهر وأدٍ للشرور والأحقاد
والنّعرات والثارات، وللخطايا والأخطاء والشهوات والنزوات الشريرة.. وهو، في أحد
مراميه الكبرى، صوم النفس عما يدنس النفس، وصوم عن كلام يورث المَلام، وتجربة
للروح ترفع من شأن الروح، إذ هي حكم ومصدر حياة، وعنوان الخَلَّاق القدير، بديع
السماوات والأرض.. فكيف يكون ذلك من أهدافه شهر الصوم ومعانيه ومراميه، ويكون فيه
ظلم وطغيان وقتل وإجرام يأتي على البراءة وحياة الأبرياء، لا سيما الأطفال منهم؟!
آن أوان لجم الفتنة والفتنويين والمَفتونين بالقوة، وأن يُحجَر على المصابين بجنون الحرب، وجنون العَظَمَة، وبلوثات أخرى من هذا القبيل وغيره مما يرهق الناس ويقضي على أرواح وأمن وأسباب عيش واستقرارهم وازدهار في الديار..
ها نحن قوم من المسلمين الذين فرض عليهم الصيام والقيام واحترام حق
الحياة، ومع ذلك نخوض حرباً ضروساً منذ سنوات وسنوات ضد بعضنا بعضاً.. سنوات نقتُل
فيها، ونفجُر، ونعذّب، ونُرْهِب، ونستعين بعدونا على أنفسنا، وعلى أبناء مِلَّتنا،
ونوالي من أمَرَنا الله بألا نواليه.. نفعل ذلك ونقتل أنفسنا ونمعن تقتيلاً في
أبناء شعبنا، وأبناء أمتينا
العربية والإسلامية.. نُعْمِلُ الفتك والاستباحة دون
رادع من إيمان أو خُلق أو عَقل أو ضمير أو انتماء يرتب واجبات وحقوقاً.. فكيف يصح
صيام وقيام وعبادة لمسلمين يخوضون في دماء مسلمين، ويستبيحون مسلمين، ويشردون
مسلمين، ويستعدون أعداء المسلمين على المسلمين.؟! وكيف يبني من يفعل ذلك منهم
قيماً وشعباً ووطناً، وكيف يعزز ما لديه
من قيم وقيمة وحماية للإنسان والأوطان.. كيف يفعلون ذلك، أو يدعون إليه ويتعدون به.. وكيف ينتهكون حرمة الإنسان
وقيمة الحياة، والنفس التي حرَّم الله قتلها إلا بالحق، وكل قيمة يتوجب أن يراعيها
الخلق..؟! والحق ظاهر بيّنٌ لمن يريده!؟.
فليكن لنا من معاني شهر الصوم ومراميه، ونحن على أعتابه، بعض المعاني
والمرامي الشافية، مما ينفع الناس، في أمة يضرب فيها الشر والقتل أطنابهما منذ
سنوات، ويخيم على رؤوس الناس فيها الخذلان والبؤس والفقر واليأس، وتتحكم بهم القوى
المعادية لهم، والأهواء الشخصية، والنزعات التي تُردي ولا تُحيي، وتُفسد الضمائر
والعقول والأنفس.. وذاك مما لا يرضي الله، ولا يقول به أو يقبله عقل ودين.؟!
رمضان مبارك عليكم/علينا.. جميعاً،
وهو شهر عمل ورحمة وصبرٍ وأمل، فلنعمل فيه على أن نُعلي شأن الأخلاق
والإنسان والعدل والقيم والسلم والحياة ذاتها.. لكي يكون لنا بعض أجره وبعض مراميه
وفوائده ومعانيه.. فلنوقف القتل، ونلجم الظلم، وننه الاستبداد، ولنأخذ على أيدي
المفتونين بالفتنة والكِبْر والشر، بالقوة والظلم القهر، ومَن يمارسون فنون إبادة
بجنون عظمة وفجور وسوء نية وفساد إرادة.. فلنفعل ما يمكن، لكي نحقن دماءً، وننقذ
أرواحاً، منها أرواح أطفال أبرياء، يعيشون الرعب من القتل والدمار، ويفتك بهم
الجوع والجهل والمرض والعجز، ويتشردون هم وذووهم، في بلدانهم وبلدان أخرى ليس لهم
فيها أمن ولا كرامة ولا إقامة ولا مستقر لمن يتعلق بوطن يحن إليه وينشد فيه الأمن
والاستقرار والكرامة.. ففي جحيم الغربة لا راحة ولا أمل لإنسان، من حقه أن تكون
أمامه فسحة أمل ومستقبل واعد لجيل صاعد. فلنعمل ليتوقف كل نوع من أنواع الجنون
الذي يحكم أفراداً وجماعات وفئات ومجالات وقطاعات، وليتوقف ونضع حداً للتدمير
والموت العبثي الذي يحصد الأرواح ويدمر العمران ويضاعف التخلف عقوداً وقروناً.
والله من وراء القصد.