كان مخاض ولادة المحكمة
الجنائية الدولية عسيرًا، فبعد الحربين
العالميتين الأولى والثانية جرت تحركات ووضعت مشاريع لإنشاء محكمة جنائية دائمة
للقضاء على حالة تفشي الإفلات من العقاب، إلا أن دولا وقوى وقفت ضد تشكيل هذه
المحكمة خوفا من ملاحقة مسؤولين وأفراد فيها، لكن النضال استمر من أجل إنشائها حتى
خرجت إلى النور في تموز (يوليو) عام 1998.
وقعت البعثات الدبلوماسية في روما بما فيها الولايات المتحدة
الأمريكية وروسيا على اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية ثم بدأت
الدول بالمصادقة على الاتفاقية حتى وصل عدد المصادقين على اتفاقية روما حتى الآن
123 دولة، إلا أن الولايات المتحدة سحبت توقيعها في وقت مبكر وتبعتها روسيا
وشنت الولايات المتحدة حربا على المحكمة
وصلت أوجها في عهد ترامب عندما فرض عقوبات على المدعية العامة السابقة فاتوا بن
سودا وعدد آخر في المحكمة بسبب اتخاذ المدعية العام قرارا في فتح تحقيق رسمي في
الجرائم المرتكبة في
فلسطين .
المحكمة تختص في الجرائم الخطيرة التي ارتكبت منذ دخول نظام روما
الأساسي حيز النفاذ في الأول من يوليو/تموز 2002، أما الجرائم التي ارتكبت قبل ذلك
فلا اختصاص للمحكمة عليها، حظيت المحكمة بتأييد كبير من منظمات المجتمع المدني
وشكل ائتلاف لدعمها على أمل أن تعمل على وقف الإفلات من العقاب المستشري كالطاعون
في مختلف أنحاء العالم.
الآمال المنعقدة على المحكمة بدأت تتبدد في وقت مبكر بعد غزو تحالف
غربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان في واكتوبر/تشرين الأول 2001
والعراق في آذار (مارس) 2032 وارتكاب هذا التحالف أفظع الجرائم التي بقيت حتى
يومنا هذا بدون ملاحقة أو محاسبة على الرغم من أن دول مثل بريطانيا عضوا في
المحكمة كانت شريكا أساسيًا في هذا التحالف.
الجرائم المرتكبة في فلسطين شغلت بال المجتمع الإنساني منذ الانتداب البريطاني مرورًا بالنكبتين وحتى اليوم فلم يحدث أن حوسب أحد عن الجرائم الخطيرة التي ارتكبت، وبقي الحال على هذا النحو بعد تأسيس المحكمة
بدأت تظهر علامات قوية على تسييس المحكمة في ظل عدم قدرتها على
التحقيق في جرائم ارتكبتها قوى عظمى، في حين أظهرت قدرتها على التحقيق في جرائم
ارتكبت في دول أفريقية ولسنوات بعد تأسيسها كان زبائن المحكمة هم من دول أفريقية
فقط مما خلق حالة من الغضب والتململ لدى الدول الأفريقية أدى إلى انسحاب بوروندي
وجنوب إفريقيا إضافة إلى تهديد عدد من الدول بالانسحاب.
الجرائم المرتكبة في فلسطين شغلت بال المجتمع الإنساني منذ الانتداب
البريطاني مرورًا بالنكبتين وحتى اليوم فلم يحدث أن حوسب أحد عن الجرائم الخطيرة
التي ارتكبت، وبقي الحال على هذا النحو بعد تأسيس المحكمة، فيد المحكمة بقيت
مغلولة لا تستطيع النظر في الجرائم المرتكبة بحجة أن فلسطين ليست طرفا في اتفاقية
روما، ثم بعد أن اكتسبت فلسطين صفة دولة غير عضو في عام 2012 قامت بإحالة الجرائم
المرتكبة في فلسطين منذ 14/06/2014 وتبع ذلك انضمام فلسطين لنظام روما الذي دخل حيز النفاذ في الأول من نيسان 2015،
ورغم مرور 9 سنوات على الإحالة والانضمام لم تتقدم التحقيقات ولم يصدر مكتب المدعي
العام أي مذكرة توقيف .
في حالة أوكرانيا وروسيا فإن كلا الدولتين ليستا طرفا في اتفاقية
روما وبالتالي المحكمة غير مختصة في الجرائم المرتكبة، وحدث أن قبلت أوكرانيا
اختصاص المحكمة في الجرائم المرتكبة على الأراضي الأوكرانية وعلى نحو يتسم بالسرعة
أعلن المدعي العام كريم خان أن مكتبه فتح تحقيقًا بعد أن أحالت 39 دولة الجرائم
المرتكبة هناك إلى مكتبه.
شيء رائع أن تنهض دول وتحيل حالة في دولة ما إلى المحكمة الجنائية
لكن أين هذه الدول من الحالة في العراق وافغانستان إبان الغزو الأمريكي أين هذه
الدول من الجرائم المرتكبة في اليمن وليبيا وسوريا فنفسه بوتين دمر مدنا هناك وشرد
سكانها وقطع الناس أطفالا ونساء وشيوخا إربا إربا وخنقهم بالغاز السام.
ما هذه الإرادة الدولية التي تنزلت فجأة وانصاع لها كريم خان بكل
سهولة وسلاسة وفي زمن قياسي قصير؛ لماذا فقدت هذه الإرادة في ملف فلسطين عندما لم
تكن فلسطين طرفا في اتفاقية روما، ففي الانتفاضة الثانية التي بدأت عام 2000
وانتهت في 2005 قتل ما يزيد عن 5 آلاف وجرح أكثر من 50 ألف منهم نساء وأطفال ودمرت
منازل ، وخلال الحرب على غزه 2008 (الرصاص
المصبوب) استخدمت فيها اسرائيل اسلحه محرمه دوليا وقتل أكثر من 1400 وجرح الآلاف
وفي حرب عام 2012 (عامود السحاب) قتل فيها 180 وجرح المئات؛ أين كان ضمير هذه
الدول في تلك الأثناء؟ لقد جرت محاولات عديدة من منظمات المجتمع المدني لدفع
المدعي العام للتحقيق في الجرائم المرتكبة لكن رد مكتب النائب العام كان بكل برود
أن فلسطين ليست طرفا في اتفاقية روما.
في كل الأحوال ملف فلسطين لا يحتاج اليوم إلى 39 دولة لإحالة الملف
إلى المحكمة ففلسطين مضى على عضويتها في
المحكمة 9 سنوات، والمدعية العامة السابقة اتخذت قرارا بفتح تحقيق في الجرائم
المرتكبة في شباط (فبراير) 2021 وتركت لكريم خان المضي قدما في الإجراءات وعندما
تولى منصبه في الأول من حزيران 2021 لم يحرك أي ساكن على الرغم من أن الملفات
جاهزة وكاملة والجرائم واضحة وتنتظر توقيف مرتكبيها، ولا زالت إسرائيل تقتل وتدمر
وتبني المستوطنات فلماذا لم يستيقظ السيد كريم خان حتى اللحظة، ماذا ينتظر لقد
حرقوا حوارة بالأمس، هل ينتظر وقوع جرائم أفظع من التي ارتكبت ولا زالت ترتكب؟
ألم يسمع سموتريش الذي نفى وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني؟ وهو من دعا قبلها إلى
محو حواره من الوجود، ألم يطلع على التقارير التي تصف هذا العام بالأكثر دموية حيث
قتل منذ مطلع العام أكثر من 90 فلسطينيا بينهم 15 طفلا.
كريم خان على دراية تامة بما يحدث على الأرض، لكنه عن سابق إصرار
وتعمد يتجاهل الشكاوى التي تصله، وعلاوة على أنه لم يتابع التحقيقات فهو لم يصدر
أي بيان أو تصريح في شأن الجرائم المستمرة، وعندما سئل قبل عام في لقاء مع الجزيرة
عن ملف فلسطين قال "من غير اللائق الحديث عن قضية بعينها" ورفض الخوض في
أي تفاصيل وعندما سئل عن البشير وتسليمه للمحكمة استرسل بالحديث، و إمعانًا في
التجاهل في ديسمبر/كانون الأول عام 2022 أصدر مكتب المدعي العام تقريرًا عن
القضايا والحالات المعروضة على مكتبه، لم
تذكر فلسطين في التقرير إلا ثلاث مرات، أتدرون أين؟ فقط في الهوامش، لعل هذا يفسر
سبب توقف كل مظاهر الهجوم على مكتب الادعاء العام وشخص المدعي العام منذ تعيينه.
منذ اللحظة الأولى للحرب في أوكرانيا انخرط المدعي العام تحت ضغط
سياسي من دول مختلفة منها الولايات المتحدة الأمريكية التي ليست طرفًا في المحكمة
وتناصبها العداء في أنشطة ومؤتمرات حول الجرائم المرتكبة هناك داعيا الى ملاحقة
المشتبه بهم، بل وإنشاء محكمة خاصة لملاحقتهم كما زار أوكرانيا أربع مرات والتقى
مسؤولين هناك لإعداد الملفات الخاصة بالجرائم المرتكبة.
لقد ركز خان في أوكرانيا على الجرائم المرتكبة من قبل الروس تماشيا
مع الموجة السياسية ولم يأت على ذكر الجرائم التي ارتكبت على أيدي القوات الأمنية
والعسكرية الأوكرانية وهذا اخلال فاضح في حياد المحكمة وتكريس لحالة انقياد خان
العمياء للغرب.
منذ اللحظة الأولى للحرب في أوكرانيا انخرط المدعي العام تحت ضغط سياسي من دول مختلفة منها الولايات المتحدة الأمريكية التي ليست طرفًا في المحكمة وتناصبها العداء في أنشطة ومؤتمرات حول الجرائم المرتكبة هناك داعيا الى ملاحقة المشتبه بهم، بل وإنشاء محكمة خاصة لملاحقتهم كما زار أوكرانيا أربع مرات والتقى مسؤولين هناك لإعداد الملفات الخاصة بالجرائم المرتكبة.
أما في ملفات أخرى ومنها فلسطين لم يخل تصريح أو تقرير لمكتب الادعاء
العام في عهد فاتو بن سودا من ذكر قوى المقاومة في فلسطين وما ارتكبته حسب وصفها
من جرائم جنبا إلى جنب مع الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل وكان يتم التأكيد دائما
أن المحاسبة ستشمل كافة الأطراف وكأن أطراف الصراع في فلسطين متساوون في العدة
والعتاد!
إن انجرار كريم خان وراء قوى لها أجندات سياسية أدى بالقطع إلى تسييس
المحكمة وهذا يشكل خطورة على وجودها، المجتمع الانساني يكون سعيدا لو اتخذ قرار
اعتقال بوتين في سياق العدالة الطبيعي فهو مجرم ارتكب أفظع الجرائم ليس في أوكرانيا
فحسب إنما في دول أخرى قبل أوكرانيا، ويكون المجتمع الإنساني أكثر سعادة لو امتدت
يد المحكمة إلى فلسطين التي ترتكب فيها جرائم خطيرة وملفاتها جاهزة قبل انطلاق
الحرب على أوكرانيا.
قرار توقيف بوتين وغيره من عتاة المجرمين الذين ارتكبوا أفظع الجرائم
كان يجب أن يتم منذ زمن عندما تدخلت روسيا في الحرب الأهلية في سوريا وشاركت في
تدمير مدن بأكملها وتشريد أهلها وارتكاب مجازر مروعة.
قد يقول قائل إن روسيا وسوريا ليسا طرفان في اتفاقية روما ولا سبيل
لإحالتهما عن طريق مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي والصيني لكن لو توفرت إرادة
سياسية لتم إحالة الجرائم إلى المحكمة أو إنشاء محكمة خاصة بموجب قرار متحدون من
اجل السلام حيث بموجب هذا القرار تحل الجمعية العامة في الأمم المتحدة محل مجلس
الأمن لعلاج مسألة تهدد السلم والأمن الدوليين و فشل مجلس الأمن بالتعامل معها.
لقد انغمس خان في لعبة سياسية ألحقت ضررا بالغا في سمعة المحكمة
وحيادها، وجعلها أداة في يد قوى هي أصلا ضد المحكمة وتحاربها بشراسة ووفرت الحماية
لمسؤوليها وأفرادها للإفلات من اختصاص المحكمة في جرائم ارتكبت في دول مختلفة،
وبذلك يكون عهد كريم خان العهد الذي تم فيه تسييس المحكمة.