تفسد العواطف والمصالح السياسة كما تفسد شمس الصيف المباشرة اللبن
ومشتقاته!
إنكار الحقيقة السابقة لا يضرُّ المستبدين في شيء للأسف، وإنما يهدر حقوق
المظلومين ويجعلهم يعانون لما لا نهاية، وتزداد الأزمة ضراوة لما يبني بعض أساتذة معارضين
-مفترض أنهم مسؤولون- واقعا آخر غير الذي نعيشه، فيروحون يزينون قصورا في الخيال، ويشربون
من أباريق من لؤلؤ وسندس ومرجان في الواقع والخيال، ويقنعون مريديهم المتعبين المعانين
بأن هذا واقعهم أيضا!
كان من الأخيرين حتى تموز/ يوليو 2013م مجرد أتباع، وإن لم يُعملوا العقل
بالدرجة الكافية، تغيروا خلال نحو عشر سنوات هزيلة فباتوا أقرب
"للمريدين" يصدقون كلمات قادتهم وإن أنكروا الواقع بالمقابل، بل يأخذ
بعضهم ثمنا يستحق لطاعتهم وتعبيدهم الصف من خلفهم، وإن شئنا الدقة قلنا إنهم
يأخذون مقابلا ماديا لم يكونوا يحلمون به في
مصر.
تفسد المصالح والعواطف وحرارة الصيف حلو ورائق
المعارضة الذي كان من
المفترض أن يظل سلسا سائغا للمعترضين على الظلم والطغيان. لولا ألمنا الشديد
ومرارة الواقع فضلا عن عدم وجوب تخفينا من قسوته ودفن رؤوسنا في الرمال، فمؤسف أن
النعام لا يدفن رأسه من عدوه، وتلك "أكذوبة" يفعلها بعض كبار معارضين، أو
أناس فرض الواقع عليهم أن يكونوا محل كبار المعارضين بعد إلقاء القبض عليهم
وإبقائهم في السجون، يعانون القهر والظلم وقلة الطعام والعلاج والإمكانات، ولما
يفيض بأحدهم يتوفاه الله تعالى، فيما بعض أولئك الذين اختاروهم من قبل كصف ثالث أو
رابع أو عاشر، ونجحوا في القفز لسدة مجاديف السفينة.. يتناسونهم ويفرحون بالهبات
التي تصل إليهم بانتظام من جهات متباعدة متباينة، وسواء أكانت الجهات عدوة أو صديقة، فإنها في النهاية لا تصب في صالح القضية المصرية بأي حال.
إننا نتفهم ونبتلع مرارة وغصة تسليمنا بأن الذئاب حينما تسيطر على مراعٍ كاملة مما تظنه غنما، نتفهم أن الذئاب تريد "تغنيم" البشر أو
"استنواقهم" ليسهل عليهم حكمهم، طبعا نقصد الذئاب البشرية من جنرال مصر،
وطبيب عيون سوريا، وأستاذ القانون الأسبق في تونس، وهلم نصبا وخفضا وتلاؤما وتسكينا
وضما مريبا مريرا، لكن من غير المعقول أو المقبول شعوريا، وإن كان واردا نظريا أو
عقليا، ويميت قهرا وظلما وكبتا وكتمانا للأنفس، أن يكون هناك صديق مقاوم سلمي
معترض فيحرص على مصلحته في بلد مثل مصر، يهتم بالأموال التي تدخل جيبه بصورة
مستقرة شهريا وأسبوعيا ويوميا، ويترك القضية وأهلها في صحارى وفيافي ومعمعة
التناسي والتغافل وإدارة الوجوه للناحية الأبعد، وتزداد القسوة لما يعينه على
الأمر البعض بصف آخر مفترض أنه مهندم، منظم، يجيد معسول الكلام، يوحي بعضه لبعض
بزخرف من الأقوال والأعمال.
فأصل المصيبة، هي أن من صفوف المعارضة مَن اعتادوا عدم التدقيق في الصفوف
التي تليهم، أو أنهم ظنوا أن الدنيا فُتحت عليهم، فمن حقهم ترقية مَنْ يستحقون
ومَنْ لا، ثم إنهم موجودون في الحياة بجوارهم، يتدخلون في الوقت المناسب. ونزعة
الفردية تسيّدت حالتنا السياسة رغما عنا أو بتقبلنا، المهم أننا نجيدها كشرقيين،
فلما جاء الجنرال والفسدة اغتالوا بقاء الصف الأول، سجنوهم، ومن ثم تصبح حسنات
وقدرات الصف الأول على إدراك الموقف وإبعاده عن السقوط بالكلية، منهارة تماما. وما
سبق كله لا يمنع أن الصف الأول -خفف الله عنهم ورحم الذي سبقونا إليه- متورط بعضه -على
الأقل- للأسف أيضا في اتخاذ قرارات أودت ببذرة الحرية وثمرة الربيع العربي غير
الناضجة.. أودت بهما في طريق نتمنى أن تكون له عودة.
ولما جاء البعض من غير المُدققِ في اختيارهم لسدة الصفوف الأولى بعد تموز/ يوليو
منذ عشر سنوات أرهقوا مصر والأمة؛ إذ إنهم غير مؤهلين -إلا مَنْ رحم ربي تعالى- لا
للقيادة ولا حتى للحفاظ على مواقفهم ومواقعهم المتردية، بل إنهم يرصدون -إلا قليلا-
مغانمهم ومكاسبهم الخاصة اللصيقة بهم والفوائد التي ستعود عليهم، ويتفننون في
اختيار أمثالهم من الصفوف التي تليهم، ومن ثم معاقبة مَنْ يَنتبه ويُنبه لأمرهم
وخطورتهم وضياع الكنانة ومزيد من تردي الأمة بناء على منفعيتهم وأفعالهم، ومن ثم يضطر الشرفاء الفعالون لاعتزال الموقف متبرئين من العدو المستبد القاتل والصديق
المفترض المتصالح مع المصالح غير المهتم أو الآبه بهم.
أعرف اسما وأحتفظ في الذاكرة بصورة لرجل فاضل لم ألقه ولم أحدثه، لكنني لا
أنسى صادق قصته ولا لأخالني سأفعل، وصدق القائل: "لا يعرف النار إلا مَنْ
يكبشها "يلمسها مضطرا". ذهب المناضل الحقيقي لطبيب القلب الذي يعالجه في
الغربة طالبا منه تخفيف الأدوية لأنه لا يقدر على سعرها، فحذره الطبيب من أن نتيجة
ذلك قد تكون الوفاة، فقال المريض بالقلب وبتدهور أحوال النضال العامة: "خففها
لي أو أخففها لنفسي"، فلما قلل الطبيب الأدوية التي يتناولها الفاضل توفاه
الله بعدها بأسابيع.
وأعرف فاضلا اضطروه في الغربة للتخلي عن زوجة تعاودها آلام،
أرسلها لمصر مع الصغار، ورجته من هناك أن يعيدهم إلى جواره فاعتذر بضيق الإمكانات،
فاضطرت الظروف القاهرة الزوجة لحادث مرير ذهبت للقاء ربها على إثره برفقة أغلب
الأبناء، وبقي الرجل يبكي دما لما يتذكر رجاء طفل ينطق بالكاد قبل وفاته بقليل أن
يأتي لإنقاذهم.. وأعرف وعايشتُ ورأيتُ وشاهدتُ ما يُبكي دما من خيانة بعض من رفاق
الطرق بعد الأباعد.
لكن: وماذا بعد؟!
كل يوم يتم إلقاء القبض على معارضين للنظام لمجرد وضعهم علامة إعجاب على
موقع للتواصل الاجتماعي، أو كلمة حق قالوها هنا أو هنالك، أو انفجار نفوسهم بالغضب
لكثرة الضغط.
ولا يمر شهر دون وفاة معتقل أو أكثر في السجون، مع تردي الأحوال الصحية
لكثير من
المعتقلين إن لم يكن أكثر!
ومن المعارضين المصريين في الخارج مَنْ كوّن البعض منهم ملايين الدولارات
وشروا قصورا وبنايات وسيارات، ولا ضير في كل هذا ما لم يرتبط بالنضال ويجيء بالتربح
من ورائه والمال -عفوا- الحرام، فلا مفردة أخف أو أكثر لطفا منها هنا. وهناك
مصابون لا يجدون تكاليف جراحة، بل إن من المصابين مَنْ تم التلاعب بهم بواسطة طرف
من رفاق الدرب، لتجرى لهم جراحة خاطئة ويتركوا بعدها!
وهناك ما يصعب قوله عن محاكمة معارضين مصريين "خفية" لمخالفين
لهم في الرأي بنفس الموقف ومنعهم من العمل، ومعروف ما حدث لزميل على الأقل من
اضطرار للنزول لمصر من جراء هذا الفعل ولقي السجن والتعب والنصب.
عافى الله الجميع، وإنما ما ندركه في الدنيا بما نظنه تفدرا وفهلوة وشطارة
منا، نحاسب عليه في الآخرة شئنا أم أبينا، وصدق القائل: إن من أسوأ الناس، الذين اغتنوا
على حساب أمتهم في وقت محنتها وضعفها!