لعلَّ سائلاً يتعجَّبُ من ربطنا قصَّة داوود وجالوت بمسؤولية المثقف -التي
أفردنا لها عددا من مقالاتنا السالفة- حتى نختم بها هذه السلسلة؛ كأن المثال أو "النموذج
الداوودي" -في الحركة- هو المآل النهائي والصورة المبتغاة من تعريفنا
المثقَّف، ومحاولتنا بلورة مسؤوليته الاجتماعية والتاريخية.
والحق، أن مفتاح قصَّة نبي الله داوود عليه السلام، هو عينه الرابط
عندنا بين داوود والمثقَّف الحديث. إذ لم يكن النبي الكريم مذكورا في القصَّة أصلا،
بل كانت قصَّة أحد أنبياء بني إسرائيل السابقين عليه، وتملُّك طالوت عليهم بأمر
الله، ومُعارضة قومه لهذا
التكليف الإلهي، ثم خروج طالوت للجهاد، واختبار من خرج
معه من قومه، حتى برزوا لجالوت؛ ليظهر داوود حينها "فجأة" على مسرح
التاريخ؛ يظهر من رباط علم الله الأزلي إلى شهود بني آدم، ومن خمول رعي الغنم في
أقصى الهامش الاجتماعي إلى سُدَّة التاريخ؛ بقتل عدو الله ونيل أسمى عطاياه سبحانه
وتعالى مُجتمعةً: الملك والحكمة (النبوَّة).
وقد كان أول ظهور لنبي الله داوود من أواخر الصفوف، بل ربما من خارج
هذه الصفوف أصلا، التي سبق لله تعالى امتحانها مع طالوت؛ إذ يُروى أن أباه أرسله
بزاد لإخوته المقاتلين في صفوف جيش طالوت، فقد كان داوود نفسه صغير السن والحجم
على القتال، ولأجل حمل الزاد؛ ترك مرعاه ورباطه. لكنَّ المقطوع به أن أول ذكره،
وسبب علو ذكره في الأولين والآخرين؛ علم الله الأزلي بما في قلبه عليه السلام،
واصطفاؤه له؛ حتى اخترق بحوله -سبحانه وتعالى- الصفوف وتبوّأ مُقدمتها، وهو في
ظاهره ربما كان أهون من في جيش طالوت. وكأنه عليه السلام تأسيس قرآني وتاريخي
متينٌ، للمبدأ الذي قبسه أهل التصوف بعدها، وصاغه سيدي ابن عطاء الله في قوله:
"ادْفِنْ
وُجودَكَ في أَرْضَ الخُمولِ؛ فَما نَبَتَ مِمّا لََمْ يُدْفَنْ لاَ يَتِمُّ
نِتَاجُهُ".
هذا يعني، أن إظهاره على مسرح التاريخ لم يرتبط بطول خبرة في الحروب،
ولا بطول مُعالجة لشؤون السياسة، ولا حتى بالامتحان النفسي الشاق مع طالوت الملك
والنبي الكريم الذي كان يصحبه، وإنما ارتبط كُليّا ونهائيّا بصدق قلبٍ علم الله
ما فيه؛ فاصطفاه لخدمته، ودفع بصاحبه -صغير الحجم والشأن- دفعا مُعجزا من أقصى
الهامش، من الصفر، من خمول الذكر التام؛ إلى الملك والنبوة مُجتَمعين. فأظهر الله
راعي الغنم الصغير الضعيف على الملك الضخم الجبار، وقتل ربنا تعالى الأخير بحجر صغير في مقلاع ذلك النبي المكرَّم. وهو لعمري عين الناموس الذي أراد الله تعالى أن
تنشأ بموجبه دعوة خاتم النبيين -عليه وآله أزكى الصلوات والتسليمات-، وتتبلور وتنضج
بالإخلاص وصدق التوجُّه، حتى يأذن المولى بخروجها إلى العالم، وانتصارها للحق الذي
أرسل به حضرة رسوله -عليه وآله الصلاة والسلام-، متى علم صدق حَمَلَتها في طلب
مرضاته وحده.
هذا الإظهار الإلهي "المفاجئ" للبشر، هو وحده مفتاح فهم
الناموس آنف الذكر. إن صناعة التاريخ ليست منوطة -بالضرورة- بمن طال بروزه فيه،
وكثر ولوغه في أحداثه؛ وإنما منوطة بإرادة الله تتنزَّلُ على قلبٍ صدق في معرفته
والإخبات إليه، وطلب ما عنده؛ فتحرَّى نُصرته في نفس صاحبه، حتى رضي الله له
نُصرته في الأنام. وهذا ما كان داوود عليه السلام مثالا له، حتى ذكر الله لنا
تسبيحه وتسبيح الجبال والطير معه -بإذن الله-؛ توثيقا لهذا الانسجام النبوي التام
بين التكوين والتشريع، بوصفه تتويجا للنُصرة الجوانيَّة، وافتتاحا للنُصرة
البرانية.
وإذا كان نبي الله داوود -عليه السلام- قد رابط في سبيل الله
مُتعبِّدا وراعيا للغنم، قبل الفتح الإلهي بالملك والنبوة وتعليم الله إيَّاه
صناعة الدروع الحربيَّة، فإن حضرة سيدي صلى الله عليه وآله وسلم رابط طويلا في
تحنُّثه ورعيه الغنم، ومباشرته التجارة، حتى بلغ أربعين سنة من عمر حضرته المبارك،
حينها أنزل الله عليه ما شاء، وأتمَّ عليه الاصطفاء؛ فخرجت نفسه الشريفة الكاملة -بإذن
الله وحده- من خبء التربية الإلهيَّة إلى الاضطلاع بالتكليف الإلهي في العالم
البراني. وإذا كان رباط النبي -أي نبي- تربية مباشرة من الله جل شأنه، واصطناع له
على عين العليم الحكيم، وتهيئة له للاضطلاع بدور المثال الحي الذي يتجسَّد فيه أمر
السماء، فإن رباط الولي/ المثقَّف/ الفقيه/ الداعية/ المتكلم/ الصوفي، بعد انقطاع
وحي السماء وختم النبوة، ينتمي للنوع نفسه، بما أنه وريث النبوة والإمامة في بني
آدم، وريث المهمة وحامل الأمانة، في ضوء ما سنَّه حضرة النبي الخاتم، صلى الله
عليه وآله وسلم.
وكما سبق منَّا القول: فإذا كان "المرابِطُ التقليدي" يلزم
ثغور دار الإسلام، ليمنع تعدي سائر الأمم عليها، وهو في ذلك عابدٌ زاهد قد صَغُرَت
الدنيا في عينه؛ فإن المثقَّف الملتزم يتخلَّق بأخلاق المرابط، ويسلُك سبيله. بيد
أن الثغر الذي يُرابط عليه ثغرٌ معنوي في المقام الأول؛ إذ تصير مهمته الأولى هي منع
انكفاء القُطر الذي يسكُنُه على نفسه، والحيلولة دون انقطاع صلات هذا القُطر
بأمَّة الإسلام. فهو مُتعبَّد برباط شاقٍّ يُجاهد فيه لحفظ نفسه ورسالته، ثم لحفظ
الصلة الأممية لمسقط رأسه ومجتمعه، حتى يأذن الله بانفتاح هذا المجتمع انفتاحا إلهيّا صادقا كاملا على بقية مجتمعات الأمَّة. وقد صار هذا الرباط يقتضي من
المؤمن اليوم مُكابدة هائلة، ومعيَّة كاملة، وسعيا حثيثا للخمول الاجتماعي مع
الهمَّة النفسية، حتى ينضج ما شاء الله له أن ينضج.
والناظر
لهذا الرباط في ضوء التكليف الإلهي العام لبني الإنسان، ثم في ضوء التكليف الإلهي
لأمة الخاتم -صلوات الله وسلامه عليه وآله- بوصفها أمَّة الشهود، ووريثة الرسالة؛
يجب أن يضع نصب عينيه قاعدة لا تعدلها أخرى في الأهميَّة عندنا، وهي: "اغتنم
فراغ عُسرك قبل انشغال يسرك"، وهي من مشكاة حديث اغتنم خمسا قبل خمس لسيدنا
رسول الله(1)، وخلاصته التي نرى أنها مفتاح تنزيل الحديث على الواقع، مع التنبيه
على أن وصفي "العُسر" و"اليُسر" إنما يُعبِّرانِ عن المظهر
البراني لأطوار الحركة والدعوة، وليسا توصيفين كاملين أو شاملين أو نهائيين، أو
حتى دقيقين، وإنما مُجرَّد توصيفين إجرائيين لتعزيز الفهم، وإلا فإن كل أطوار
السلوك إلى الله يُسر ما دُمت تستظلُّ بمعيَّته جلَّ شأنه، وتتفيأ نعيم إذنه لك
بإلإقبال عليه.
وإنما
أردنا بهذين الوصفين الفصل بين مرحلتين وحقبتين، الأولى التي تستمرُّ أبدا، وهي
الإعداد الذي كُلِّف به ابن آدم في كل وقت وحين، والثانية التي تتنزَّل بأمر الله
ومشيئته وحده؛ أي تمكين الداعية المستعد -في علم الله- من نُصرة الله في الوجود
البراني كما نصره في العالم الجواني، فإن أكثر الخلق ينظر لفترة الإعداد الأولى
بوصفها عُسرا، وهي كذلك -بصورة ما-؛ لأنها أشق وأدوَم، علاوة على كونها مناط تكليف
المؤمن في كل حين. وذلك كما ينظر أكثر الخلق لخروج
الدعوة من النفس إلى المجتمع
بأنه اليُسر كله، إذ ارتبط عندهم بتمكين مادي، ورخاء وارتخاء!
بيد أن نمط الحركة التاريخية النبوية يُبين لنا أن مرحلة الإعداد
صيرورة دائمة، وأن خروج المؤمن بالدعوة إلى العالم البراني فتنة في كل شيء، لطالما
أخفق ابن آدم في معالجتها؛ إلا من رضي الله له عصمة منها. لهذا، كانت حقيقة اليُسر
والعُسر معا هي التلاقي في رباط دائم، يسبح فيه المرابط ضد تيار نفسه الأمّارة
بالسوء، الراغبة في الإخلاد إلى الأرض، وضد تيار المجتمع الذي يُزين له ذلك، ويسوغه
له بشتى الحجج. وهي سباحة طويلة بطول عُمر الفرد، وتلزمها طاقة نفسية هائلة، ومدد
إلهي لا ينقطع، خصوصا حين يوقن المثقف أنه مرابط، ولا يعود يرى في "
الهجرة"
طوبيا موعودة من الرخاء والارتخاء!
ولا شيء يُعين الله تعالى به على تحمُّل إنهاك هذه السباحة المستمرَّة، إلا همَّة يبُثُّ فيها إقبالا عليه بحوله، ثم تثبيتا من لدنه، ثم راحة يغمرك بها، إذ تطرد بإذنه وحوله مع ما مَنَّ عليك به من اعتقاد؛ فإنها راحة أعمق تجذُّرا وأعظم أثرا من "راحة" مؤقتة قد يجدها من فُتِنَ بالسباحة مع التيار. إن
هذا الاطراد نفسه معيَّة إلهيَّة وراحة حقيقيَّة، تملأ النفس سكينة واطمئنانا،
ولو نهشت بدنك الآلام.
وسنواصل في الجزء الثاني والأخير تفصيل طبيعة هذا الرباط وكيفية
معالجته؛ فالله المستعان.
__________
(1) أخرج الحاكم وابن أبي
الدنيا والبيهقي في شُعب الإيمان والمنذري في الترغيب والترهيب، من حديث عبد الله
بن عباس؛ أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل وهو يعظه:
"اغْتَنِمْ خَمْسا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ
سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ
مَوْتِكَ".
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry