آن الأوان لأن نقطع عرقاً ونسيّح دمه، أو كما قال المثل
المصري دليلاً على الإنجاز، وعدم اللف والدوران!
وقد بدت عملية استقبال
اللاجئين السودانيين كما لو كانت "كرم
أخلاق" من قبل السلطة الحاكمة رغم التيار العريض من المصريين الرافض لذلك،
فضلاً عن استغلال الأوضاع الحاصلة في السودان لإثبات أن النظام هو صاحب الفضل في
أن ننجو من هذا المصير، ومن ثم يكون مطلوباً منا شكر الظروف، بل وشكر الفشل، مع
تقبيل أيدينا مقلوبة ومعدولة، لأننا لم نصل إلى ما وصل إليه الأشقاء في جنوب
الوادي، فمن نظر إلى بلوى غيره هانت عليه بلواه!
في اللحظة التي تم الإعلان فيها عن فتح الحدود لاستقبال
اللاجئين السودانيين، كانت تعليقات الذباب الإلكتروني غير مرحبة بقرارات السلطة، على
غير العادة، ولكنها اعترضت عليها، على نحو يوحي كما لو كان هذا الرد على كثافته
تعبيراً عن الرأي العام المصري الرافض لاستقبال اللاجئين، ليبحثوا لهم عن مكان آخر،
وذلك رغم أن هذه الإرادة تجلت في هذا الاحتفاء الواسع، وفي كل محافظة وصل
السودانيون إليها!
أعداد اللاجئين في مصر:
وليس من قبيل الصدفة، أنه في هذا الوقت بالذات نشر تقرير
للتعبئة العامة والإحصاء يفيد أن عدد اللاجئين من جنسيات عربية مختلفة في مصر، هم في
حدود (16) مليون لاجئ، منهم قرابة الـ(4) ملايين من السودان فقط، قبل الأحداث
الأخيرة بطبيعة الحال!
ولا نسلم بهذا الإحصاء ولا ننفيه، لكن هذا الترويج له
على نطاق واسع هذه الأيام، مع تدافع حشود الذباب الإلكتروني مستنكرة فتح الباب
للاجئين، هو لتصدير ضجر المصريين من أن تستقبل بلادهم لاجئين جددا، الأمر الذي
يجعل من موقف السلطة بفتح الباب لاستقبالهم وقوفاً ضد إرادة الرأي العام المصري،
بما يمثل انتباهاً من العالم الغربي لكفالة اللاجئين هؤلاء.
والحديث عن استقبال مصر ملايين اللاجئين لم ينقطع، وفي
كل خطاب للسيسي في أي محفل دولي أو في لقاءات خارجية، يعيد ويزيد في هذه النغمة،
حتى بدا حديثه في كثير من الأحيان خارجاً عن السياق، وإقحاماً عليه، من أن مصر
تستقبل ملايين اللاجئين، لكنها ولحفاوتها بالضيوف لا تُسكنهم في معسكرات أو خيام،
فإذا لم ينتبه الغرب لعدم وجودهم فنظراً لأنهم اختلطوا بالمصريين فلم يعد أحد يميز
بينهم. فما الخطب؟!
ليس خافياً على أحد أنه بعد غزو العراق، فإن مصر
استقبلت أعداداً من العراقيين، الذين أقاموا في مدينة السادس من أكتوبر، لكنهم لم
يكونوا من الفقراء، فقد جاءوا إلى مصر وكانوا سبباً في عمران مدينة كان المصري
يفكر بدلاً من المرة ألفاً قبل أن يذهب للعيش فيها، مع ندرة المواصلات التي تربطها
بالقاهرة والجيزة، وكانوا سبباً في ارتفاع أسعار العقارات إلى درجة كبيرة، كما جاء
السوريون وأعداد أقل من اليمنيين والليبيين، لكنهم لم يكونوا من الفقراء في
أوطانهم، وجاءوا لمصر فأقاموا المشروعات الناجحة كما فعل السوريون، فلم تكن إقامتهم
بعيداً عن المخيمات لأن الدولة وزعت عليهم المساكن، فقد اشتروها بأموالهم!
وإذ فتحت مصر الباب لاستقبال اللاجئين السودانيين قبل
ثلاثين عاماً، حتى قُدروا بخمسة ملايين لاجئ بحسب تقارير صحفية، أو ثلاثة ملايين
بحسب مبارك نفسه، فليس خافياً على لبيب أن قلة اعتبرت أن القاهرة دار ممر لا
مستقرا، ومن ثم تقدموا بطلبات اللجوء في سفارات الدول الغربية، فأخذت منهم من أخذت،
وتركت من تركت، وكان هذا الاستقبال لأن نظام مبارك اتخذ موقف المعادي لانقلاب
عسكري قاده الترابي، ولم ينقطع التفكير في عودة النميري أو التلويح بعودته، إلا
بمغادرته مصر والاستقرار في السودان بعد فقد الأمل في إسقاط البشير، وبين الحين
والآخر كانت السلطة تجمع السودانيين في مسرح من المسارح، ليخطب فيهم النميري مبشراً
بقرب العودة، ثم ينساه الناس وينسونه!
القربة المقطوعة:
وبعيداً عن حقوق الجار على جاره، لا سيما إذا كان هذا
الجار هو من السودان حيث عمق مصر الاستراتيجي، فإن من يحمل على رأسه قربة مقطوعة
يتحمل سقوط مياهها عليه، والنزوح السوداني الأخير كان بعد اقتتال الجيش السوداني وقوات
الدعم السريع، وقد دفع أهل الحكم في مصر في هذا الاتجاه لإنهاء وجود المليشيات،
ووقف الاتفاق الإطاري الذي يمهد لانتقال الحكم للمدنيين، وأزمة القاهرة بعد 30
يونيو في هذه الانحياز اللافت لفكرة الحكم العسكري، الأمر الذي نتج عنه أزمة في
السودان وفي ليبيا، فما لهم والتدخل في شؤون الغير، والقدر الذي يجعلهم أصحاب صفة
في إبعاد الدعم السريع من الوجود، هو نفسه الذي يجعلهم يتحملون ضريبة هذا إذا
تعاركت الفيلة، كما أن عليهم دفع ثمن هذا التصور المتواضع عن إمكانية الجيش في طي
ملف مليشيات
حميدتي في ظرف ساعات، بعدها يحق للجنرال
البرهان وقد انتصر في
المعركة، أن يُحكم بقبضة من حديد باعتباره الحاكم المتغلب، ويلغي الاتفاق الإطاري
وما يمكن أن ينتجه من آثار، أخصها أن يحكم السودان حكماً مدنياً، قد ينجح -نجاح
نموذج تركيا- فيثير حنق المصريين على الحكم العسكري!
فعندما يخيب الظن، وتفشل المخططات، فإن من شارك فيها ولو
بشطر كلمة عليه أن يتحمل تبعات قراراته الارتجالية، لا أن يجلس في موقعه ثم يطالب
الخارج بعدم التدخل في شؤون السودان، وكأنه لم يتدخل هو!
إن قيادات الجيش التي لفظتها الثورة السودانية في
بدايتها، لفظها لصلاح قوش مدير المخابرات القوي، يعيشون في مصر، وبذات الصفة التي
استقبلتهم فيها القاهرة وجب عليها استقبال اللاجئين، فإذا كان لها أن تتصرف على أن
الأمر لا يعنيها، فلا مبرر أبداً لبقاء هؤلاء في القاهرة، فإما أن يعودوا لبلادهم،
أو يتم فتح ممر آمن لهم للخارج، لا أن يظلوا أوراقاً بحكم كون القوم يتصرفون على
أن لهم إرادة في السودان، فإذا فشلوا كان على الشعب السوداني أن يتحمل بمفرده تبعات
هذا!
إننا نعلم أن الاتجاه الذي دفعت له اللجان الإلكترونية،
هو تصرف واضح بتحويل قضية اللاجئين السودانيين إلى سبوبة مع الاتحاد الأوروبي
وغيره، لأن البديل هو ترك هؤلاء يغادرون إلى أوروبا، وإلا إذا كانت تاهت ووجدناها؛
والحال كذلك، فلماذا لا نغض الطرف ليغادر من يريد منهم إلى أوروبا، لأن مصر في النهاية
ليست ضمن خفر السواحل التابع للاتحاد الأوروبي؟!
حال السوريين
إنه إذا جاز تحويل الأوضاع في سوريا إلى مثل، للدعاية
بأن السيسي قد جنب المصريين مصير السوريين، فالأمر ليس جائزاً في الحالة السودانية،
ليس فقط لأنه إذا كان من أحد يشكر هنا فإن الشكر ينبغي أن يكون موصولاً لمبارك،
لأنه لم يتمسك بالسلطة كما فعل بشار الأسد، ولكن أيضاً لأن تجربة السودان هي إعلان
فشل للحكم العسكري، الذي منح الشرعية لمليشيا حميدتي من أجل حماية الحاكم العسكري،
فلما قامت الثورة استمر قائد الجيش في الاعتراف بها، لتكون حمايته في الاستيلاء
على السلطة، ثم كانت الحرب لطمعه -كذلك- في السلطة. والحكم المدني المنتخب كان
سيجنب البلاد ويلات ذلك، وكان سيُبقي على السودانيين في وطنهم!
لأسباب يطول شرحها، فإنه لم يكن بإمكان مبارك أن يستمر
في الحكم، ولأسباب خارجية تم الإبقاء على بشار الأسد، ومع هذا فإن الفضل في تجنيب
مصر مصير السودان وسوريا، إنما يعود لطبيعة المعارضة المدنية التي مارسها
المصريون، فلا ننسى أنه تم تسليح المعارضة السورية، كما أن معارضة البرهان (الدعم
السريع) مسلحة أيضاً، وأن الصراع في السودان بين قوتين تحملان السلاح، ولا ناقة
ولا جمل للمواطن المدني في الأمر!
إن المذابح التي ارتكبها الجنرال، تجعل الخلاف بينه وبين
بشار الأسد في الدرجة وليس في النوع، لكن تجنيب مصر نفس المصير، إنما يُحسب لخصومه
الذين رفعوا منذ اليوم الأول شعار: "سلميتنا أقوى من الرصاص"، فلم يكرروا
أخطاء المعارضة السورية، التي اعتقدت أنها تواجه جيش الأسد بمفرده، فإذا بها تجد
نفسها أمام الجيش الروسي، والإيراني، والإسرائيلي، وحزب الله!
فضوها سيرة!
twitter.com/selimazouz1