الأرجح أنّ رأس النظام السوري بشار
الأسد اشتاق إلى تلك المناسبات السالفة التي أتاحت له أن يتفلسف على هواه، في السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد والثقافة؛ فانتهز فرصة كلمة الترحيب بالرئيس
الإيراني إبراهيم
رئيسي، زائر دمشق هذه الأيام، فخاض في بعض هواياته الكلامية الأثيرة. ولقد بدأ بإطراء مواقف نظامه ونظام الملالي في إيران، معاً، التي حالت دون أن يكونا «كقطعة خشب ملقاة في البحر تأخذها الأمواج حيث تشاء»؛ ثمّ سارع إلى ذمّ «تقديم المزيد من التنازلات تحت عنوان الانحناء للعاصفة» بوصفه «السبب في تعزيز السياسات الاستعمارية عبر العالم».
وهذا الذي يتشدق حول أخشاب تتقاذفها البحار أو انحناء أمام العواصف، هو نفسه الذي يغتصب رئاسة بلد واقع تحت خمسة احتلالات إسرائيلية وروسية وإيرانية وتركية وأمريكية، فضلاً عن كتائب «حزب الله» اللبناني وعشرات الميليشيات المذهبية المأمورة من «الحرس الثوري» الإيراني و«الحشد الشعبي» العراقي، إضافة إلى جهاديين إسلاميين من كلّ حدب وصوب. ولا يجلس على يساره، خلال إلقاء موعظته الخرقاء، سوى مغتصب للرئاسة في إيران، أتى إلى المنصب من حقول إعدام الآلاف من طلبة المدارس والشبان والناشطين الإيرانيين، خلال حقبة 1988 الدامية الوحشية، الذين لم يكن لهم من ذنب سوى المطالبة بإصلاحات بالغة البساطة.
وإذا كانت وسائل الإعلام، على اختلاف انحيازاتها، قد التقطت سمة أولى طبعت الزيارة، هي كونها الأولى لرئيس إيراني إلى دمشق منذ 13 سنة؛ فإنّ سمة أخرى كانت وتظلّ جديرة بالاستذكار، هي أنّ الأسد سبق أن زار طهران مرّتين، على نحو معلن، في شباط (فبراير) 2019 وكان حسن روحاني رئيساً لإيران، وفي أيار (مايو) 2022 وكان رئيسي قد تولّى الرئاسة؛ كما استقبله، خلال الزيارتَين، المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. هذا تفصيل أوّل قد يخصّ مؤشر التبعية وأيّ الطرفين يحرص على إرضاء الآخر، بافتراض أنّ نظام آل الأسد «طرف» بأيّ معنى للتناظر مع نظام الملالي؛ لكنّ الشطر الثاني منه، الذي يتصل بزيارة رئيسي إلى دمشق، يكتسب أهمية خاصة من زاوية أولى محددة، لعلها الوحيدة التي تستحق معنى الجديد في ميزان التبعية.
وهذا الشطر هو أنّ رئيسي في مجيئه إلى دمشق، وليس الأسد في هرولته إلى طهران على دفعتين، إنما أتى وجدول أعماله شبه الوحيد هو تحصيل الإيرادات عن سنوات طويلة من الإنفاق المادي على النظام، نفطاً وسلاحاً وعملة صعبة وصيرفة. اللافتة المعلنة، كما نطق بها رئيسي نفسه، هي الحضور الإيراني في صفقات إعادة الإعمار التي قد تكون على وشك الإبرام، على ضوء مقايضات محتملة مع أنظمة مثل الإمارات والسعودية. وأمّا تجسيد ذلك على الأرض فلم يكن خافياً بدوره، ليس على صعيد ما سُمّيت «مذكرة تفاهم لخطة التعاون الشامل الاستراتيجي طويل الأمد» فقط، بل كذلك حول سلسلة اتفاقيات في ميادين الطاقة والزراعة والنقل والاتصالات والثقافة (والمقصود هنا: تسهيلات الحجّ الإيراني إلى الأماكن الشيعية المقدسة في سوريا)…
حساب الإيرادات والأرصدة وسداد بعضها ليس، مع ذلك، باليُسر الذي قد يبدو عليه للوهلة الأولى، اتكاء على عوامل عديدة يصحّ الترجيح في أنّ القرار حول الكثير منها ليس في عهدة النظام أصلاً، سوى تلك التي لا يملك بصددها أيّ تخويل. العامل الأوّل، ولعله الحاسم أكثر من سواه، هو ذاك الذي تقول به القاعدة العتيقة الصارمة، في أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وليس في وسعه أن يعطيه أصلاً مهما ادعى وتشدّق. فالمليارات الموعودة في مظاريف إعادة الإعمار رهن قرارات مراكز دولية مثل مؤتمرات الدول المانحة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وهذه ليست حتى الساعة على وشك الترخيص بدولار واحد يذهب إلى المصرف المركزي السوري شكلاً؛ ولكنه ينتهي سريعاً إلى خزائن آل الأسد وآل الأخرس، ثمّ الشركاء وصغار الكسبة هنا وهناك في منظومة الفساد المافيوزية.
العامل الثاني هو أنّ أيّ اتفاق بين النظامَين، الملالي في طهران وآل الأسد في دمشق، ليس مضمون الإذن أو القبول أو الترخيص من القوى الأخرى التي تحتل مناطق في سوريا، وتمتلك بالتالي أوراق ضغوط ومساومات واستحقاقات؛ على غرار الوجود الروسي مثلاً، حيث يصعب تخيّل موسكو راضية عن تسليم استثمارات ميناء اللاذقية إلى طهران الراغبة في تحويله إلى منفذ بحري إيراني أوّل على المتوسط، كما يتردد. الحال ذاته يمكن أن تنطبق على استثمارات روسية عديدة في سوريا، أبرزها الفوسفات (ثلاثة مليارات طن من الاحتياطي) الذي تسيطر القوات الروسية على مواقعه، ويسيل لعاب طهران على اقتسام موارده مع موسكو. ثمة درجات أخرى من التنافس حول تطوير مطار دمشق واستثماره، أو إنشاء مطار جديد بطاقة استيعاب أعلى، ومثله مطار حلب والقامشلي وميناء طرطوس؛ وفي أواسط آذار (مارس) الماضي كان الأسد نفسه قد أعلن من موسكو عن أكثر من 40 مشروع استثمار روسي في سوريا.
عامل ثالث يتصل من جانبه بقاعدة قديمة بدورها تخصّ انقلاب السحر على الساحر، إذْ أنّ نظام آل الأسد الذي أقام الحكم والتحكم والتسلط على شبكات الولاء والنهب والتكسّب، لن يفلح بسهولة في تذليل مصاعب (وربما استحالة) عقد شراكات بالتراضي بين كبار أمراء الحرب ضمن العائلتَين الأسدية والمخلوفية، وكبار قادة ميليشيات النظام الطائفية، وكبار المستثمرين والفاسدين من ضباط الأجهزة الأمنية والجيش، من جهة؛ وأيّ، وكلّ، استثمار إيراني يمكن أن يقتسم الكعكة مع هؤلاء، في مناطق الساحل السوري بصفة خاصة، من جهة ثانية. هذه مسألة حياة أو موت على الطرفين، رأس النظام وآل بيته الداخلي واستثماراته، ورؤوس النظام الأدنى مرتبة ولكن ليس الأقلّ استثماراً أو استماتة في الحفاظ على النظام.
ولقد مضى زمن كان فيه «حزب الله» يلعب في مناطق الساحل السوري دور المبشّر الطائفي الروحي والميسّر المادي التجنيدي بالنيابة عن ملالي طهران، لكنّ قسطاً غير قليل من تلك الأدوار تذهب اليوم إلى «بو علي بوتين» وضباط الجيش الروسي في قاعدة حميميم.
يبقى عامل رابع يخصّ ما تبقى من قوام دولة في سوريا، على أصعدة البنى التحتية والمؤسسات والمنشآت وكلّ ما يتكفل عادة باحتضان استثمارات لها طابع تحصيل الإيرادات؛ وهذا اعتبار لا يقتصر على مستقبل أموال نظام الملالي في سوريا، بل يشمل أيضاً ما سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى انتزاعه من بشار الأسد خلال زيارة مفاجئة إلى دمشق، مطلع 2020، عاد بعدها خالي الوفاض. لقد تكفلت حروب النظام ضدّ سوريا، الدولة والشعب والمؤسسات والتاريخ، بتحويل البلد إلى حال متفاقمة من العطالة والفشل والشلل، فضلاً عن العوز والندرة والتجويع والغلاء الفاحش وهبوط العملة الوطنية إلى أسفل سافلين. وغير مستبعد، إلى هذا، أن يطوّب الأسد آلاف الهكتارات من أراضي سوريا لصالح سلطات الملالي أو شركات استقبال الحجيج الإيراني أو حتى تشييد الحسينيات، وأن تتعالى أكثر فأكثر الهتافات الطائفية «يا علي! يا علي!» التي استقبلت الرئيس الإيراني على دروب مطار دمشق.
وهذا لن يبدّل حقيقة أنّ رئيسي يأتي، اليوم، حاملاً لائحة ديون إلى أجير مفلس وتابع مرتهن؛ ولن يعود، أغلب الظنّ، بما هو أثقل من خفّيْ حنين!
(
القدس العربي)