في الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة
فلسطين، تأخذ فنانة التصوير الفوتغرافي صفاء الخطيب زاوية في توثيق النكبة، خصوصا وأن جدودها كانوا ممن عايشوها.
تمضي الخطيب في لقاءات مصورة مع جيل عايش النكبة، لتشكل ذاكرة محكية ومرئية، تصور فيها معالم النكبة وتفاصيلها في مقال مطول نشره موقع "
ميدل إيست آي" البريطاني.
وفيما يلي ترجمة المقال:
كان
ذلك في صيف عام 1948. بينما كانت سنابل القمح تجف بعد الحصاد في جران الجليل، قضى المزارعون
الليالي الدافئة يحتفلون بالأعراس ويمتعون أسماعهم بالأغاني الشعبية.
كانوا
يتنقلون من ساحة إلى أخرى ومن جرن إلى آخر يزفون العرسان. في ذلك الصيف تزوجت جدتي
لأبي، سروة إبراهيم الصالح، من شاب من أهل القرية هو محمد مصطفى العيسى.
لم يمر إلا أسبوعان على زفافهما عندما وصلت وحدة من لواء جولاني الصهيوني في السادس عشر من
تموز/ يوليو 1948. اعتقلوا 22 شاباً من أهل القرية وجروهم إلى حقول عنب وزيتون مجاورة
وأعدموهم بدم بارد. كان من بين أولئك الشباب زوج جدتي الجديد وشقيقها الوحيد، والذي
كان هو الآخر قد تزوج لتوه.
في ذلك
اليوم فقدت جدتي سندها، وارتدت قرية عيلوط أثواب الحداد على أربعين شهيداً ارتقوا في
مجزرتين اثنتين، كانتا نذيراً باحتلال صفورية المجاورة، ضمن مسعى القوات الإسرائيلية
للاستيلاء على الجليل والسيطرة عليه.
بالمجمل،
خسرنا كل فلسطين، وتم تدمير ما يزيد عن 500 قريبة وبلدة، وقع احتلال ما بقي من الأرض
وارتكبت عشرات المجازر، التي كانت الغاية منها إبادة السكان الأصليين أو إجبارهم على
الخروج من ديارهم. في نهاية المطاف، تم
تشريد 750 ألف فلسطيني أثناء النكبة بينما تمت
سرقة ديارهم وأراضيهم والاستيلاء عليها تمهيداً لإقامة دولة إسرائيل.
مرت
خمس وسبعون سنة على ذلك الحدث، وما زلنا ندفع الثمن حتى يومنا هذا. لم يسلم من النكبة
فلسطيني واحد، فقد أثرت فينا جميعاً وسلبت من كل واحد منا شيئاً. وما زلنا نقاوم كل
محاولات حملنا على نسيان ما حدث لنا كشعب، وما تعرض له أسلافنا، وما حل بآبائنا وأمهاتنا
وحل بنا، نحن أبناء الجيل الثالث والرابع من النكبة.
ظل الحزن
يطارد جدتي طوال حياتها، وحتى بعد أن تزوجت من جدي، حسين أحمد خطيب، ابن قرية العزير،
وأنجبت له ثلاثة أبناء وخمس بنات. وحتى وإن عاشت لترى لها عشرات الأحفاد وأبناء الأحفاد،
إلا أن الأسى لم يفارقها أبداً.
حلقت
كالعنقاء
توفي
جدي، المزارع الكادح، عندما كنت في السابعة من عمري. وفي عام 2008، عندما كنت في الرابعة
عشرة من عمري، توفيت جدتي سروة قبل أن تتاح لي فرصة الضحك معها، والتعرف عليها جيداً،
أو الاستفسار منها عن عائلتها وعن قريتها وعن كيف كانت حياتها. ولم تتح لي الفرصة حتى
لالتقاط صورة معها.
بموتها
شعرت أن بوابة كبيرة وواسعة نحو معرفة تلك البطلة قد أغلقت. فقد خرجت من بؤسها وحلقت
كالعنقاء، وقررت إغلاق فصل الفقد لتبدأ حياة جديدة مع فلاح فلسطيني آخر، فتحيي بذلك
ذكريات قديمة وتنشئ أخرى جديدة.
وبحثاً
عن تلك الذكريات، وجدتني أطرق أبواب جميع من كانوا معاصرين لجدي، ومن كانوا على معرفة
جيدة بجدتي سروة؛ من كانوا يحتسون معها قهوة الصباح، أو كانوا يزورونها في منزلها،
وكانت تعد لهم وجبات الطعام.
في الأيام
الأولى من جائحة كوفيد 19، كنت في كل فترة تتخلل إغلاقاً وآخر أغتنم الفرصة وأزور جيران
وأقارب والدي، وكلي شغف بسماع المزيد من ذكرياتهم. كانت الزيارات الأولى تبدو تلقائية،
يهيمن عليها الحديث عن الجذور والعادات والتقاليد.
ولكني
سرعان ما أدركت أهمية توثيق تلك الذكريات، فطلبت من صديق لي أن يعيرني آلة تصوير الاستوديو
الذي لديه، والتي لم يكن يستخدمها حينذاك بسبب الجائحة وتوقف كثير من الأعمال. ثم عدت
لزيارة هؤلاء الناس، وصرت هذه المرة ألتقط لهم صوراً وأسجل الأحاديث التي أجريها معهم
بواسطة كاميرا الفيديو.
أردت
أن أصورهم وهم في أفضل حللهم، مستخدمة أحدث آلات التصوير، من العدسات إلى الإضاءة رجاء
توثيق تلك اللحظات بأفضل طريقة ممكنة. وبينما كنا نحتسي القهوة في غرف معيشتهم، كانت
كاميرا الفيديو تسجل حديثنا حول طبيعة العلاقات التي ربطتهم بجدي، وتوثق حديثهم عن
النكبة وعما خاضوه من تجارب في اللجوء، وتوثق حكايات الحب فيما بينهم.
سرعان
ما أدركت أن دافعي تجاوز الرغبة في تعويض ما فقدته من ذكريات جدي، بل تطور إلى خوف
شديد من تكبد خسارة أخرى.
ما زالت
خالة والدي معنا اليوم، ولكن من ذا الذي يضمن أننا سنجدها غداً، تنسج الصوف في حجرتها،
كما تفعل اليوم؟ من يضمن لنا أنها ستكون موجودة لتشركنا معها في ذكرياتها الشخصية حول
النزوح واللجوء؟ في سعيي لتوثيق المزيد من الحكايات والأحاديث المصورة، كنت بمثابة
من يسابق الزمن الذي سرق مني جدي من قبل. انتقلت من الاهتمام الشخصي إلى شيء أضخم وأشمل.
حفظ
المعلومات
ما بدأت
أبنيه من أرشيف يحتوي على تاريخ محكي ومرئي، اتخذ شكل الذاكرة الحية، يحفظ المعلومات
التي كانت لدى جيل النكبة الأول، ويحول دون ضياعها، ويمنع في نفس الوقت ضياعنا، نحن
معشر الجيل الجديد من الفلسطينيين، ويحول دون انفصالنا عن هويتنا الوطنية.
نحن
سكان أرض شعبها لم تقنعه محاولات إسرائيل إحياء ذكرى "يوم الاستقلال" والاحتفال
به مرحاً وغناءً. كما أننا لم تنطل علينا أساطير "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض."
لقد
حاولت الدولة الإسرائيلية جعلنا ننسى جذورنا العربية والفلسطينية كسكان أصليين لهذه
الأرض. ولقد حثونا على حفظ قصائد حاييم نهمان بايليك ورافائيل، وأرادوا منا نسيان غسان
كنفاني ومحمود درويش.
ولكن،
وعلى النقيض من القول الشهير المنسوب إلى رئيس وزراء إسرائيل المؤسس – "سوف يموت
الكبار وينسى الصغار" – سوف نظل نتذكر. نعم، لقد فقدنا الكثيرين من كبارنا وشهدائنا
على النكبة، الذين قضوا نحبهم في مخيمات اللجوء في لبنان وسوريا والأردن أو في مجتمعات
الشتات في الولايات المتحدة وتشيلي وأستراليا، بينما كانوا يحلمون بالعودة إلى فلسطين،
إلا أن نظام التفوق العرقي الذي كرسه زعماء الدولة الإسرائيلية منذ احتلال فلسطين،
والحياة في ظل نظام فصل عنصري مقيت مستمر في قهرنا وفي التمييز ضدنا، لم يترك مجالاً
للنسيان.
لربما
كانت زياراتي لتصوير الأقارب والجيران والمعارف أثناء الجائحة تحركات بدائية ومتواضعة،
ولربما لم تغير جوهرياً من مسار ما ألم بنا من خطوب، إلا أن أمراً واحداً بات يقينياً،
ألا وهو أن هذه المحاولة – إلى جانب كثير من مشاريع التوثيق من قبل أفراد وصحفيين ومؤرخين
وفنانين تركيزاً على الجيل الأول للنكبة – تقف في مواجهة الإنكار والطمس والسلب الذي
نواجهه كشعب فلسطيني.
قدمت
المفكرة الأمريكية سوزان سونتاغ تحليلاً للصورة الفوتغرافية في كتابها "أون فوتوغرافي"،
حيث لاحظت أن "الفوتغرافية عبارة عن وسط تمثيلي للعالم الذي لديه أثر هائل في
طبيعة ثقافتنا الحالية. فالصورة نوع من القوة، وطريقة يمكن للبشر من خلالها السيطرة
على عالمهم. فعندما يصور امرؤ شيئاً فإن ذلك يرمز إلى درجة من التملك."
وهذا
يعني أنه من خلال التصوير، فإننا نضع أنفسنا في علاقة خاصة مع العالم الذي يمثل المعرفة،
ويمثل بذلك القوة. وسلطة التوثيق تزودنا كذلك بالدليل. فقد نسمع بشيء ولكن نرتاب فيه،
ولكن عندما نرى صورة له، يحصل الإقرار بأنه حدث.
لامبالاة
عالمية
لسنين
بعد نكبة 1948، ظلت مأساتنا كفلسطينيين غائبة عن الإدراك العالمي والأكاديمي. فبينما
كان العالم الغربي مشغولاً بإنجازه المتمثل بإنشاء دولة لليهود في فلسطين، تم تصوير
الصهاينة على أنهم أبطال تمكنوا من تجميع اليهود المتناثرين وجلبوهم إلى أرض واحدة
على حساب الشعب الفلسطيني، الذي لم يتعاف بعد.
أما
الفلسطينيون، فمازالوا مشغولين بنقل خيمهم من مكان إلى آخر، وبدأوا يضيفون لبنات رجاء
أن يقوا بها أنفسهم من حر الصيف وبرد الشتاء.
وبالتدريج
تحولت الغرف إلى مخيمات ضخمة مكتظة بالسكان. يوجد اليوم ما يقرب من ستة ملايين لاجئ
فلسطيني مسجلين لدى وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، بينما تجاوز عدد الفلسطينيين
عالمياً 14 مليوناً.
ولكن
لا يبدو أن أحداً يعبأ بقرارات الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان، أو حول حق العودة للفلسطينيين
لا في الماضي ولا في الحاضر. لا يعبأ العالم بالبيوت التي أغلقناها ورحلنا عنها بنية
العودة إليها، ولا ببيارات البرتقال المثمرة ولا بحقول القمح، ولا بأفراحنا أو أتراحنا،
ولا بوجودنا كشعب في هذه الأرض.
ومن
هنا فإنه يجب علينا كجيل ثالث أو رابع لهذه النكبة أن نجتهد في توفير الدليل، حتى لا
ننسى تاريخنا الشخصي أو الجماعي، وحتى لا ننسى ذكريات جداتنا الثكالى اللواتي أنشأن
آباءنا وأمهاتنا، وأنشأننا من بعدهم كذلك، وحتى لا ننسى موقع نبع الماء أو موقع المسجد
في حطين أو موقع الكنيسة في كفر بيريم.
إن الصور
دليل لا قبل لأحد بإنكاره وما لم نتمكن من توثيقه بالأمس يمكننا توثيقه اليوم.
شهادات
حية
أثناء
عملي في تجميع الأرشيف، والذي أعتبره شخصياً جداً وعاماً جداً في نفس الوقت، وجدت أن
التوثيق، وعلى الرغم من أنه ما يزال في مراحله الأولى، يعتبر دليلاً حياً لا قبل لأحد
بإنكاره. فهو يوفر لنا المعلومات، حتى لو كانت نزراً يسيراً، حول تاريخ شعبنا، وهي
معلومات تمنحنا القوة التي تتجسد في حقنا في هذه الأرض. وما ضاع حق وراءه مطالب.
فيما
التقطته من صور، هناك صورة لمختار قرية العزير، أبو علي الخطيب مع زوجته عايدة، التقطتها
لهما وأنا أحتسي معهما القهوة. رغم أن المهمة كانت شاقة، لأن ذاكرته وحالته الصحية
لم تسمح له بكثير من الكلام، إلا أن الأمر عنى لي الكثير. للأسف، توفي أبو علي بعد
عام من هذا اللقاء، تاركاً من خلفه تاريخاً طويلاً كمختار للقرية.
في صورة
أخرى، يظهر الحاج رضوان سعيد من قرية كفر كنا، وهو من مواليد عام 1929. وجدته من ألطف
وأطيب وجوه القرية. سمعته يغني لزوجته نجلاء صبيح التي ولدت في عام 1939، كان يغازلها
ويعرب لها عن حبه بطريقة لم أشهدها من قبل. وهو أيضاً توفي بعد عامين من لقائنا، تاركاً
خلفه زوجة وفية وعائلة كبيرة.
في اللقاء
الذي توثقه الصورة التي جمعتني بعم والدي، عبد المنعم الخطيب، من قرية العزير، ومعنا
زوجه فتحية سالم صقر من كفر كنا، سمعت منهما ذكريات حول التشرد. كما علمت منهما عن
أقارب لنا من قرية الشجرة في منطقة طبريا، بما في ذلك عائلة رسام الكاريكاتير الفلسطيني
ناجي العلي، الذي اغتيل في لندن في عام 1987 قبل أن يتمكن من العودة إلى وطنه.
أثناء
هذه الرحلة القصيرة، أتيحت لي الفرصة ليس فقط للتعرف بشكل أفضل على جدي، ولكن أيضاً
لاكتساب فهم عميق للتاريخ المأساوي لفلسطين.
زادت
هذه التجربة من عزمي على زيارة المزيد من العائلات والعمل بجد على توثيق المزيد من
الحكايات، وتقديم ولو جزء يسير من الشهادات الحية حول النكبة، والتي ما زالت مستمرة
حتى اليوم. هؤلاء الناس هم بركتنا، ولولاهم لما حصلنا على معلومات جيدة حول تاريخنا
أو على موقف قوي تجاه حقوقنا التي لا تقبل النسيان. ما زالت النكبة مستمرة، ولكن أسلافنا
يغادروننا سراعاً.
أنهي
بنفس الخلاصة التي أوردتها سونتاغ في كتابها "فيما يتعلق بألم الآخرين"،
حيث قالت: "ليس مطلوباً من الصورة إصلاح جهلنا بتاريخنا وأسباب المعاناة فيما
تلتقطه وتوثقه. ما هذه الصور سوى دعوة للانتباه والاهتمام، للمراجعة والتعلم، للتدقيق
في مبررات المعاناة التي تقدمها القوى القائمة."
ولدت
صفاء الخطيب في كفر كنا في الجليل، وتعمل في الإرث الثقافي والترميم في فلورنسا بإيطاليا.
تحمل شهادة البكالوريوس في فن التصوير من أكاديمية ييزاليل للفن والتصميم في القدس
(2016) وشهادة الماجستير في الدراسات السينمائية من جامعة حيفا. عرضت مشاريع فنية عديدة
في أوروبا وفي أنحاء فلسطين، وحصلت على عدد من الجوائز بما في ذلك الجائزة الأولى لفنان
العام لسنة 2018 والممنوحة من مؤسسة قطان على عملها بعنوان "ثورة الضفائر".