نشر موقع "
ميدل إيست آي" تقريرا للكاتب إيلان بابيه، أستاذ التاريخ ومدير المركز الأوروبي لدراسات
فلسطين، تحدث من خلاله عن الذكرى الـ75 لنكبة الشعب الفلسطيني.
وقال الكاتب إنه تم تدمير فلسطين في اثني عشر شهراً بعد قرار الحكومة البريطانية إنهاء الانتداب، إلا أن النكبة مستمرة منذ خمسة وسبعين عاماً.
وأشار إلى أن النكبة دمرت حياة وتطلعات الشعب الفلسطيني، مشددا على أنه "فقط من خلال إجراءات العدالة التعويضية، وبمساعدة المجتمع الدولي، يمكن البدء بإصلاح ما وقع من مفاسد".
وذكّر إيلان بابيه في كتاباته التي وصف عبرها الاستراتيجية الصهيونية خلال تلك الفترة بأنها كانت عبارة عن خطة رئيسية للتطهير العرقي في فلسطين.
وفي ما يأتي ترجمة المقال:
في مطلع فبراير/ شباط من عام 1947، قررت الحكومة البريطانية إنهاء الانتداب على فلسطين ومغادرة البلد بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من حكمه.
جاءت الأزمة الاقتصادية في
بريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية بحزب العمال إلى الحكم، والذي كان مستعداً لتقليص الإمبراطورية من أجل توفير احتياجات سكان الجزر البريطانية. فقد ثبت أن فلسطين غدت عبئاً، ولم تعد مكسباً، وخاصة بعد أن شرع سكان البلاد الأصليون من الفلسطينيين وكذلك المستوطنون الصهاينة في القتال ضد الانتداب البريطاني ويطالبون بإنهائه.
حُسم الأمر في اجتماع الحكومة المنعقد في الأول من فبراير/ شباط من عام 1947، وأوكل مصير فلسطين إلى الأمم المتحدة – وهي منظمة دولية تنقصها الخبرة، بدأت تنال منها تداعيات الحرب الباردة التي بدأت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
ومع ذلك، فقد اجتمعت القوتان العظميان على السماح بشكل استثنائي للدول الأعضاء الأخرى بالتقدم بحل لما كان يسمى "المسألة الفلسطينية"، بدون تدخل منهما.
فتم تحويل النقاش حول مستقبل فلسطين إلى اللجنة الأممية الخاصة بفلسطين (أنسكوب)، والمشكلة من ممثلين عن الدول الأعضاء. أسخط ذلك الفلسطينيين والدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، والذين كانوا يتوقعون أن تعامل فلسطين ما بعد الانتداب بنفس الطريقة التي عوملت بها الدول الأخرى التي كانت خاضعة للانتداب في المنطقة – أي السماح للناس أنفسهم بتقرير مستقبلهم السياسي بشكل ديمقراطي.
ما كان أحد في العالم العربي ليوافق على السماح للمستوطنين الأوروبيين في شمال أفريقيا بالمشاركة في تحديد مستقبل البلدان المستقلة حديثاً. وكذلك رفض الفلسطينيون فكرة أن يكون للحركة الصهيونية الاستيطانية – والمشكلة في الأغلب من مستوطنين وصلوا قبل عامين فقط من تكليف وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا) في عام 1949 – أي رأي في رسم مستقبل وطنهم.
فقاطع الفلسطينيون أنسكوب. ثم ما لبث أن وقع ما كانوا يخشون حين اقترحت اللجنة إقامة دولة يهودية على ما يقرب من نصف وطنهم كجزء من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر في التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1947.
قبلت الزعامة الصهيونية بتقسيم فلسطين (مرحبة بمبدأ إقامة دولة يهودية)، ولكنها لم تكن تنوي الالتزام عملياً بالقرار، لأن نصف البلد سيبقى فلسطين، ولأن الصهاينة لن يتمكنوا من الحصول سوى على نصف المساحة التي كانوا يمنون أنفسهم بالسيطرة عليها.
خطة رئيسية للتطهير العرقي
تمكن المؤرخون على مدى ما يزيد عن ثلاثين عاماً من وضع أيديهم على ما يكفي من المواد الأرشيفية التي رفع الحظر عن تداولها، وبشكل رئيسي من إسرائيل، لفضح الاستراتيجية الصهيونية خلال الفترة من نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 وحتى نهاية عام 1948. وصفت الاستراتيجية الصهيونية خلال تلك الفترة، في كتاباتي، بأنها كانت عبارة عن خطة رئيسية للتطهير العرقي في فلسطين.
ومع مرور الوقت، ومع الكشف عن مزيد من المواد، ومع تنامي المشاريع الفلسطينية الهامة لتوثيق التاريخ عبر الشهادات المحكية، فقد تأكدت صحة استخدام هذه العبارة لوصف ما وقع من أحداث خلال ما بات يعرف بالنكبة الفلسطينية.
وخلال السنوات الأخيرة، بعث باحثون في التاريخ الفلسطيني تعريفاً قديماً للصهيونية باعتبارها حركة استعمارية استيطانية، الأمر الذي يفسر بوضوح لماذا ما كانت القيادة الصهيونية لتقبل بتقسيم فلسطين.
ومثلها في ذلك مثل أي حركة استعمارية أخرى، تشكلت الحركة من أوروبيين كانوا منبوذين في تلك القارة، وكان لابد لهم من أن يصنعوا لهم حياة جديدة في مكان آخر، وعادة ما يكون ذلك في أماكن مأهولة من قبل شعوب أخرى.
وباتت الحاجة إلى إبادة سكان البلاد الأصليين صفة مميزة لمثل هذه الحركات، مثلما وقع على سبيل المثال من إبادة جماعية للسكان الأصليين في شمال أمريكا.
لقد كان الاستحواذ على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الجديدة والإبقاء فيها على أقل عدد ممكن من سكانها الأصليين هو الفكرة المركزية للأيديولوجيا والحركة الصهيونية منذ نشأتها الأولى. لم يمكن الحكم البريطاني الصهاينة من أي استحواذ كبير على الأرض (أقل من ستة بالمائة من أراضي فلسطين كانت ملكيتها تعود للصهاينة في عام 1948). مع أنه في الأرض التي اشتراها الصهاينة، بشكل أساسي من النخبة الفلسطينية أو من ملاك الأراضي الغائبين الذين كانوا يعيشون خارج فلسطين، مورس التطهير العرقي بحق الفلاحين المحليين بموافقة السلطات البريطانية.
بدأت القيادة الصهيونية بالتخطيط للتطهير العرقي في فلسطين في فبراير/ شباط من عام 1947، وتم القيام بعمليات مبكرة بعد عام من ذلك تحت سمع وبصر سلطات الانتداب البريطاني.
احتاجت القيادة الصهيونية إلى التعجيل بعمليات التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في فبراير/ شباط من عام 1948، بدءاً بالإخراج القسري لسكان ثلاث قرى تقع على الساحل الممتد ما بين يافا وحيفا. وذلك أن الولايات المتحدة وغيرها من أعضاء الأمم المتحدة بدأوا يشككون في الحكمة من خطة التقسيم وراحوا يبحثون عن حلول بديلة. فاقترحت وزارة الخارجية الأمريكية ولاية دولية على فلسطين لمدة خمس سنين من أجل منح وقت إضافي لإجراء مزيد من المفاوضات.
اظهار أخبار متعلقة
الوقائع على الأرض
ولذلك كان أول شيء فعلته القيادة الصهيونية هو تكريس الوقائع على الأرض حتى قبل الانتهاء الرسمي للانتداب (والذي كان مقرراً في الخامس عشر من مايو/ أيار من عام 1948). وكان ذلك يعني تطهير الأرض من الفلسطينيين في المناطق التي خصصتها الأمم المتحدة للدولة اليهودية بالإضافة إلى الاستيلاء على أكبر عدد ممكن من البلدات الفلسطينية.
لم يكن الفلسطينيون مكافئين عسكرياً للمجموعات الصهيونية شبه العسكرية. وصل بعض المتطوعين العرب، ولكن لم يكن بوسعهم عمل الكثير في الدفاع عن الفلسطينيين وفي منع ارتكاب التطهير العرقي بحقهم. انتظر العالم العربي حتى الخامس عشر من مايو/ أيار قبل أن يرسل أي قوات إلى فلسطين.
ليست مجرد معلومة من معلومات التراتب الزمني حقيقة أن الفلسطينيين كانوا عزلاً تماماً بلا حول ولا قوة في الفترة ما بين التاسع والعشرين نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 (عندما تبنت الأمم المتحدة قرار التقسيم) والخامس عشر من مايو/ أيار 1948 (تاريخ انتهاء الانتداب واليوم الذي وصلت فيه وحدات من الدول العربية المجاورة في محاولة لإنقاذ الفلسطينيين). وهذا ما يفضح بشكل قطعي الزعم الرئيسي للدعاية الإسرائيلية حول الحرب، والذي يقول إن الفلسطينيين إنما غدوا لاجئين لأن العالم العربي غزا فلسطين وطلب منهم المغادرة. إنها أسطورة مازال الكثير من الناس حول العالم يقبلون بها حتى اليوم.
طبقاً لهذه الرواية، لو أن العالم العربي امتنع عن مهاجمة إسرائيل، لربما نجا الفلسطينيون من التحول إلى لاجئين يعيشون في المنافي.
ما يقرب من ربع مليون فلسطيني كانوا قد هجروا أصلاً قبل الخامس عشر من مايو/ أيار، وما أتى تدخل العالم العربي، بعد تردد، إلا سعياً لإنقاذ الفلسطينيين الآخرين من نفس المصير.
تقريباً كل الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في حيفا ويافا هجروا قسراً من بيوتهم، بينما أخليت بلدات مثل بيسان وصفد وعكا تماماً من سكانها. وعانت القرى المحيطة بها من نفس المصير. وفي المناطق المحيطة بالسفوح الغربية لجبال القدس، مورس التطهير العرقي بحق العشرات من القرى، بل وفي بعض الأوقات – كما حصل في دير ياسين في التاسع من إبريل/ نيسان 1948، صاحبت عمليات الطرد مجازر.
اظهار أخبار متعلقة
أبشع الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل
شكل دخول الجيوش العربية – جيوش مصر وسوريا والأردن ولبنان – في مايو/ أيار 1948 تحدياً خطيراً لدولة إسرائيل الوليدة. ولكن كانت القدرة العسكرية للمجتمع اليهودي في ذلك الوقت قد تفوقت بشكل كبير (بفضل الأسلحة القادمة من المعسكر الشرقي، والتي اشتريت بموافقة الاتحاد السوفياتي من تشيكوسلوفاكيا، التي كانت لديها وفرة كبيرة من أسلحة الحرب العالمية الثانية التي اجتمعت لديها بعد أن تخلت عنها الجيوش الألمانية والروسية. (أما بريطانيا وفرنسا ففرضتا حظراً على بيع السلاح إلى جميع الأطراف المعنية في ذلك الوقت).
نتيجة لذلك، تمكنت القوات الإسرائيلية من القيام بمهام على جبهتين: الأولى ضد الجيوش العربية، والثانية من خلال الاستمرار في عمليات التطهير العرقي، مستهدفة مناطق منحها قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة للدول العربية.
سجلت العملية التي نفذت في الجليل الأعلى بشكل خاص بعض أبشع الفظائع التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي أثناء النكبة، وذلك جزئياً بسبب المقاومة الشرسة من قبل السكان الذي أدركوا ماذا ينتظرهم من مصير تحت نير
الاحتلال الإسرائيلي، وجزئياً بسبب الإجهاد الذي بدأت تعاني منها قوات الاحتلال، والتي راحت تتخلص من أي موانع سابقة في طريقة تعاملها مع السكان المدنيين.
في مذبحة الدوايمة، بالقرب من الخليل، والتي ارتكبت في التاسع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 1948، يقدر عدد الفلسطينيين الذين أعدمهم الجنود الإسرائيليون بما يقرب من 455 شخصاً نصفهم من النساء والأطفال.
نجت منطقتان من مناطق فلسطين التاريخية من مصير التطهير العرقي. أما الأولى فهي المنطقة التي غدت تعرف باسم الضفة الغربية، والتي سيطرت عليها تقريباً بلا قتال القوات الأردنية والعراقية. كان ذلك جزئياً حصيلة اتفاق ضمني بين إسرائيل والأردن، يقضي بأنه مقابل ضم الضفة الغربية إليه، سوف يلعب الأردن دوراً عسكرياً ضئيلاً ضمن الجهد العربي الإجمالي الذي يستهدف إنقاذ فلسطين.
ولكن، رضوخاً للضغط الإسرائيلي ما بعد الحرب، تنازل الأردن، أثناء مفاوضات الهدنة، عن جزء كان من المفروض أن يكون من الضفة الغربية، ألا وهو المنطقة التي تسمى وادي عارة، والتي تربط ما بين البحر المتوسط ومحافظة جنين.
مثل هذا الضم مشكلة بالنسبة لدولة استعمارية استيطانية مثل إسرائيل. فحيازة المزيد من الأراضي تعني وجود المزيد من الفلسطينيين داخل دولة إسرائيل. ولذا كان لابد من تنفيذ عمليات تطهير عرقي أصغر من أجل تقليص عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في وادي عارة.
وهذا الربط بين الجغرافيا وتعداد السكان هو الذي جعل أول رئيس وزراء إسرائيلي، دافيد بن غوريون، يرفض الضغوط التي مارسها عليه جنرالاته من أجل القيام باحتلال الضفة الغربية (وهؤلاء الجنرالات غدوا هم السياسيين الذي دفعوا باتجاه الاستيلاء على الضفة الغربية في حرب 1967 لتعويض "خطأ" عدم احتلالها في عام 1948).
اظهار أخبار متعلقة
النكبة مستمرة
كما تركت إسرائيل منطقة أخرى، والتي باتت تعرف باسم قطاع غزة، وهي عبارة عن مستطيل مصطنع من الأرض أوجدته إسرائيل ليكون بمثابة الوعاء الذي يتجمع فيه مئات الآلاف من اللاجئين الذين أخرجوا من ديارهم في المناطق الجنوبية من فلسطين. وإسرائيل هي التي سمحت لمصر بالاحتفاظ بالقطاع منطقة عسكرية محتلة.
شيدت إسرائيل على أنقاض القرى الفلسطينية مستوطنات (في كثير من الأحيان مطلقة عليها نسخة عبرية من الاسم العربي الأصلي لها – وبذلك تصبح صفورية تزيبوري، ولوبيا لافي) أو أقامت حدائق عامة في مسعى لمسح كل أثر لما دمرته من ثقافة وحياة ومجتمع خلال فترة لا تتجاوز التسعة شهور في عام 1948.
غدا نصف سكان فلسطين لاجئين، ودمرت مئات القرى بينما نزعت الصفة العربية عن المدن والبلدات على أيدي قوات الاحتلال.
لقد دمرت النكبة بلداً كما دمرت حياة وتطلعات شعبه. إلا أن رأس المال البشري الفلسطيني الذي طوره المجتمع الفلسطيني، من خلال اللاجئين، وتم استثماره في البلدان العربية، ساهم في تنمية الفلسطينيين وتطوير قدراتهم ثقافياً وتعليمياً واقتصادياً.
كانت الرسالة التي بعث بها العالم إلى إسرائيل تقول إن التطهير العرقي الذي مورس ضد الفلسطينيين، والذي كان معروفاً تماماً في الغرب، أمر مقبول – بشكل رئيسي كتعويض عن المحرقة وعن قرون من معاداة السامية التي استشرت كالجائحة في أوروبا.
ولذلك فقد استأنفت إسرائيل عمليات التطهير العرقي بعد عام 1967، حينما أتى إليها الاحتلال تارة أخرى بالمزيد من الناس "غير المرغوب فيهم". ولكن هذه المرة كان التطهير العرقي تدريجياً ويتزايد مع الوقت، وما زال مستمراً حتى اليوم.
مع كل ذلك، مازال الفلسطينيون موجودين، يمارسون الصمود والمقاومة بشكل مذهل. فإلى جانب النكبة المستمرة، ثمة انتفاضة مستمرة، وسيظل الحال على ذلك طالما أن إسرائيل لا تقر بالمسؤولية عما فعلته وتفعله، فكلما استمر الاستعمار استمر النضال ضده.
إن الطريقة الوحيدة لإصلاح ما أفسدته شرور الماضي تتمثل باحترام حق العودة للاجئين الفلسطينيين وإقامة دولة واحدة في كل فلسطين التاريخية تقوم على مبادئ الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
يجب أن ينشأ ذلك من خلال إجراءات العدالة التعويضية، التي تعوض الناس على ما فقدوه من أرض وأعمال وحياة، بواسطة الدولة الجديدة وبمساعدة العالم.