إحدى الطرق العملية لتأكيد الشائعات هي نفيها، خاصة حين يأتي
هذا النفي ممن يفتقدون للمصداقية. والنظام
المصري يشكو كثيرا أنه يتعرض لكمّ وافر من
الشائعات بينما هو في الحقيقة أكثر مروج للشائعات والأكاذيب.. لكن لا يمكن محاسبته على ذلك في غياب برلمان حي، أو صحافة حرة.
خلال الأسبوعين الماضيين تسربت معلومات من دوائر النظام عن
اعتزامه إجراء
انتخابات رئاسية مبكرة، وهنا سارعت أذرعه الإعلامية لنفي الشائعة، وهو
ما أسهم في انتشارها، وحين تدخلت بعض الأذرع الثقيلة بالنفي إذ بها تؤكد المعلومة،
وأقصد هنا تصريحات ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ومقرر الحوار الوطني،
ومن بعده النائب البرلماني والكاتب مصطفى بكري، اللذين أعلنا أن الانتخابات ستجري قبل
نهاية هذا العام، بل فصّلا أكثر أنها قد تجري في تشرين الأول/ أكتوبر أو تشرين الثاني/
نوفمبر المقبلين.
كان تدخل رشوان وضياء (واللذين تبعهما آخرون) بقصد نفي قصة
الانتخابات المبكرة، مدعين أن الدستور الحالي لا يسمح بذلك، وأن ما سيتم هو إجراء الانتخابات
قبل نهاية العام وفقا لنص المادة ١٤٠ من الدستور التي تقرر بدء إجراءات الانتخابات
الرئاسية قبل ١٢٠ يوما على الأقل من موعد انتهاء مدة الرئاسة التي تنتهي فعليا في حزيران/
يونيو المقبل.
جدير بالذكر أن هذه المادة (١٤٠) كانت ضمن حزمة التعديلات
التي أدخلت على الدستور المصري في العام ٢٠١٩، وبمقتضاها تم تمديد فترة
السيسي لسنتين
إضافيتين، مع منحه حق الترشح لدورة جديدة مدتها ست سنوات تنتهي في العام ٢٠٣٠ (كان
من المفترض أن تنتهي مدتيه وفقا لدستور ٢٠١٤ في ٨ حزيران/ يونيو ٢٠٢٢).
كما أن تلك التعديلات منحت السيسي سلطات جديدة مثل تعيين
رؤساء الهيئات القضائية بما يخالف مبدأ استقلال القضاء، ومنحت القوات المسلحة حق التدخل
في العمل السياسي بحجة حماية الديمقراطية، وجاءت سلسلة من التعديلات القانونية لتضع
قيودا جديدة على ترشح منافسين حقيقيين آخرين، مثل النص على الحرمان من حق الترشح لمن
حمل جنسية أخرى غير مصرية (حتى لو تنازل عنها) أو لمن صدرت ضده أحكام قضائية حتى لو
رد إليه اعتباره، أو ضرورة موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على ترشح أي عسكري
حالي أو سابق، وهذه النصوص تستهدف تحديدا بعض
المرشحين المحتملين الأقوياء سواء كانوا
مدنيين أو ذوي خلفيات عسكرية.
تعهد السيسي بإجراء الانتخابات المقبلة تحت إشراف قضائي، وبما أن الدستور الحالي حدد الإشراف القضائي لمدة عشر سنوات بعد نفاذه، أي تنتهي في كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٤، فإن النظام يحتاج إلى تعديل دستوري وليس مجرد تعديل قانوني، وبما أنه تعهد أيضا بعدم الاقتراب من الدستور في الوقت الحالي فإن الحل العملي المتاح هو تبكير الانتخابات لتصبح ضمن المدة الدستورية الحالية للإشراف القضائي، وهذا يعني إجراءها وإعلان نتيجتها قبل منتصف كانون الثاني/ يناير المقبل
الاستناد إلى النص الدستوري لتبرير فكرة إجراء الانتخابات
قبل نهاية العام مع عدم وصفها بالمبكرة لا ينطلي على أحد، فقد أجرى هذا النظام نفسه
دورتين انتخابيتين رئاستين من قبل وفقا لهذا النص (٢٠١٤-٢٠١٨)، ومع ذلك لم يبكر أيهما
لهذا الموعد غير المنطقي، حيث جرت انتخابات ٢٠١٤ في أيار/ مايو من ذلك العام أي قبل
شهر من مراسم التنصيب. كما ان انتخابات ٢٠١٨ جرت أواخر نيسان/ أبريل من ذاك العام،
أي قبل أقل من شهرين من انتهاء مدة الرئاسة، وهذا يعني أن إجراء الانتخابات المقبلة
قبل نهاية العام أي قبل ٦ أشهر من انتهاء مدة الرئاسة بمثابة انتخابات مبكرة مهما تدثرت
بنصوص مطاطة.
في الدول الديمقراطية تجري الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة
لحسم خلافات شديدة بين الحكومة والمعارضة، لكن في النظم الشمولية تجري هذه الانتخابات
المبكرة لتحقيق غايات ومصالح آنية للحاكم، وفي حالتنا المصرية فإن النظام يواجه ثلاث معضلات
تدفعه للانتخابات المبكرة:
أولها المعضلة الاقتصادية، وعلى رأسها تراكم الديون الخارجية
لتتجاوز حاجز ١٦٠ مليار دولار، واضطراره لاتخاذ إجراءات اقتصادية أكثر قسوة استجابة
لمطالب صندوق النقد تتعلق بإنهاء ما تبقى من الدعم للسلع الأساسية والتعويم الكامل
للجنيه، وخصخصة الشركات العسكرية، ولن يستطيع فعل ذلك قبل الانتخابات، ومن هنا تحرك
لتعجيل الانتخابات. وفي المقابل يفاوض الصندوق علي منحه مهلة حتى نهاية العام لينفذ
بقية مطالبه، حتى يحصل منه على الشهادة التي تتيح له اقتراض المزيد من الأموال لسداد
أقساط الديون واجبة الدفع (تبلغ ١١ مليار دولار في النصف الثاني للعام ٢٠٢٣ كما تبلغ
٢٨ مليار في العام ٢٠٢٤) في ظل امتناع الدول الخليجية عن تقديم المزيد من المساعدات.
المعضلة الثانية دستورية، حيث تعهد السيسي بإجراء الانتخابات
المقبلة تحت إشراف قضائي، وبما أن الدستور الحالي حدد الإشراف القضائي لمدة عشر سنوات
بعد نفاذه، أي تنتهي في كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٤، فإن النظام يحتاج إلى تعديل دستوري
وليس مجرد تعديل قانوني، وبما أنه تعهد أيضا بعدم الاقتراب من الدستور في الوقت الحالي
فإن الحل العملي المتاح هو تبكير الانتخابات لتصبح ضمن المدة الدستورية الحالية للإشراف
القضائي، وهذا يعني إجراءها وإعلان نتيجتها قبل منتصف كانون الثاني/ يناير المقبل.
يضمن السيسي عبر تلك الأسلاك القانونية الشائكة أنه سيكون المرشح الوحيد إن رغب، لعدم قدرة أي منافس قوي على الترشح، فمن هو المدني الذي يستطيع الحصول على توكيلات ٢٠ نائبا برلمانيا أو جمع ٢٥ ألف توكيل شعبي من عشر محافظات على الأقل بحد أدنى ألف توكيل من المحافظة الواحدة، وهو ما عجز عنه نائب الرئيس مبارك ورئيس مخابراته عمر سليمان في ظل بيئة تنافسية حرة في ٢٠١٢؟
السبب الثالث انتخابي، وهو الرغبة في ضمان حضور أعداد معقولة
من الناخبين حتى لا تظهر اللجان خاوية كما حدث من قبل وبعد ذاك، تصويتا سلبيا ضد السيسي،
وهنا تدور التكهنات حول الجمع بين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وربما المحلية في
يوم واحد.
يضمن السيسي عبر تلك الأسلاك القانونية الشائكة أنه سيكون
المرشح الوحيد إن رغب، لعدم قدرة أي منافس قوي على الترشح، فمن هو المدني الذي يستطيع
الحصول على توكيلات ٢٠ نائبا برلمانيا أو جمع ٢٥ ألف توكيل شعبي من عشر محافظات على
الأقل بحد أدنى ألف توكيل من المحافظة الواحدة، وهو ما عجز عنه نائب الرئيس مبارك ورئيس
مخابراته عمر سليمان في ظل بيئة تنافسية حرة في ٢٠١٢؟ وهل يتوقع أحد أن مكاتب التوثيق
العقاري (وهي جزء من السلطة التنفيذية) ستوثق التوكيلات قبل الحصول على إذن الجهات
العليا؟
وبالنسبة لأي مرشح ذي خلفية عسكرية، هل يتوقع هو نفسه أو
غيره حصوله على موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة التزاما بالنص القانوني حتى لو
كان هذا المرشح بحجم محمود حجازي، رئيس الأركان ونائب رئيس المجلس العسكري السابق،
وهو الاسم الذي أشارت إليه الكثير من التكهنات مؤخرا؟ (كان النائب السابق ورئيس حزب
الإصلاح والتنمية قد أصدر بيانا أشار فيه لوجود مرشح ذي خلفية عسكرية سيكون مفاجأة
الانتخابات المقبلة، غير أنه ذكر في حوار لاحق لموقع "عربي٢١" أن ذلك المرشح
تراجع عن الفكرة لأسباب بعضها شخصي وبعضها خارج إرادته).
مع ذلك، فلن يرغب السيسي في خوض الانتخابات منفردا تجنبا
لخواء لجان الاقتراع من الناخبين، وسيكون حريصا على وجود منافسين شكليين (كومبارسات)
بهدف استكمال الديكور الديمقراطي كما فعل عامي ٢٠١٤ و٢٠١٨. وقد أشارت بعض المصادر مؤخرا
إلى أن المخابرات العامة تبحث عن مرشحين أو ثلاثة من المعارضة للقيام بهذا الدور مقابل
توفير توكيلات النواب أو المواطنين اللازمة لهم، مع وعد بتخصيص نسبة ٣٠ في المئة من
الأصوات لهم لمنحهم وجاهة اجتماعية مقبولة.
والسؤال هل تقبل المعارضة المدنية القيام بهذا الدور؟
المعركة الحقيقية والأولى بالاهتمام من طرف المعارضة هي معركة الحصول على ضمانات حقيقية لبيئة انتخابية تنافسية حرة، تبدأ بتحرير السجناء السياسيين، وتسمح بترشيح كل من يرغب من مدنيين أو عسكريين سابقين، وتفرض إجراء الانتخابات تحت رقابة الأمم المتحدة بشكل كامل، وأيا كان القدر الذي ستحققه المعارضة من هذه المطالب فسوف يعد مكسبا على طريق الديمقراطية الطويل
بالتأكيد هناك في المعارضة من يرفض هذا الدور، وقد فعلها
حزب الوفد في الانتخابات الماضية برفض ترشيح رئيسه حينذاك (٢٠١٨) السيد البدوي، لكن
رئيس الحزب الجديد عبد السند يمامة يستعد للترشح في الانتخابات المقبلة، كما أن أحزابا
أخرى تفكر في ترشيح رؤسائها، وهم يدركون أنهم يلعبون دور الكومبارس حتى وإن أنكروا
ذلك علنا.
يبقى في هذه النقطة الإشارة إلى أن المرشح المعارض الوحيد
المعلن حتى الآن هو النائب الناصري السابق أحمد طنطاوي، وقد أعلن عن ترشحه خلال وجوده
خارج مصر، ثم بدأ مشاوراته مع بقية الأحزاب عقب عودته. ومن سياق إعلانه الترشح يتضح
أنه لم يفعل ذلك بتنسيق مع السلطة التي
ردت باعتقال عمه وخاله وعدد من أنصاره، كما
أنه صرح بشكل مباشر أنه سينافس ليكسب لا ليلعب دور الكومبارس، لكن عليه أن يحذر من
توظيفه بطريقة غير مباشرة للعب هذا الدور الممقوت إذا قبل الترشح في ظل القوانين والسياسات
والضوابط الحالية للترشيح والانتخابات.
إن المعركة الحقيقية والأولى بالاهتمام من طرف المعارضة هي
معركة الحصول على ضمانات حقيقية لبيئة انتخابية تنافسية حرة، تبدأ بتحرير السجناء السياسيين،
وتسمح بترشيح كل من يرغب من مدنيين أو عسكريين سابقين، وتفرض إجراء الانتخابات تحت
رقابة الأمم المتحدة بشكل كامل، وأيا كان القدر الذي ستحققه المعارضة من هذه المطالب
فسوف يعد مكسبا على طريق الديمقراطية الطويل.
twitter.com/kotbelaraby