الكتاب: "بين الفقه والفن:
النزاع على الصورة
الكاتب: شربل داغر
الناشر: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، المغرب- الدار البيضاء 2022
عدد الصفحات: 271
1
نشأ
الفن أساسا في المعابد. فكان يشكّل ضروبا من التضرّع للآلهة عبر
الرّقص أو الابتهالات التي تحولت شيئا
فشيئا إلى غناء وموسيقى أو إلى تمثيل لحالات بعينها حتى أنتجت فنّ المحاكاة من رسم
ونحت وعروض ركحية. ولمّا اكتسبت هذه الفنون مقومات اكتمالها وأسبابها الذاتية
لانتشارها بين النّاس، أظهرت نزعتها للانشقاق عن أصلها الطقوسي. وهذا بديهي. فالفنّان ينزع دائما إلى الاستقلال
بتصوّره الخاص للوجود ولسبل سكناه على نحو لا يتوافق بالضرورة مع التصوّرات
القائمة. ولذلك حاولت الكنيسة مثلا منع انتشار الفن الكنسي كالرسم أو الغناء، خارج
أسوارها حتى تحتكر وساطته وتستأثر بها لفرض أفكارها، ورفض الفقه الإسلامي مختلف
فنون التّمثيل. ورغم كل القيود التي وضعتها المؤسسات الدينية القائمة خرجت فنون
الرسم والموسيقى والمسرح من رحاب الكنيسة. وانتشر فن الرسم الإسلامي واعتمدت
النمنمات في تزويق الكتب خاصّة.
يعود أثر شربل داغر، الشاعر والباحث في الجماليات ـ البصرية إلى هذه
العلاقة القلّب بين الفقه والفن في الحضارة الإسلاميّة. ولمّا كانت المدوّنة واسعة
جدّا، آثر أن ينطلق من عيّنة رأى فيها قدرة تمثيلية للمبحث هي مدونة الفقه المغربي
ما بعد سقوط غرناطة.
2
يبتكر الباحث شربل داغر مصطلح "فقه الصورة" ويريد به
المباحث الخاصّة بفنون المحاكاة والتّمثيل عامّة، تلك التي استمدت سندها المرجعي
من الفقه الإسلامي، وفق مذاهبه المختلفة. ولا ينفي الباحث وجود عديد المؤلفات،
القديمة أو حديثة، التي تخوض في الفن من منظور إسلامي، ولكنه يجد أنّ مباحث فلسفة
الفن أو تاريخه اليوم لم يدرسا الفنون الإسلامية القديمة أو الحديثة والمعاصرة
الدراسة المنهجية الدقيقة وأنّ المقاربة اُختزلت في مدى إباحة الفقهاء للصورة،
أو تحريمها. ومن أمثلة هذه المصنّفات يذكر
"حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية: دراسة فقهية موازنة" لصالح بن
أحمد غزالي و"الفنون التّمثيلية في ضوء الفقه الإسلامي" للدكتور عبد
الحليم عويس و"الفنون الإسلامية والمنهج الإسلامي" و"أحكام من
التمثيل في الفقه الإسلامي" و"أحكام التصوير في الفقه الإسلامي"
لمحمد ابن أحمد الواصل وصالح ابن عبد الله الأحم و"بين الفن والفقه: دلائل
المنع والإجازة والترجيح بينهما" لرجب أبو مليح وغير ذلك كثير. ففي هذه
المصنفات يجد الدارس كلاماً حول منع الفقه لدخول ثقافة الصورة إلى المجتمعات
العربية أو تشجيعه. ولكنه يجدها تطرح المبحث "وفق مناح تجميعية، تصنيفية،
إرشادية في غالب الأحوال" فتفتقر إلى التحليل القائم على الاستدلال والحجاج
والإقناع.
3
يحاول الباحث أن يقوم بعمل استقرائي يستعرض المدونة الفقهية ويفحصها
نقدياً، وفق منظور تاريخي. فيدرس صلته بالصورة إنتاجاً، واقتناء، واستعمالاً،
واعتقاداً. ولمّا كان هذا الفقه ممتدّا في الزّمان والمكان اختار أن يقصر مدونته
على مصنفات الفقه في المغرب وأن يقصر الحقبة الزمنية على المرحلة التي تقع بين
سقوط إمارة غرناطة سنة 1492 ومطلع القرن العشرين. فوزّع مباحثه على ثمانية فصول
يعرض من خلالها وعبر فتاوى محدّدة، سلطة الفقيه التي تشمل مختلف مناحي الحياة
وتجعله منافسا أحيانا للسلطان نفسه. فقد خوّلت له على سبيل المثال، خلع السلطان
مولاي عبد العزيز وتنصيب أخيه السلطان عبد الحفيظ ومبايعته مبايعة مشروطة. فكانت
متحركة تساير واقع التطور، فتطرح قضايا جديدة مثل مدى صحّة الإخبار برؤية هلال
رمضان أو العيد بواسطة التلغراف. ويعرض الباحث للبرهنة على صحة رأيه، شيئا من سيرة
الفقيه محمد الحجوي. فقد دعا إلى الاجتهاد ومواكبة العصر مقدّرا أنّ "الدين
لا ينافي العقل والعلم ولا يناهضهما" ليصل إلى مبحثي فقه الصورة والصورة بين
الضرورات والمرغوبات في الفصلين السابع والثامن.
لقد انفتح الأثر على مسائل كثيرة وزوايا نظر مختلفة للبحث. من ذلك
دراسة وجوه معالجة الفقه لمسائل الصورة بعد الفترة الزمنية التي تقيد بها في
مقدّمته، أو البحث ضمن الأعمال الفنية المغربية عن تأثير تحريم الصورة في تشكيلها
أو دراسة مواقف الفنانين والصناع المغاربة من هذا التحريم. ولكنّ شربل داغر لم
يتوسع فيها على أهميتها للأسف، ربّما يعود ذلك لتقيّده بمسألة الصورة في المدونة
الفقهية المغربية قبل عهد الحماية أساسا.
4
مما تنتهي إليه عملية الاستقراء أن:
ـ الفقه، في العينة المدروسة على الأقل،
قد عالج، منذ القرن التاسع عشر وقبله، مسألة الصورة، في أكثر من فتوى على خلاف ما
يزعم البعض. ويجد أن هذه المدونة الفقهية تشكّل مصدراً لازماً في درس الفن بين الممارسة
الفعلية والخلفيات الفكرية.
ـ أحكام الفقهاء أو فتاويهم قد تعددت.
توافقت في المسألة حينا وتباينت حينا آخر.
ـ شرّعت هذه الأحكام تحريم الصورة في
الغالب، وفق الموقف الفقهي المالكي المنتشر في البلاد أو غير المالكي وسواء كان
المذهب سنيا أو وشيعيا، أما المواقف المجتهدة والمتحرّرة فكانت قليلة.
ويلاحظ أنّ مواقف الفقهاء على اختلافها، اقتصرت على فهم الصورة وفق
سياق ابيستيمولوجي متقادم يربطها بعبادة الأوثان. فلم تعن بالبحث في الصورة في
سياق استعمالها الفنّي قديما أو حديثا كما في الرسم والمنحوتة والمحفورة والصورة
الفوتوغرافية. ومع ذلك لا يعدم تعامل بعض الفقهاء مع منتجين فنيين ناشئين، هما
الصورة الفوتوغرافية في معناها النفعي (صورة المرء في بطاقة الهوية أو جواز السفر وفي المناهج التربوية لأغراض
بيداغوجية)، فأجازوها، وعرض التماثيل في
الساحات العامة. فرفضوها.
5
مقابل المدونة الفقهية المحافظة في عمومها والمحرمة للصورة، يجد شربل
داغر أنّ نظرة الرحالة المغاربة إلى مدن أوروبية كانت مختلفة وأنها كانت أكثر
تقبلاً للصورة وأكثر انتباها إلى بعدها الجمالي ودلالاتها المستحدثة. فقد توسعوا
في الحديث عن أشكالها المختلفة وعن دلالاتها وتأثيراتها في متقبلها.
رغم تجاوز التّفكير الديني عقبة التسليم بالصورة، تعيد اليوم بعض الجماعات الإسلامية المتشددة علاقة الفقه بالصورة إلى الواجهة ضمن ما بات يعرف بحد سب النبي متأثرة بما يحصل في أوروبا من عمليات تمثيل للرسول بطريقة ساخرة ومسيئة.
فـ["في إمكان الدّارس التنبه إلى أن عددا من الرحالة تحدثوا عن الفنون
الأوروبية غير المعروفة لديهم، أو الحاملة (مثل اللوحات والتماثيل وغيرها)
التحريمات صريحة من قبل غالب الفقهاء في بلدهم: تحدث السايح في "رحلته"،
على سبيل المثال، عن "مهد الآثار القديمة والفنون الجميلة"، وعن
"أحسن الصور"، فيما كتب محمد الطاهر القاسي (في العام 1860) قبل ذلك :
الحاصل أنهم دمرهم الله يستعملون أشياء تدهش سيما من رآها فجأة، وربما اختل مزاجه
من أجل ذلك .. هذا مدعاة لتبين مفارقة هي التّالية: الرحالة يتقبّل في صورة
متعاظمة الصّورة الفنية المختلفة الوسائط، فيما تبينا (في فصل سابق) أن فقهاء
المغرب ظلوا في غالبيتهم الغالبة محرّمين للصورة، ولا يبالون أو يعاينون الصورة
الفنية"].
6
ولصلة المغرب بهذه البلدات اكتسبت الصورة حضورها المختلف والمتعدد
ودلالتها الخاصة المستحدثة وغير المعهودة في الذائقة المغربية. من ذلك ما درج عليه الرّسامون الأسبان ممن
انخرطوا في تيار الاستشراق أواخر القرن التّاسع عشر من مرور بطنجة ورسم مناظرها.
فقد باتت المدينة مرحلة لا غنى عنها عندهم، كجوزي تابيرو بارو (José Tapiro Baro) وركاردو مادزارو قاريتا (Ricardo
Madzaro Garreta) وانضمّ
إليهم الفرنسيون في النصف الأول من القرن العشرين فيما يؤثر هنري ماتيس (Henri Matisse) الذي يعدّ من كبار أساتذة المدرسة الوحوشية (fauvisme) أنه
جعل من نافذة الغرفة 35 من فندق (ڤيلا دي فرانس) التي تطلّ على المدينة كلها
منظورا تشكيليّا رسم منه لوحات كثيرة أرّخت له ولطنجة. ثم جاراهم المغاربة من
أمثال أحمد اليعقوبي في ذلك وجعلوا طنجة مدارا لرسمهم.
7
ولهرم السلطة دور في ترسيخ استعمال الصور السلطانية قبل نهايات القرن
التاسع عشر، بدءا من تصوير السلطان الحسن الأول. ثم اتصل هذا التقليد في المخزن
المغربي حتى أنّ أحد أبنائه، السلطان مولاي عبد العزيز، أقدم على ممارسة التصوير
بنفسه. ويذكر غابرييل فير في كتابه "في صحبة السلطان" أنه قضّى سنوات في
صحبته يعلّمه ممارسة العديد من الفنون في قصره تحديداً والتقى ببعض نسائه وحريمه،
وواكب تصويرهن. وكان هذا الفرنسي قد انتقل من مرسيليا إلى المغرب لتسويق منتجات
التصوير الفوتوغرافي والسينمائي الناشئة. وذكر عبد الحي الكتاني أن مصنعا للآلات
الفوتوغرافية بعث إليه بناء على وصية منه بجهاز فوتوغرافي. وكانت كافّة أجزائه
المعدنية من الذّهب الخالص. فبلغت قيمته ثلاثة وخمسون ألف فرنك. ثم بعث له بثان من
الفضة باثنين وعشرين ألفا وخمس مائة فرنك. "وفي هذا الكلام بين الفقيه
والسّلطان ما يشير إلى علاقة متغيرة، وفي أكثر من وجه فيها، إذ يشير الفقيه بين
جملة أمور إلى أمرين لافتين كون السلطان يمارس فناً غير جائز شرعاً، وكونه يكلّف
خزانة السّلطنة مبالغ مالية باهظة في ظل تدهورها المالي المعروف".
ويخلص الباحث إلى أنّ لهذا السياق دورا في إقبال المغاربة على ممارسة
الفنون البصرية الأوروبية المصدر، وغير المسبوقة في بلادهم ومجتمعاتهم، على نحو
تلقائي و"دون إجازة فقهية".
8
ومن نتائج هذه المجافاة بين الفقه ومستلزمات العصر أن ترسّخ الإبداع
في الفنون البصرية في البلاد المغربية وفي عامة البلدان العربية والإسلامية (في
الدولة العثمانية والصفوية في بلاد فارس) متأثرا بالنمط الأوروبي متفاعلا مع
خيارات الحكام والنخب وفقاً لحسابات واحتياجات قائمة في المجتمعات نفسها، بمنأى عن
رقابة الفقهاء بل على خلاف معهم أحياناً. ولكن هل وصل الأثر إلى فهم عمق العلاقة
بين الممارسة الفنية والتفكير الفقهي؟
يؤكد شربل داغر أن المدونة الفقهية في حاجة إلى مزيد البحث لفهم
أنساق تفكير الفقهاء. ويتوقف، على سبيل التوسع في دراسة الظاهرة ومقارنتها، عند
مواقف فقهية عربية مختلفة. فيذكر أنّ الشيخ محمد عبده: «أجاز» التصوير بوصفه فنا،
وأشاد بوظائفه في مجتمع صقلية. وكان لموقفه الأثر الإيجابي في قبول ثقافة الصورة
في مصر على المستوى الشرعي وامتد هذا التأثير إلى بيروت. فقد أجاز تلميذه الشيخ
مصطفى الغلاييني بعد عودته إلى بيروت ممارسة التصوير للفنان مصطفى فروخ. ولموقف
الإمام عبده أشباه في دمشق وحلب وبغداد والقدس وتونس. ومع ذلك تناول هؤلاء الفقهاء
المجدّدون الصورة من جهة ما تحقّق من الفائدة أو التربية أو الضرورة، ضمن تصوّر
للفن يقصره على النّافع لا على الممتع (اللذة الجمالية التي تبسطها فلسفة الفن).
9
ظلت الصورة مبعث جدل بين الفقهاء. فرغم هذه النزعات العامة في
المدونة الفقهية لا يعدم الباحث تباين المواقف من التصوير في العهود المتعاقبة،
حتى أنّ الإيرانيين مثلا يسمحون بتصوير الرّسول. ورغم تجاوز التّفكير الديني عقبة
التسليم بالصورة، تعيد اليوم بعض الجماعات الإسلامية المتشددة علاقة الفقه بالصورة
إلى الواجهة ضمن ما بات يعرف بحد سب النبي متأثرة بما يحصل في أوروبا من عمليات
تمثيل للرسول بطريقة ساخرة ومسيئة. ولمّا أضحت المعارك الحضارية اليوم تخاض بعدسات
المصورات بدل فوهات البنادق، وأضحت الصورة عماد القوة الناعمة التي تخول للحضارات
فرض تصوراتها لم يخل الكتاب من الدعوة إلى المصالحة بين الفقه والصورة وإلى
التّعامل مع موضوعها برصانة بعيدا عن الردود الانفعالية.