من واقع التجربة الشخصية كطبيب متخصص عملت لفترة في أحد
مستشفيات التأمين
الصحي في
مصر في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، يمكنني القول إن مستشفيات
مصر العامة والمركزية التابعة مباشرة لوزارة
الصحة هي أماكن لا يمكن استعادة
العافية فيها خصوصا في الحالات الحرجة، بل إنها أماكن لتوديع الحياة وليس
لاستعادتها في المجمل (الداخل مفقود والخارج مولود).
تعد الخدمات الطبية والعلاجية في مصر من بين الأسوأ في العالم حسب تقرير
مؤشر نيومبيو للرعاية الصحية عام 2023، فمصر تحتل المرتبة 87 من بين 94 دولة تم فحص
مستوى الرعاية الصحية فيها، ولم يأت بعدها عربيا سوى المغرب والعراق على الترتيب
في المركزين 90 و92.
ومن حيث الثقافة
العلاجية فالمريض في مصر ليست لديه معرفة بحقوقه العلاجية
عندما يذهب للطبيب أو المستشفى، على عكس الدول المتقدمة حيث هناك مواد علمية تدرس
تحت بند إدارة العلاقة بين المريض والطبيب وهي جزء من الدراسات العليا في مجال الطب.
تعاني المنشآت الطبية من ضعف الإمكانيات من حيث التجهيزات الطبية وغير
الطبية وحتى المعدات والاحتياجات العلاجية، حتى أن بعض المستشفيات الحكومية تطالب
المريض بشراء المستلزمات الطبية، من مصل الحقن والمحاليل والأدوية والشاش والقطن. كل
ذلك إضافة إلى أن ضعف أو غياب صيانة المنشآت الطبية يسبب مشكلة متفاقمة تهدد
المنشأة والعاملين فيها.
وقد رأيت بعيني رأسي كيف تأثرت جدران وحوائط غرف العمليات بسبب سوء الصرف
الصحي في أحد هذه المستشفيات على الرغم من مرور فترة قصيرة جدا على تشطيب المبنى،
وتبين لي لاحقا أن المقاول الذي قام ببناء المستشفى قدم شيكا بخمسة ملايين جنيه
لمسؤول في المجلس المحلي لكي يتم استلام المبنى دون مراجعة، والمفاجأة أن هذا
الشيك سقط من جيب المسؤول فالتقطه أحد السيارة وعرض الأمر على النيابة وكانت فضيحة
كبرى. ولكن السؤال هو: وماذا عن تضرر المبنى وعن انتشار العدوى داخل غرف العمليات؟
في مصر ليست المستشفيات مكانا للتعافي إن صح الأمر، بل أصبحت مكانا للإصابة
بالعدوى، فهناك نسبة مرتفعة للإصابة بالعدوى داخل المستشفيات مقارنة بالدول الأخرى
وذلك لأسباب كثيرة، والشاهد أنه يمكن أن يدخل المريض لإجراء جراحة بسيطة ثم نكتشف
أنه أصيب بميكروب من داخل غرفة العمليات مما يطيل أمد الشفاء وتكلفة العلاج، ناهيك
عن إصابة الكوادر الطبية نفسها على غرار ما حدث أثناء وباء كورونا والذي تسبب في
وفاة 544 طبيبا، بنسبة 5.4 في المئة من إجمالي الوفيات بكورونا في عام 2020. وبحسب
تقرير لمنظمة الصحة العالمية، فإن دول شرق المتوسط بما فيها مصر تتخطى
نسبة العدوى
في المستشفيات المعدلات الدولية (5-15 في المئة) بضعفين إلى عشرين ضعفا.
تعد المستشفيات الحكومية الرقم الأقل مقارنة بالمستشفيات الخاصة في مصر،
رغم الضجيج الذي تسمعه من المسؤولين في مصر عن الاهتمام المتزايد بالصحة في مصر
ورغم زيادة ميزانية الصحة سنويا (تصل ميزانية الصحة لعام 2023-2024 إلى 222 مليار
جنيه). وهذا حقيقي ولكنه لا يصل إلى الحدود الدنيا المطلوبة، ناهيك عن أن هذه
الميزانيات لم تلمس الحد الأدنى الذي نص عليه الدستور الذي كتبوه بأيديهم وهو 3 في
المئة من إجمالي الموازنة العامة للدولة؛ حسب نص المادة 18 من دستور الانقلاب 2014
والمعدل في 2019 (لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية العامة التي تقدم
خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل، وتلتزم
الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3 في المئة من الناتج القومي
الإجمالي تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات الدولية).
هذا ما اتفقوا عليه وما كتبت أيديهم، ولكن وبعد أن تمكن السيسي من السلطة
والدولة نكص على عقبيه وأنكر ذلك علانية وسخر منه، وقال في المؤتمر الوطني للشباب
الذي عقد مؤخرا في الإسكندرية وكما جاء في الخبر المنشور في
صحيفة المال المصرية بتاريخ 14 حزيران/ يونيو 2023: "ولفت
السيسي إلى أن قطاعات مثل الصحة والتعليم تحتاج إلى مئات المليارات من الجنيهات لإصلاحها
والوفاء بالاستحقاق الدستوري الخاص بها، لكنها تكاليف غير ممكنة في ظل إمكانيات
الدولة حاليا. وقال: "الدولة دي عشان تصرف كويس عايزة 2 تريليون دولار في
السنة.. معاك المبلغ ده؟ هتعمل استحقاق دستوري في التعليم ازاي واستحقاق دستوري
للصحة.. أنا كدولة معاية فلوس للكلام ده. الأرقام المطلوبة مش موجودة يا جماعة ولازم نبقى موجودين على أرض الواقع والكلام ده بينتج عنه تردي في كل شيء".
حتى منسق الحوار الوطني ضياء رشوان والذي يقال إنه سيقوم بتأسيس حزب يكون
داعما للنظام، قال إن الحوار الوطني ناقش اقتراح أحد الأعضاء (د. صلاح الغزالي حرب)
قرر إلغاء العلاج على نفقة الدولة.. ولم يقل لنا أين سيعالج الشعب!
على مدار تاريخ مصر كانت الحكومة أحد أطراف تقديم الخدمة الصحية بجانب
القطاع الخاص والقطاع الخيري الأهلي، وفي السابق وأعني خلال الحكم الملكي وهي تحت
الاحتلال الإنجليزي كانت مصر وجهة علاجية للقادمين من العالم العربي وكانت
المستشفيات تتميز بالنظافة والفخامة، كما كان للقطاع الخيري دوره. وهناك العديد من
المستشفيات التي بنيت في القرن التاسع عشر مثل مستشفى كتشنر الذي بناه النمساويون عام 1896 في حي شبرا وأصبح لاحقا "مستشفى
شبرا العام"، إضافة إلى العديد من المبرّات الطبية مثل مبرّة العصافرة، والمستشفيات
الكبرى التي قام عليها متبرعون والمستشفيات الجامعية التي تبرع بها رجال أعمال
مصريون مسيحيون ومسلمون، مثل المستشفى القبطي الذي بُني في حي الأزبكية عام 1881.
وشارك في جمعية المساعي الخيرية مسلمون ومسيحيون، كما شارك رجال أعمال في بناء صروح تعليمية طبية مثل مستشفى الدمرداش بالعباسية والتي أصبحت جزءا
من كلية طب عين شمس لاحقا ولا تزال تحمل نفس اسم رجل الأعمال عبد الرحيم باشا الدمرداش.
تبلغ
نسبة عدد الأسرة لكل ألف مواطن عالميا 93، بينما في مصر
تصل إلى 22 سريرا لكل ألف مواطن وذلك لقلة عدد المستشفيات بطبيعة الحال وحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فقد بلغ إجمالي عدد
المستشفيات في مصر 1798 مستشفى في عام 2022، من بينها 662 مستشفى حكوميا و1136 للقطاع
الخاص، أي نسبة مستشفيات الحكومة إلى القطاع الخاص هي 37 في المئة تقريبا. وهذا
يحدث في بلد ومجتمع المفترض فيه أنه ليس رأسماليا بل فقيرا معدما تصل نسبة الفقر
فيه إلى حوالي 30 في المئة، حسب
موقع تفنيد الذي يقوم بتصحيح ما ينشر من أرقام وإحصائيات: "وبمزيد
من البحث وصل فريق عملنا إلى تقرير حديث للبنك
الدولي، نُشر في 19 ديسمبر 2022، أشار إلى أن نسبة الفقر في مصر سجلت آخر مرة عند
29.7 في المئة خلال أكتوبر 2019 - مارس 2020، وتوقع البنك ارتفاع معدل الفقر بسبب
تأثير التضخم على الدخل الحقيقي للمصريين".
كلفة العلاج في مستشفيات القطاع الخاص مرتفعة وهي بلا رقابة ولا تدخل من
الدولة أو حتى النقابات المهنية الطبية، وكل ما تقوم به الدولة هي محاولة جمع
الضرائب من المستشفيات والعيادات الخاصة وليس حماية المريض.
الكوادر الطبية هي الأخرى معذورة، فرواتبها متدنية وفرص العمل في الخارج
متاحة وسوق العمل الخارجي يعتبر أكثر تقديرا واحتراما بالنسبة للكوادر الطبية. وقد
اعترف الجنرال السيسي بأن سبب هجرة الكوادر الطبية هو أنها لا تجد المكافئ
المالي المناسب، وقال في مؤتمر الشباب الأخير: "الناس بتسيبنا عشان تجد فرصة
في حته تانية عشان عايز يعيش" -شاهد. وبدلا من تعويضها والاحتفاظ بها، تسبب في هجرتها لتتحول
إلى مصدر للعملة الصعبة بدلا من وجع الدماغ في مصر (كل شيء له حل عند الجنرال).
في عصر الجنرال تحولت القوى العاملة المتخصصة في مجال الصحة وعلى رأسهم
الأطباء إلى سقط متاع، ولعلك لن تصدق أن
راتب الطبيب المصري حديث التخرج 2200
جنيه مصري شهريا (أي قرابة 50 دولار شهريا)، وهو أقل من عُشر راتب خادمة
أجنبية في مصر
فمتوسط راتب الخادمة يتجاوز 700 دولار.
وفي رأيي وتحليلي الشخصي أن الجنرال لا يرى في الموارد البشرية خصوصا
المتخصصة إلا مصدرا للعملات العربية والأجنبية، وبدلا من الاستفادة منها محليا في
تطوير المنظومة أصبحت المنظومة طاردة للعمالة الطبية من أطباء وممرضين وفنيين
بطريقة مثيرة للدهشة.
وقد كشف تقرير للقوى العاملة في بريطانيا أن نسبة الأطباء
المصريين
المهاجرين إلى بريطانيا ارتفعت 202 في المئة، وذلك في الفترة من عام 2017-2021،
وحسب التقرير فإن عدد الأطباء المصريين المهاجرين إلى بريطانيا وصل إلى 1312 طبيبا
في عام 2021 بزيادة طفيفة عن عام 2020 الذي كان العدد فيه 1220 طبيبا- طالع الجرافيك، ما يعني أن بريطانيا أصبحت إحدى الوجهات المفضلة
للأطباء المصريين بعد أن كان الخليج العربي هو الوجهة المفضلة رغم الفارق الأدبي
والمعنوي بين الجهتين.
حسب الإحصائيات الرسمية، يوجد في مصر أكثر من 212 ألف طبيب مرخص أي مسجل في
نقابة الأطباء لا يعمل منهم في مصر سوى 82 ألف طبيب في بلد عدد سكانه 100 مليون
نسمة، أي بمعدل 8.6 أطباء لكل عشرة آلاف مواطن بينما النسبة العالمية هي 23 طبيبا
لكل عشرة آلاف مواطن، مع العلم وحسب
تصريح عضو مجلس نقابة الأطباء الدكتور أحمد علي فإن هناك أكثر من
أربعة آلاف طبيب تقدموا بطلب الحصول على رخصة طبيب حر ليتمكنوا من العمل خارج
الوزارة أو مستشفيات الدولة، وهذا مؤشر على الحالة الموجودة في البلاد وهي تطفيش
الأطباء وليس العمل على جذبهم رغم الحاجة الماسة إليهم.
حسب التقارير الصادرة عن نقابة الأطباء ووزارة القوى العاملة وحتى وزارة
الهجرة، يوجد
في دول مجلس التعاون الخليجي حوالي 60 ألف طبيب مصري، من بينهم 50
ألفا في المملكة العربية السعودية وحدها وعشرة آلاف في بقية دول المجلس، كما يوجد
حوالي 15 ألف صيدلي مصري في دول مجلس التعاون الخليجي، هذا ناهيك عن طواقم التمريض
والفنيين وأخصائي العلاج الطبيعي. وتهاجر هذه الكوادر بحثا عن عيش أفضل يتمثل في
ارتفاع الأجور والبدلات سواء في القطاعات الحكومية أو الخاصة في الخليج.
حسب موقع أراب نيرسيس (
Arab nurses) يوجد حوالي 740 ألف ممرض وممرضة عربية، نصيب مصر من هذا
العدد حوالي 280 ألفا، أي ما يزيد عن 37 في المئة من إجمالي عدد الممرضين والممرضات
في العالم العربي.
المريض في مصر يصارع الأمراض المتوطنة، مثل التهاب الكبد الفيروسي بأنواعه
والذي تسبب في إصابة ما يقارب العشرة ملايين مواطن مصري حسب تقرير نشره موقع
Onlinelibrary.wiley.com. والالتهاب الفيروسي عادة ما ينتهي بتليّف في الكبد يحتاج إلى
عملية زرع الكبد، وهي مكلفة للغاية رغم أن مصر بلغت في هذا المجال درجة متقدمة
يصفها البعض بأنها أفضل من بعض الدول الغربية (
شاهد تصريح د. حسام موافي).
بمساعدة من البنك الدولي قامت الحكومة المصرية بحملة طبية للكشف على مرضى
التهاب الكبد الفيروسي نوع سي، وهي الحملة التي أطلق عليها "
حملة
الرئيس للقضاء على فيروس سي". وهي حملة جيدة من حيث المبدأ ولكن
شابها بعض الفساد كما ذكر لي بعض الطواقم الطبية التي شاركت فيها، حيث استعجل فيها
النظام حتى يثبت أنه قدم شيئا في مجال الرعاية الطبية.
قُدمت الحملة على أنها برعاية الجنرال السيسي وأن الدولة هي التي دفعت
ميزانيتها، ولكن الحقيقة أن
البنك الدولي تبرع بـ429 مليون
دولار للحملة، ولم تتم مناقشة
ميزانية الحملة ولم يتم تقديم كشف حساب للشعب عن هذا المبلغ الكبير.
في مصر ثمة زاوية أخرى للنظر إلى موضع الصحة ومكانتها خصوصا في العشرية
السوداء، بعيدا عن الإهمال والفساد والتعامل باحتقار مع حاجة المواطنين إلى
الرعاية الصحية، فثمة أخطار عظمى تواجه صحة المواطن وعلى رأسها تعاطي المخدرات.
ففي مصر بلغت تجارة المخدرات حجما غير مسبوق حوالي 8 مليارات جنيه حسب تصريح
الجنرال السيسي في عيد الشرطة عام 2023.
ومكمن الخطورة ليس في حجم التجارة الذي غفلت عنه الأجهزة الأمنية المتفرغة
لمطاردة المعارضين السياسيين واعتقال ذويهم، ولا في زيادة أعداد المتعاطين فقط،
ولكن وكما كشف صندوق مكافحة
الإدمان وتعاطي المخدرات في مصر في تقرير نشر 2022؛ في
انخفاض سن التعاطي إلى 15 سنة، وهو ما يعني أن تجارة المخدرات تستهدف الأطفال
حرفيا، وتمثل الشريحة ما بين 15-20 سنة حوالي 39.8 في المئة من إجمالي المتعاطين.
وليس هذا فحسب بل إن الهيروين وهو أغلى أنواع المخدرات وأشدها تدميرا يمثل 32 في
المئة من نسبة المواد المخدرة التي يتم تعاطيها، ويأتي بعده الحشيش 31 في المئة،
ثم الترامادول 18.5 في المئة، ثم المخدرات التخليقية مثل الاستروكس بنسبة 17 في
المئة. - طالع ملخص التقرير:
لقد كشف وباء كورونا الذي اجتاح العالم في أواخر العام 2019 عن ضعف المؤسسة
الصحية المصرية وهشاشتها وعدم قدرتها على الصمود، وشاهدنا حجم الرعب والهلع من
نقص الأكسجين في العناية المركزة، وكيف
تساقطت الكوادر الطبية أمام أعين الناس لأن الدولة والنظام لم يقدما الحماية بل حرصا على
تكميم الأفواه و
اعتقال الأطباء والممرضات. ورغم أن مصر تلقت ما يزيد عن
خمسة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي لمواجهة الوباء العظيم، ومع ذلك لم يتم
تقديم كشف حساب عن هذه المليارات الضخمة التي تلقتها الحكومة المصرية ولا يزال
الشعب يعاني من تأثيرات الوباء.
لا يعالَج الجنرالات وذووهم وحواريوهم في المستشفيات العامة ولا الجامعية،
بل يُفتح لهم مستشفى المعادي العسكري ومستشفى وادي النيل التابع لجهاز المخابرات، وفي أحيان كثيرة يتم نقلهم
للعلاج خارج البلاد
على نفقة الدولة (يكلف العلاج على نفقة الدولة 11 مليار جنيه سنويا) التي
تبني أبراجا مرتفعة وقصورا فخمة ومباني ذات جدران وعوازل يسكنها الجنرال ووزراؤه
في العاصمة العسكرية الجديدة.
في عصر الجنرالات لا يوجد اهتمام لا بالصحة ولا بالتعليم، فالمواطن المتعلم
والمواطن صحيح البدن والعافية يمثلان خطرا حقيقيا على حكم الجنرالات، لذا فالقضية
الكبرى ليست التعليم والصحة بل كيف تتم إزاحة حكم الجنرالات ومن بعدها يصبح كل شيء
أمره سهل.