تشهد الساحة
الفلسطينية عموماً، وفي الضّفة الفلسطينية بشكل خاص، خلال الأسابيع والأيام القليلة الماضية، تصعيداً في المواجهات مع قوات جيش
الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، ومع عصابات المستوطنين. ولعلّ أبرز سِمَتين في هذه المواجهات هما:
1ـ أن أبطال التصدّي لغطرسة جيش الاحتلال والمستوطنين، هم
جيل جديد يافع وشاب جريء من الفدائيين، يعتمدون على قدراتهم الذّاتية.
2ـ تطوّر ملفت في استخدام هؤلاء الفدائيين للمتوفّر من الإمكانيات القتالية القليلة، فاجأ القوات الإسرائيلية، كما ظهر ذلك جليّاً خلال اقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم جنين، وخلال مواجهتها، ثم خلال انسحابها أيضاً بتفجير عبوة ناسفة دمّرت إحدى عربات العدو المصفحة، وإصابة من فيها من الجنود، وأعاقت انسحاب بقية العربات، والتصدي كذلك للمروحيات التي استدعيت للمشاركة، (لأول مرة منذ أكثر من عشرين سنة) في ذلك الاقتحام، وللحماية ونقل الجرحى الإسرائيليين، حيث نجح أبطال مخيّم جنين في إصابة واحدة من تلك المروحيات، وهو ما أدّى إلى هبوطها الاضطراري.
بالغت إسرائيل كثيراً في استخدام القوة والعنف الدموي ضد شباب وأبناء الشعب الفلسطيني في كافة الأرض الفلسطينية، من النهر إلى البحر، منذ تشكيل بنيامين نتنياهو لحكومته الحالية، حكومة الأبرتهايد والفصل العنصري.
في كل شهر يَمُر، بل في كل أسبوع ويوم يمر، منذ تشكيل هذه الحكومة البالغة العنصرية، قبل 174 يوماً، ارتقى 174 شهيداً فلسطينياً، (حتى كتابة هذه الأسطر) برصاص جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، ووحوش المستوطنين، أي بمعدّل شهيد فلسطيني في كل يوم. وغالبية هؤلاء الشهداء هم من الأطفال والنساء والمدنيين العُزّل.
لا يعني ذلك أن الحكومات الإسرائيلية السابقة، منذ إنشاء الكيان الصهيوني العنصري 1948 بشكل عام، ومنذ حرب حزيران/يونيو 1967 بشكل خاص، كانت حكومات «رحيمة». لكن ما هو ظاهر بوضوح، هو ازدياد متواصل، دون انقطاع، منذ حكومة دافيد بن غوريون الأولى، سنة 1949، وحتى حكومة نتنياهو الحالية، في التّطرف، واستخدام القوة العسكرية ضد أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل منذ أيام فرض نظام «الحكم العسكري» على الأقلية العربية في إسرائيل، ومجازر الطنطورة وعيلبون والبروة وصولاً إلى مجزرة كفرقاسم، يوم 29 أكتوبر/تشرين أول 1956، عشية العدوان الثلاثي على مصر، وما لحق بذلك من مجازر طالت المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في قطاع غزة، (أيام الإدارة المصرية) وفي الضفّة الغربية، (أيام إلحاقها بالمملكة الأردنية الهاشمية) ولعلّ أبرزها مجزر قِبية، ليلة 15.10.1953، التي قَتل فيها جنود من الجيش الإسرائيلي بقيادة أريئيل شارون، 69 فلسطينياً مدنيّاً من سكان القرية، ووصولاً إلى مجزرة صبرا وشاتيلا في أيلول/سبتمبر 1982، التي استمرت ثلاثة أيام متواصلة من يوم 16.9.1982، وراح ضحيتها 3500 من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ الفلسطينيين المدنيين.
تأتي هذه الأحداث والتطورات على صعيد المواجهات الدموية بين جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، وجيل جديد من الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين، في ظل تطوّرات سلبيّة بالنسبة لإسرائيل
ثم لحقت بمسلسل المجازر التي ارتكبها جنود جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، وقطعان المجرمين المستوطنين، حتى بعد اتفاقية أوسلو، مجزرة صلاة الفجر في الحرم الإبراهيمي في الخليل في رمضان سنة 1414 هجرية، (25.2.1994) وراح ضحيتها 29 شهيداً و150 جريحاً من المصلّين.
ثم بدأت الحلقات الأخيرة في مسلسل المجازر والمذابح، من خلال اعتماد سياسة أطلق عليها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، ووزير «الدّفاع» الإسرائيلي الأسبق، موشي يعالون، اسماً شاعريّاً، هو «كي الوعي» للفلسطينيين. حيث لحقت بذلك مجازر متواصلة ضد الجماهير الفلسطينية أثناء الانتفاضة الثانية، وفي عملية «السّور الواقي» في
الضفة الغربية، في فبراير 2002، بشكل خاص، وبعدها تواصُل المجازر ضد جماهير قطاع غزة المحاصر، في عمليات يتفنن الجيش الإسرائيلي في إطلاق تسميات لها.
استخدام إسرائيل لقوتها العسكرية، ومواصلة عمليات الذّبح والتقتيل والمجازر الجماعية ضد الجماهير الفلسطينية في كامل أرض فلسطين، وفي مخيّمات اللجوء، هو إثبات قاطع على فشل الحركة الصهيونية العنصرية، وفشل السياسة الإسرائيلية، في دفع شعبنا إلى رفع راية الاستسلام.
يعرف كل عاقل أن الهدف الأساسي لبناء عناصر القوة بشكل عام، وبناء الجيش والقوة العسكرية الضاربة بشكل خاص، هو تحقيق المصالح العليا لصاحب العلاقة، وردع أي طرف خارجي، سواءً كان عدواً أو منافساً، من الإقدام على رفض وتحدّي إرادة ذلك الطرف. ولهذا فإن اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية، هو إثبات صريح على فشل السياسة والاستراتيجية التي تم اعتمادها. تكمن قوة أي جيش في حقيقة الأمر، في عدم استخدامه، أمّا اللجوء إلى استخدامه، فهو الدليل القاطع على انعدام قوة الردع.
تأتي هذه الأحداث والتطورات على صعيد المواجهات الدموية بين جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، وجيل جديد من الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين، في ظل تطوّرات سلبيّة بالنسبة لإسرائيل، على أربعة أصعدة حاسمة:
أولاً: ما تشهده الساحة اليهودية في إسرائيل من انقسام وتشرذم في كل مكوّنات هذه الساحة، من المجتمع المدني؛ بين العلمانيين والمتدينين والحريديم؛ بين الليبراليين والوسط واليسار، (بالمقاييس الصهيونية) واليمينيين العنصريين والنازيين الجُدد؛ وينعكس ذلك بشكل مباشر وفوري على الاقتصاد في إسرائيل، (خلال يوم واحد من الأسبوع الماضي، شهد نقاشات في الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، واختلافات وتصويت وإصدار مسؤولين لبيانات، انخفض سعر الشيكل الإسرائيلي وارتفع ثلاث مرّات متتالية) وفضاءات التكنولوجيا المتقدّمة، (الهاي تكنولوجي) والاستثمارات فيها، وصولاً إلى قوات الاحتياط في عدد من أسلحة الجيش الإسرائيلي، أبرزها قوات الاحتياط في سلاح الجو، وبعض العاملين في أسلحة الاستخبارات التي تستخدم التكنولوجيا المتطورة، ما ظهر منها وما خفي.
بالإضافة إلى بدء موجة جديدة من يقظة الشارع الدرزي الفلسطيني العربي في إسرائيل، بسبب تحرشات السلطات الإسرائيلية واستفزازاتها للمواطنين الدروز السوريّين العرب في هضبة الجولان المحتلة في اليومين الماضيين.
ثانياً: ما تشهده الساحة الإقليمية: التوافق السعودي الإيراني، والمصري الإيراني، والتطورات في الساحة السياسية التركية، وبدء العودة إلى سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار؛ وكذلك الحادث ذو الدلالة على الحدود المصرية الإسرائيلية.
ثالثاً: الموقف الأمريكي تجاه نتنياهو ووزراء في حكومته، وأبرز علاماتها الخروج على تقليد توجيه الدعوة لمن يشكّل حكومة في إسرائيل خلال أيّام لزيارة البيت الأبيض، وها قد مضى نصف عام على تشكيل نتنياهو لحكومته الحالية، دون أن توجّه له الدعوة، ودون أن تظهر في الأفق نيّة لتوجيه الدعوة. ومعروف مدى ارتباط وجود إسرائيل ذاته برضى أمريكا ودعمها.
رابعاً: بدء تشكل النظام العالمي الجديد، وبدء ترسّخ هذا النظام، وهوما يبشّر بانتهاء قدرة إسرائيل على الاستهتار وعدم الامتثال لقرارات الشرعية الدولية.