تحدثت في المقال السابق عن أن الخلل في فكرة التوحيد يؤدي لا محالة
إلى الانكسار الحضاري للأمة الإسلامية، وهذا ما نشاهده ونلاحظه في العصور
المتأخرة، فكلما ابتعدنا عن هويتنا وثوابتنا وتقاليدنا استخفّ بنا الآخرون،
ولم يهتموا بنا، ولعل ما يحدث من حين لآخر سواء بالرسوم المسيئة لنبي الإسلام، صلى
الله عليه وسلم، أو الإقدام على حرق القرآن الكريم في السويد، أو غيرها بحجج واهية
خير دليل على ذلك.
فلو أن العقيدة الإسلامية تسير في وجدان شعوبنا كما ينبغي، أو كانت
هذه العقيدة بكل تفاصيلها في اعتبار حُكّامنا ما جرؤ أي مهووس على الاستهانة
بالمقدسات الإسلامية، أو فعل مثل هذه الأفعال المشينة.
وبطبيعة الحال المنهج الذي به تكون صياغة الفكرة وتطبيقها في الواقع
يتوقف عليه إلى حد كبير صيرورتها واقعًا حضاريًا، كما عبر عن ذلك الدكتور عبد
المجيد النجار في كتابه القيم: "الشهود الحضاري للأمة الإسلامية"،
فالفكرة الدافعة إلى التحضر قد تعالج بمنهج صحيح فتدفع إليه، وتثمر في البناء
الحضاري، وقد تعالج بمنهج مختل فإذا هي رغم أحقيتها في ذاتها لا تثمر في الواقع
شيئًا، أو لا تثمر فيه إلا قليلًا.
وكم هي تلك الأفكار القيّمة السامية التي لا يكون لها وجود إلا في
الأذهان بسبب عُقم منهجي في تحويلها إلى واقع معاش، وذلك هو شأن المدن الفاضلة،
والمثل العليا التي تغنّت بها فلسفات ومذاهب وأديان كثيرة، ولكنها لم تتحول إلى
واقع حضاري بسبب من خلل في منهج التحويل في أغلب الأحوال.
ولعل هذا ما لمسناه في التصور الذي وضعه أفلاطون (ت 347 ق.م) في
جمهوريته، التي حلّق بها في الآفاق، وسار على درب المثالية، وتبعه في ذلك وسار على
نهجه الفيلسوف المسلم الفارابي (ت 339ه) في مدينته الفاضلة، وكلاهما بنى أفكارًا
مثالية، ولكنها لم تجد لها آذانًا صاغية، لأنها لم تلامس أرض الواقع.
والمتأمل في المنهج الذي ينتهجه
المسلمون اليوم فيما يرومون من مسعى
للنهوض يقف فيه على مظاهر من الخلل سواء على مستوى التفكير، أو على مستوى التطبيق.
فالدارس للطرق والأساليب التي انتهى إليها عامة المسلمين في صياغة
أوضاع حياتهم
مما يعمر أذهانهم من أفكار، بل في تحصيل تلك الأفكار قبل ذلك من مصدر الوحي، ثم في
تنزيل تلك الصياغات على واقع حياتهم لتحريكه بها نحو ما يريدون من البناء.
الدارس لذلك يدرك كيف أن مظاهر من الخلل تعوق المسلمين عن النهوض،
وتنضاف عاملاً أساسيًا في تلك الإعاقة إلى الخلل الذي طرأ على الفكرة نفسها، فإذا
بذلك القصور الذي تعاني منه تلك الفكرة في دفعها للعمل الحضاري يتعزّز بقصور في
المنهج الذي تُعالج به لتصير واقعًا، وإذا هي بسبب ذلك لا تثمر في الواقع من
التحضر حتى بقدر ما عناصر الحق المشوبة بالخلل.
ويمكن أن نُرجع مظاهر الخلل المنهجي كما هو بيّن اليوم في واقع الأمة
الإسلامية إلى مظاهر أساسية عامة، من أهمها:
أولًا ـ اختلال الواقعية:
والمقصود بالواقعية في هذا السياق اعتبار الواقع المادي والواقع
الإنساني عنصرًا أساسًا في صياغة مشاريع النهضة وتطبيقها، بحيث يقع الانطلاق منه
في بناء الصياغة أساسًا، كما يقع الرجوع إليه باستمرار في تعديل تلك الصياغة
وتحسينها وفي تطبيقها الفعلي. وأيضًا إهمال هذا الواقع إهمالاً كليًا أو جزئيًا
عند صياغة المشروع الإصلاحي وتطبيقة، والاكتفاء في ذلك كليًا أو جزئيًا بصياغة
نظرية تتعامل مع التصورات الذهنية، وتتخذها منطلقًا أساسيًا بعيدًا عن معطيات،
وعناصر الواقع الذي يراد علاجه.
إنه إذن مظهر منهجي يتمثل في عزوف الفكر الإسلامي الراهن عن الدراسة
الواقعية للحياة الإسلامية خصوصًا، والحياة الإنسانية عمومًا، دراسة تعتمد النظر
الوصفي والتحليلي العميق والاستعاضة عن ذلك في الغالب بالنظرة العامة ذات المنزع
التقديري الذي يصل مباشرة إلى الرفض العام دون الوقوف العلمي على التفاصيل
والأسباب، وهو خلل بيّن في صفة الواقعية باعتبارها منهجية تفكير وسلوك تداعت منه
أخلال أخرى ذهبت في نقض الواقعية إلى ما هو أبعد من العزوف عن النظر في الواقع.
لو أن العقيدة الإسلامية تسير في وجدان شعوبنا كما ينبغي، أو كانت هذه العقيدة بكل تفاصيلها في اعتبار حُكّامنا ما جرأ أي مهوس على الاستهانة بالمقدسات الإسلامية، أو فعل مثل هذه الأفعال المشينة.
إن هذه المثالية التي يتعامل بها اليوم الفكر الإسلامي مع واقع
المسلمين في محاولات إنهاضه هي بقطع النظر عن لونها تمثل عائقًا يعوق عن انطلاق
هذا الواقع في سبيل التحضر؛ ذلك لأنها تجعل هذا الفكر سواء في بنائه التصوري لخطط
النهوض، أو في إجرائه التطبيقي لتلك الخطط لا ينفذ إلى العلل الحقيقية التي تشدّ
الأمة إلى تخلّفها حتى يصف لها من العلاج ما يلائمها، وإنما هو يبني من المثال
بمعزل عن أسباب الواقع وتفاعلاته، فتظل معالجاته تلامس الظواهر دون أن تصيب أصل
الأدواء التي تبقى فاعلة بالتوهين في جسم الأمة، فلا تنطلق قدراتها للشهود حتى
يتحوّل التفكير من المثالية إلى الواقعية.
ثانيًا ـ اختلال السببية:
وهو الفكر الذي يقوم على ربط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدّمات،
ويقدر أن النتائج لا تكون إلا من أسبابها المخصوصة سواء في مجال الطبيعة، أو في
مجال الحياة الإنسانية، وتنتفي منه تبعًا لذلك كل التفسيرات الخرافية والأسطورية
التي تهدر السببية، وتقفز بالنتائج إلى أسباب وهمية لا صلة لها بأسبابها الحقيقية،
فاختلال الفكر السببي الذي نعنيه في هذا السياق هو تجاوز القانون السببي في
التفكير، بحيث في ربطه بين المقدمات والنتائج ينسب النتائج إلى غير مقدماتها
الحقيقية، ويضع مقدمات يرتب عليها نتائج لا يمكن أن تحصل منها لمخالفتها لطبيعتها،
وقد يشتد الاختلال في الفكر السببي حتى يصل إلى درجات الفكر الخرافي الوهمي، وقد
يخفّ إلى أن يكون مجرد غفلة عن الرابطة السببية في بعض الأحوال التي تكون فيها تلك
الرابطة على وضع من الخفاء. .
وقد جاء الإسلام يُرسّخ مفهوم السببية كقانون طبيعي واجتماعي، وذلك
في نطاق ما ارتضاه الله تعالى من نمط في تدبير الكون، وفي تصريف شؤون الحياة، وهو
ما يفهم من أمثال قوله تعالى في شأن ذي القرنين الذي مكنّ الله تعالى له في الأرض
باتباعه الأسباب: (إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ
شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (الكهف: 84 ـ 85).
يقول ابن كثير: أي أعطيناه (ذي القرنين) مُلكًا عظيمًا متمكنًا، فيه
له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود، وآلات الحرب والحضارات؛ ولهذا ملك
المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم،
من العرب والعجم. ثم يقول عنه إنه كان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم.
وهذا يدل دلالة قاطعة على أهمية الأخذ بالأسباب الصحيحة في كل ميدان،
حتى تتحقق للأمة النهوض الحضاري الذي تسعى إليه، وعدم التوكل على الله، والركون
إلى الكسل، وإهمال الأسباب جريمة كبرى في حق الأجيال القادمة.
ثالثًا ـ اختلال الشمولية:
والمقصود بها هو التصرف نظرًا وعملاً بحيث
يكون الإنسان مشرفًا على دائرة واسعة يرى فيها الأبعاد في كل الجهات، ويرتب
العناصر الجزئية وفق مبادئ كلية، فإذا النظر يشمل أكثر ما يمكن من المعطيات التي
يستبين من خلالها الحقيقة فيضمن إصابتها بأكبر قدر ممكن، وإذا العمل يُبنى على
تقدير لأوسع ما يمكن من آثاره وتداعياته، وكل ذلك في شمولية تدرج فيها الجزئيات في
الكليات، وينفسح فيها التعامل المعرفي والسلوكي إلى دائرة واسعة من محيط الإنسان.
والاختلال في هذه الشمولية أن يكون الإنسان في سعيه لمعرفة الحقيقة
يقتصر على القدر القليل من معطياتها التي تستبين من خلالها، فإذا هو لا يدركها، أو
لا يدرك إلا الجزء القليل منها، وكذلك أن يكون في سعيه لتحقيق الخير بسلوكه، لا
يرى من آثار ذلك السلوك إلا ما هو قريب منه ظاهر دون تداعياته وآثاره البعيدة التي
قد تكون على عكس ما يراد من خير.
إن هذا الاختلال هو سلوك مسلك الجزئية في النظر والتقدير، بحيث تبنى
الأحكام وتطبق بناء على معطيات جزئية، واعتبارًا لدائرة ضيقة، فينشأ من ذلك اضطراب
في التقدير، وقصور في الأداء لما يحقق المصلحة للإنسان. وهذا على خلاف ما كان عليه
الفكر الإسلامي في عهد الازدهار.
ولا يبتعد عن هذا الاختلال بعض الحركات الإسلامية، حيث تلتمس الآراء
والأفكار التي يراد أن تكون أساسًا لسيرورة الحياة الفردية والاجتماعية من
المدوّنة التراثية على سبيل الاقتصار عليها، واعتبار أن الحقيقة لا تستبين إلا من
خلالها دون غيرها من المعطيات، وكانت النتيجة أن انتهى هؤلاء الذين يسلكون هذا
المسلك إلى نمط من المشروع يقترحونه لتطوير الحياة الإسلامية لا يستجيب لمقتضيات
تلك الحياة وملابساتها، ولا يستفيد من الكسب المعرفي الإنساني المستجدّ سواء كان
ذلك في تنظيم الحياة السياسية، أو تنظيم الوضع الاقتصادي والاجتماعي أو حتى في
التصرفات الفردية الخاصة.
إن هؤلاء نظروا في مساحة محدودة من مادة النظر هي مساحة التجربة
التاريخية للتحضر الإسلامي من خلال التراث، واستخلصوا منها صورة مثّلت عندهم
الحقيقة التي يمكن أن تدفع الحياة اليوم إلى التحضّر، ولكن غفلتهم عن مساحة أخرى
مهمة من مادة النظر في هذه القضية، وهي مساحة الواقع الراهن بأوضاعه وملابساته
ومستجداته جعلت تلك الصورة التي انتهوا إليها صورة لا تحمل من عناصر الحق ما يكفل
تطوير الحياة الراهنة، وإن كانت حملت من تلك العناصر ما طور الحياة الماضية، فإذا
هي لا تفلح في الإحياء والتطوير بسبب من الجزئية في النظر المعرفي.
يتبين مما تقدّم أن الخلل المنهجي في الواقع الراهن للمسلمين فكرًا
وسلوكًا متمثلاً بالأخص في اختلال الواقعية والسببية والشمولية، يمثل عائقًا مهمًا
من عوائق الانطلاق في التحضّر، إذ هو يصرف النظر إلى حد كبير عن الواقع أن يحلّل
فتفهم عناصره وأسبابه وأدواؤه ويوجهه إلى مثالية متعالية عن ذلك الواقع، فلا
يستجيب لها بالتغيير إلى الأفضل، كما أنه يصرف الأفكار والأعمال عن أن تنتهج
الأسباب في التصوّر والتنفيذ، فإذا الجهود تذهب هباء لصرفها في مسالك موهومة لا
تؤدّي إلى شيء من النفع المادي أو المعنوي الذي لا يتأتى إلا بقانون ارتضاه الله
تعالى سنة للكون والحياة. كما أنه أيضًا يفضي بالنظر والعمل معًا إلى وضع تجزيئي
تضطرب فيه الأولويات، وتفتقد فيه الموازنة، وتنحجب به المآلات البعيدة. وأنّى لمنهج
هذه نهاياته أن يكون به انعتاق من التخلف والعطالة الحضارية؟
twitter.com/drgamalnassar
موقع إلكتروني: www.gamalnassar.com