تحدثت في مقالات سابقة عن أسباب الانكسار والانهزام الحضاري للأمة،
وذكرت أنها تنحصر في عدة أسباب، منها: تشويه فكرة التوحيد، والخلل في المنهج،
واختلال الإرادة، وعُقدة النقص لدى الكثير من المسلمين تجاه الغرب، والممارسات
الاستبدادية التي نمارسها في حياتنا على المستوى الفردي والجماعي، ومن ثمَّ انتقلت
إلى الحديث عن أهمية التفكير السليم والنظر الصحيح.
وفي هذه المقالة التي أختم بها هذه السلسلة، التي استقيتها من كتاب
"الشهود الحضاري للأمة الإسلامية"، الذي سطّره الدكتور عبد المجيد
النجار، أتحدث عن الخصائص المنهجية التي يمكن أن تساعدنا في تسديد فكرنا، وضبطه
منهجيًا.
أقول إذا أردنا أن نتبع الطريقة المنهجية لتسديد الفكر، لكي نستطيع
مجابهة المتغيرات الفكرية في حياتنا، ومواجهة الغرب الذي يريد أن يُغيّر من
ثوابتنا، فلا بد من توافر عدة عوامل منها: (شمولية النظر، الواقعية، النقدية).
أولًا ـ شمولية النظر:
والمقصود بها أن يتصف العقل بصفة منهجية يتجه بها في البحث عن
الحقيقة لبناء حياته عليها اتجاهًا يتقصى فيه مادة النظر تقصيًا كاملًا بقدر
الطاقة سواء في موضوعها أو في أبعادها الزمانية، بحيث لا يهمل جوانب منها فيسقطها
من توجهه في البحث ويقتصر على جوانب بعينها يبني عليها أحكامه، ويصوغ منها تقاريره
ومخططاته.
وإنما كانت شمولية النظر صفة سداد في الفكر لأن التقصي في مادة البحث
بقدر ما يكون أوسع يكون الوصول إلى الحق أضمن؛ إذ الحقيقة تتكشف للذهن بقدر ما
يستكشف هو من العناصر الدالة عليها وتنحجب عنه بقدر ما يقصر في ذلك ويضيق في نظره
من تلك العناصر.
وقديمًا ضرب مثل في هذا الشأن بمن يتلمس ذراع فيل وهو محجوب البصر،
فإنه يحكم لو اقتصر على ذلك بأنه سارية، ولكنه لو وسع دائرة تلمسه لتشمل أعضاء
أخرى من الفيل لحكم ذهنه بالحقيقة أو بما هو قريب منها على الأقل، وكذلك الأمر
بالنسبة لعمل العقل.
وقد وجه القرآن الكريم العقول لتتخذ لنظرها مدى واسعًا لا يحده حد،
يشمل المادة وما وراء المادة، ويشمل الماضي والحاضر والمستقبل، ويشمل الأمم
والشعوب مجتمعات ومذاهب وأديانًا، ولم يحجر على نظره شيئًا سوى عناصر قليلة معدودة
لا يصل فيها عقل الإنسان إلى طائل فيكون نظره فيها إهدارًا لطاقته دون فائدة، وذلك
من مثل طبيعة الروح والذات الإلهية، وميقات الساعة.
لقد صاح القرآن الكريم في الناس يربّيهم على شمولية النظر قائلاً:
(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (يونس:101) وقائلاً: (قُلْ
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
(الأنعام:11)، فهي دعوة للنظر في المادة الكونية وفي الأحداث التاريخية، وفي تراث
الناس من المذاهب والأديان.
ولو تأملنا حال الفكر الإسلامي اليوم من حيث هذه الخاصية لوقفنا فيه
على قصور كبير يؤدّي إلى خلل بيّن في نتائج الأحكام التي يصل إليها ويؤلّف منها
رؤاه في توجيه الحياة.
فهذا الفكر هو في الغالب فكر يتصف بالجزئية اقتصارًا على بعض مادة
البحث واستبعادًا لأخرى، واقتطاعًا لبعض مراحل الزمن وإخراجًا لبعض آخر من دائرة
النظر، ونشأ من ذلك ما نعلم من الأحكام الجزئية، ومن أحكام الرفض والإلغاء للآخر،
ومن التقديس الزمني للفترات المعينة من التاريخ، وما إلى ذلك من مثل هذه
الانحرافات، وقد كان لها كلها الأثر السيء في تعطيل الحركة الإنمائية، وتأخير حركة
التحضّر.
ولن ينصلح أمر الفكر الإسلامي في هذا الخصوص حتى يكون فكرًا شموليًا
في النظر، يتحرّر من الجزئية بمختلف مظاهرها ليصبح مشرفًا إشرافًا شاملاً على مادة
المعرفة موضوعًا وتاريخًا، لا يهدر منها شيئًا بالاستبعاد أو الإلغاء أو الغفلة.
ولا تكون هذه الشمولية شمولية تامة حتى تتحقق على مستويات ثلاثة: (شمولية موضوعية،
وشمولية زمنية، وشمولية منطقية).
ثانيًا ـ الواقعية:
والمقصود بالواقعية صفة يكون عليها العقل بحيث ينتهج في البحث عن
الحقيقة، وفي تقدير الأحكام منهج التوجّه إلى الواقع المادي والإنساني ليتخذ من
تدبره ودرسه منطلقًا لكل حكم من أحكامه، ولكل اجتهاد من اجتهاداته في تقرير
الحقائق المجرّدة، أو في معالجة الأوضاع الواقعية.
فالواقعية إذن بهذا المعنى هي منهج في البحث عن الحق يسلكه العقل في
التفكير، ويكون فيه الواقع عنصرًا أساسيًا من عناصر البحث، بل هو منطلق ذلك البحث.
وإذا كان الفكر الإسلامي في العهود الأولى قد انطبع بالتوجيه القرآني
بصفة من الواقعية صار بها يجعل من واقع المادة وواقع الحياة الإنسانية محطته
الأولى في البحث عن الحقيقة، فإن هذا الفكر أصابه بعد حين خلل في التكوين نأى به
عن ذلك الواقع، فصار يبحث عن الحقيقة انطلاقًا من غيب التاريخ السالف، أو انطلاقًا
من أعمال الروح الباطنية، ولا يلتفت إلى واقع الكون والحياة في هذا الشأن إلا
قليلاً.
واستفحل ذلك الخلل فإذا المسلمون بين مجتر للتاريخ يجلب منه صورًا
يريدها مسلكًا للحياة المتغيرة وبين هائم في غياهب الخيال الروحي يتخد منها ملجأ
للحياة بديلاً عن واقع الناس المعاش، وكل من أولئك وهؤلاء انصرفت أفكارهم عن عالم
الواقع حتى أصبح ذلك سجية في عقولهم قصرت بهم عن حقيقة واقع الكون فماتت العلوم
التجريبية، وعن حقيقة الواقع الإنساني فتجمّدت مسالك الحياة، وتوقفت عن النمو
زمنًا طويلاً.
إذا كان الفكر الإسلامي في العهود الأولى قد انطبع بالتوجيه القرآني بصفة من الواقعية صار بها يجعل من واقع المادة وواقع الحياة الإنسانية محطته الأولى في البحث عن الحقيقة، فإن هذا الفكر أصابه بعد حين خلل في التكوين نأى به عن ذلك الواقع، فصار يبحث عن الحقيقة انطلاقًا من غيب التاريخ السالف، أو انطلاقًا من أعمال الروح الباطنية، ولا يلتفت إلى واقع الكون والحياة في هذا الشأن إلا قليلاً.
وها هي اليوم تنزع إلى الحركة من جديد، ولكنها تراوح مكانها بسبب أن
الفكر الإسلامي الراهن يستصحب شيئًا غير يسير من النأي عن الواقع في بحثه عن
الحقائق، وفي تقديره للأحكام.
وترشيد الفكر الإسلامي ليكون من جديد فكرًا واقعيًا بالمعنى الذي
وصفناه يقتضي أن يتكوّن هذا الفكر على معان أساسية ثلاثة كل منها يمثل وجهًا من
وجوه الواقعية، وبتحقق ثلاثتها يمكن أن يوصف الفكر بأنه فكر واقعي، وهي: (الاعتداد
بالواقع، واقعية المنطلق، واقعية التقدير).
ثالثًا ـ النقدية:
والمقصود بها صفة منهجية للفكر يتحرك بها في البحث عن الحقيقة، وفي
تركيب الصيغ الإصلاحية منها بحيث يجمع بين المعطيات المختلفة، بل حتى المتناقضة
منها، ويقارن بينها، ويقابل بعضها ببعض، ويحاكم بعضها إلى بعض، ليخلص من ذلك إلى
الموازنة التي تنتهي إلى التمييز والحكم، مخالفة في ذلك لمسلك التفكير الذي ينتهج
فيه الفكر التزام الخط الواحد من المعطيات المتجانسة المتوافقة دون نظر في
المعطيات المعارضة لها بحيث تنتقي فرص المقابلة والمقارنة، وإنما تعتمد الجهة
الواحدة دون التفات إلى غيرها مما يغايرها.
وهذا هو الفكر الذي يمكن أن يسمى بالفكر الخطي التزامًا منه بالنظر
في الخط الواحد دون غيره، وذلك في مقابل الفكر النقدي الذي يجمع بين خطوط عدة
ويقارن بينها.
وإذا تأملنا في القرآن الكريم نجد أنه جاء لتكوين العقل الإسلامي على
هذه الخاصية النقدية، ويبدو ذلك فيما دأب عليه القرآن الكريم من عرض الآراء
والعقائد المخالفة، ومقابلتها بالعقيدة الحق، ثم نقدها ببيان خطتها وزيغها؛ ولذلك
فإنه تكثر فيه بأساليب مختلفة إيرادات مقولات الأديان والمذاهب في معرض المقابلة
والنقد.
وفي سبيل تأكيد هذه الصفة وترسيخها كثيرًا ما كان القرآن الكريم يعرض
مواقف ونماذج من الفكر الخطي المتعلق، ويبين الآثار السلبية التي يقضي إليها ذلك
الفكر، وذلك في مثل قوله تعالى في فرعون وقومه وموقفهم من الرجل المؤمن الذي يكتم
إيمانه، والذي قال: (يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ
فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ
إلا مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29)، فقد اتبع قوم
فرعون منهج
الرأي الواحد وهو الذي أراهم إياه فرعون، ورفضوا أن يقارنوا بالرأي
الآخر وهو الذي جاء به الرجل المؤمن، فكانت عاقبة فكرهم الخطي هذا تماديهم في
الضلال، وهلاكهم.
وقد كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يُعمّق هذه التربية القرآنية
القائمة على النقدية في نفوس المسلمين، إذ دأب على مشاورة أصحابه في كل الشؤون حتى
اتخذ شعارًا له: (أشيروا) عليّ أيها الناس، وما ذلك إلا ليربي المسلمين على الفكر
النقدي بتناول الآراء المختلفة ومناقشتها ونقدها، وإلا فإن الحق بائن لديه، إذ هو
المؤَيد بالوحي المعصوم من الخطأ.
ولكن هذه الخاصية النقدية في الفكر الإسلامي آلت إلى الانحلال شيئًا
فشيئًا، ولم يبق منها إلا أثر قليل فقد ظهرت بوادر الحجر على الرأي المخالف
مستهدفة بادئ الأمر الرأي المخالف للإسلام من المذاهب والأديان ثم امتد الزمن إلى
الرأي المخالف في نطاق الدائرة الإسلامية نفسها، وتمثل ذلك في المنهجية العقدية
والفقهية الضيقة التي تلغي، أو تكاد الرأي الآخر، وتنطوي على الرأي الوحيد في تعصب
وانغلاق، فضعفت بذلك كثيرًا الخاصية النقدية.
والخلاصة: أن هذه الخصائص ليست كما يتوهم البعض مجرد محتويات من
المعارف، أو هي قواعد عارضة يؤخذ بها حينًا دون حينٍ، وحالاً دون حال بحسب الظروف
والمواقع، وإنما هي صفات يتطبع بها الفكر تطبعًا منهجيًا، فيكون صادرًا عنها فيما
يشبه التلقائية في حركته كلها، فيصدر عنها في سعيه إلى المعرفة، ويصدر عنها في
بناء الرؤى والتصوّرات، ويصدر عنها في وضع البرامج والخطط الإصلاحية.
twitter.com/drgamalnassar
موقع إلكتروني: www.gamalnassar.com