جاءت معركة
مخيم جنين الأخيرة يومي 3 و4 يوليو الحالي في لحظة تصادم حاد ووجودي بين مشروع النهوض
الفلسطيني القائم على مقاومة الكيان الصهيوني الاستعماري الإحلالي العنصري بالوسائل كافة، وعلى رأسها الكفاح المسلح، ومشروع غلاة الصهاينة من المستوطنين والحرديم والتيارات الأمنية المتشددة القائم على أن الوقت الآن مناسب لحسم الصراع مرة وإلى الأبد، واجتثاث القوى الوطنية الناهضة بقوة السلاح وإغلاق ملف الصراع وتحويل الشعب الفلسطيني إلى تجمعات سكانية في جزر معزولة، تتكفل القوى الوظيفية المحلية بإدارة حياتهم اليومية.
لم تحسم المواجهة لصالح أي من المشروعين، وستكون هناك مواجهات جديدة. فالشعب الفلسطيني كفر بكل عملية السلام والمفاوضات، وخديعة حل الدولتين وأصبح الانتقال إلى خندق المقاومة يزداد اتساعا وشعبية ومشروعية. غلاة الصهاينة يعتقدون أنهم قادرون الآن على الحسم، وإذا ضاعت الفرصة فلن تتكرر أبدا، وإذا تمكنت مجموعات المقاومة من تحويل الضفة الغربية كلها إلى لجّة لهب ضد
الاحتلال والاستيطان وعملائهما، فلا شك في أن المشروع الصهيوني برمته آيل إلى الانهيار.
تستند الحكومة الصهيونية الحالية إلى أيديولوجية متوحشة، تقوم أساسا على ثلاث ركائز: الإفراط في استخدام القوة الفتاكة من دون أي تحفظات، والتوسع الاستيطاني من دون حدود، وإعادة تعريف الأراضي الفلسطينية بأنها ليست محتلة، بل تم تحريرها من احتلال أردني غير شرعي. وتعتقد حكومة نتنياهو أن الوقت مناسب الآن لضم كل الأرض الفلسطينية وإعلان سيادة الكيان على كامل أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وهي خطوة مقبلة لا محالة، حتى لو لم يعلن عنها رسميا، خاصة إذا عاد دونالد ترامب، أو مثيل له للبيت الأبيض.. فلنكن جاهزين.
تعتقد حكومة المستوطنين الحالية أنها قادرة على حسم الصراع، وذلك لظروف فلسطينية وعربية ودولية مواتية:
على الساحة الفلسطينية
– الكيان لم يعد يثق بالسلطة، ووضع شروطا قاسية لإنقاذها، من بينها إسقاط الشكاوى القانونية كافة، أمام المحافل الدولية، ووقف دفع مخصصات الأسرى والشهداء، وتغيير مناهج التدريس وتعميق التنسيق الأمني. السلطة الفلسطينية كذلك فقدت ثقة الشعب الفلسطيني بها، وتحاول فرض سيطرتها بالاعتقالات واستخدام القوة، واستطلاعات الرأي الأخيرة تؤكد ذلك، بل تؤيد المواجهات المسلحة. فهي عاجزة عن لجم أعمال المقاومة، خاصة في مناطق الشمال، وتحول التنسيق الأمني إلى «وصمة عار» على جبين الأجهزة الأمنية، التي تختفي تماما في المواجهات وتعود بعد المواجهات تلاحق الناشطين، وتعتقل الوطنين والمعارضين والمقاومين والأسرى المحررين.
– الانشقاق الفلسطيني المكاني والسياسي آخذ في الاتساع وهناك توجهات لدى السلطة الفلسطينية أن تعلن تنظيم حماس (وربما الجهاد لاحقا) في الضفة تنظيما محرما، يعاقب كل من يؤيده أو يتعاطف معه أو ينتمي له، ما قد يؤدي إلى مزيد من التصدع المجتمعي وإثارة معارك جانبية قد تسبب أوجاعا للكيان.
– يخشى الكيان من تكرار هبة الكرامة في مايو 2021 التي مثلت مواجهة شعبية نوعية، تحركت فيها لأول مرة كل مدن وقرى فلسطين التاريخية في وقفة تضامن عظيمة مع القدس والشيخ جراح، ولذلك ترى قيادة حكومة المستوطنين أن الوقت الآن مناسب لاجتثاث المقاومة، قبل أن يستوي عودها وتأخذ أبعادا جماهيرية أعمق ورقعة جغرافية أوسع وينتقل أوارها إلى تجمعات المستوطنين في كل مكان.
على الساحة العربية
الظروف العربية مواتية للخطة الصهيونية، إذ أن الدول العربية لم يعد يجمعها شيء ولم تعد قضية فلسطين قضيتهم الأولى ومن هذه المظاهر:
– لقد مثلت «قمة النقب» (مارس 2022) للدول المطبعة بحضور مصر والأردن تبلور المشروع الأمني الإسرائيلي للمنطقة، بمباركة من الولايات المتحدة والهادف أساسا إلى توسيع دائرة التطبيع مع بقية الدول العربية ثم الإسلامية، وتهميش القضية الفلسطينية، وترتيب مستقبل المنطقة ليكون الكيان الصهيوني «بيضة القبان» في «شرق أوسط جديد». وما ترتيبات «العقبة» (فبراير 2023) وشرم الشيخ (مارس 2023) إلا ترجمة لتلك الالتزامات الفلسطينية والعربية، بالعمل من أجل أمن الكيان الصهيوني واجتثاث مجموعات المقاومة.
-عمليات التطبيع العربي تسير بوتيرة عالية حيث وافقت كل من الصومال وجزر القمر العضوين في الجامعة العربية للانضمام إلى «قمة النقب المقبلة» في المغرب، التي تأخر موعدها فقط لتمرير عاصفة مجازر مخيم جنين. الحوارات الأمريكية السعودية للدخول في نادي التطبيع متواصلة والمفاوضات تتعلق بالثمن فقط، ولا علاقة لفلسطين بتلك الشروط، كما أشار الكاتب توماس فريدمان في مقاله يوم 4 يونيو الماضي في جريدة «نيويورك تايمز».
وللتدليل على عمق واتساع العلاقة بين الكيان ودول التطبيع، فقد ارتفعت قيمة الصادرات العسكرية إلى دول التطبيع من 853 مليون دولار عام 2021 إلى 2.96 مليار دولار عام 2022 أي بارتفاع من 9 إلى 26 في المئة في سنة واحدة.
على الساحة الدولية
– ما يسمى «المجتمع الدولي» وهم كبير تعممه السلطة العاجزة في رام الله، خاصة بيانات وزارة الخارجية التي تكرر بشكل ممجوج «مناشدة المجتمع الدولي التدخل» و»تحميل إسرائيل المسؤولية الكاملة». فالأمم المتحدة تغيرت كثيرا. وللتدليل على ذلك لم يصوت مع قرار إحالة الاحتلال إلى محكمة العدل الدولية، الذي اعتمد بتاريخ 30 ديسمبر 2022 إلا 87 دولة من مجموع 193. وصوتت 26 دولة بـ»لا» و53 دولة بـ»امتناع». من بين الدول المؤيدة 7 دول افريقية تحت الصحراء و11 دولة من أمريكا اللاتينية.
– الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قرر عدم إدراج الكيان في قائمة العار في تقرير الأطفال والنزاعات المسلحة لعام 2022 الصادر مؤخرا بحجة انخفاض عدد الغارات الجوية من 598 خلال عام 2021 إلى 52 خلال عام 2022،. هل هناك تدنٍ خلقي وإنساني وسياسي أكثر من هذا.
– علاقات الكيان مع الصين في أرقى مراحلها وعلاقته مع الهند والقارة الافريقية ودول أمريكا اللاتينية في تطور مستمر. كما أن الحرب الأوكرانية خلقت أجواء جديدة لصالح الكيان الصهيوني، سواء بانتهاء الضغوط عليه أو بزيادة الصادرات العسكرية لأوكرانيا، خاصة المسيرات. ويستغل الكيان الحرب لحشد التأييد لموقفه من إيران المزود الأساسي للمسيرات المقاتلة للجيش الروسي.
فلسطين وظاهرة المقاومة المسلحة
بعد ثلاثين سنة من توقيع اتفاقيات أوسلو الكارثية تبين للشعب الفلسطيني بغالبيته الساحقة عمق الأزمة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية. لقد اقتنع هذا الشعب بأن الاتفاقيات لن تؤدي إلى دولة مستقلة ولن توقف الاستيطان، ولن تعيد لاجئا واحدا ولن توقف قطار تهويد القدس ولن تخرج أسرى الحرية ولن تخفف من استشراء الاستيطان وعنف المستوطنين. لقد أطلق الفلسطينيون انتفاضتهم الثانية، وكانت نوعا من الاحتجاج على اتفاقيات أوسلو. لكن الانتخابات الرئاسية 2005 والانتخابات التشريعية 2006 غيرت المعادلة تماما. فهناك رئيس يرفض المواجهة والمقاومة وهناك فصيل مقاوم دخل لعبة السلطة وتشكيل إمارة إسلامية. كل هذه التطورات تركت أثرها العميق في الأجيال الجديدة التي ولدت ونشأت وترعرعت بعد اتفاقيات أوسلو ووجدت أن طرق الأمل مسدودة جميعها. فمنهم من اتجه للعمل مع الأجهزة الأمنية، ومنهم من حاول إيجاد وسيلة للعمل داخل الكيان، ومنهم من حاول أن يهاجر خارج الوطن بأي ثمن حتى لو غرق في مياه المتوسط. ومع تغول القهر الصهيوني واتساع اعتداءات المستوطنين واقتحامات الأقصى وزيادة وتيرة القتل واقتحامات المدن وطرد السكان وهدم البيوت، في غياب سلطة تحمي مواطنيها، أو تنتصر لهم انتشرت ظاهرة العمليات الفردية في منتصف العقد الماضي، خاصة استخدام أسلوب الطعن وعمليات الدهس بالسيارات، ثم جاءت الآن المرحلة الثانية، التي انطلقت بعد هبة الكرامة 2021. بدأت الظاهرة الجديد من رحم الظلم والقهر وعجز السلطة فبدأت تتشكل جماعات محلية قررت المواجهة مهما كلف الثمن. بعد انطلاق جماعة عرين الأسود في نابلس، لحقت بها كتيبة جنين، ثم غيرها من المجموعات في عرابة وجبع وبرقا وعقبة جبر وغيرها. وبدأت المجموعات تقوم بعمليات نوعية موجعة ليس فقط في الضفة الغربية، بل وفي العمق داخل فلسطين التاريخية. وهنا رن جرس الإنذار واهتـز الكيان من جذوره وبدأ كتاب ومفكرون عالميون يتحدثون عن نهاية الكيان، وقد تزامنت الظاهرة مع الانشراخ الكبير داخل الكيان بين العلمانيين والمتدينيين. انشطار أفقي وعمودي يشجع الآن فكرة المقاومة لهشاشة هذا الكيان المسخ.
نحن الآن أمام هذه الصورة الحالية: كيان مهزوز وضعيف داخليا يتغول على الفلسطينيين باستخدام القوة المفرطة يقابله نهوض وطني فلسطيني يؤمن بأن هذا الكيان إذا لم يدفع ثمنا باهظا لجرائمه فلن يردعه شيء لا مجتمع دولي ولا جامعة عربية عاجزة ولا سلطة وظيفية تكاد تلفظ أنفاسها. هذه ساحة المواجهة الآن ومن هنا يجب أن نبدأ النقاش حول الآتي من الأيام.
(القدس العربي)