في 3 آب/ أغسطس 2021 أي قبل عامين من الآن، كتب السياسي
المصري المؤيد للانقلاب،
محمد أبو الغار، مقالا بعنوان "
تفشي الأمية في 25 مليون مصري عار كبير" جاء فيه: "أصدر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء
بيانا في 8 أيلول/ سبتمبر عام 2020 بمناسبة "اليوم العالمي لمحو
الأمية"
الذي أقرته اليونسكو عام 1965، وذكرت أنه في آخر تعداد نشره الجهاز في عام 2017 ذكر
أن نسبة الأمية في مصر تبلغ 25.8 في المئة. وتقول هيئة تعليم الكبار إن النسبة انخفضت
إلى 24.6 في المئة دون إيضاح كيف حسبت هذه النسبة.. بينما تذكر اليونسكو أن النسبة
28 في المئة في عام 2019".
ثم طرح الكاتب سؤالا متبوعا بإجابة قد تمثل مخرجا للنظام: "والسؤال: هل
استطاعت دول مشابهة لنا الخروج من مستنقع الأمية؟ استطاعت كوبا وهي دولة شمولية أن
تخفض نسبة الأمية من 65 في المئة إلى 4 في المئة في فترة وجيزة، واستطاعت المكسيك وهي
دولة شبه ديمقراطية خفض نسبة الأمية إلى 6 في المئة".
فمع إيمان محمد أبو الغار، الأستاذ الجامعي، بأن مصر دولة شمولية إلا أنه يرى
إمكانية تحقيق معدلات أفضل في مجال محو الأمية، وهذا افتراض خاطئ، والمقارنة في الأساس
خاطئة، فكوبا دولة ذات سيادة ومستقلة ولدى السلطة المحاصرة من أمريكا إرادة للتغلب
على الحصار وعلى الواقع المرير، لذا فقد حققت إنجازات كبيرة في الصحة والتعليم، وهو
الأمر غير الموجود لدى قادة الانقلاب في مصر خلال العشرية السوداء منذ انقلاب 3 يوليو
2013 وحتى تاريخ كتابة هذه السلسلة، بل إن إرادة الجنرال تمضي عكس ما هو مطلوب.
لو راجعت تصريحات الجنرال السيسي المتعاقبة بشأن
التعليم والصحة، وهما أهم مرفقين
في عملية التنمية الإنسانية قبل الطرق والكباري، فسترى عجبا، وهو -أي الجنرال- صاحب
المقولة الشهيرة التي قالها على مرأى ومسمع من الجميع: "
ينفع في إيه التعليم في وطن ضايع". وفي ذاك المؤتمر الذي تحدث فيه السيسي قدم مقاربة
عجيبة، إذ قارن بين تحسن وارتفاع مستوى التعليم ومستوى الخراب في بعض البلدان قائلا:
"في ناس ماكنش عندهم أمية خالص وكان عندهم تعليم جيد، لكن يا ترى صاغوا الشخصية
اللي تحمي بلادهم من الخراب والدمار، لأ مقدروش (لم يستطيعوا)، صاغوا الشخصية اللي
تحمي بلادهم من إن يبقى فيها قتل وتدمير وتخريب بالحجم اللي احنا بنشوفه ده، لأ مقدروش..
يبقى فشل التعليم"
أولويات الجنرال تختلف عن أولويات أي رئيس مدني منتخب يرى التعليم أحد أهم مقومات
الشخصية الوطنية التي يقوم عليها بناء المجتمع وتحضره وتمدنه، الجنرال يرى المواطن
المتعلم خصما من رصيد الوطن، ويرى المواطن المتعلم إضافة إلى رصيد الهدم والدمار والقتل
والتخريب لأنه متعلم، وبالتالي فخطة الجنرال هي تعميم الأمية أو على الأقل الحفاظ
على مستوياتها الحالية رغم أنه يتلقى دعما كبيرا من البنك الدولي لمشروع دعم اصلاح التعليم في مصر، وهو دعم يقدر
بملياري دولار حسب البنك الدولي ويغطي الفترة 2018-2025.
إذا انطلقنا من نظرة الجنرال وتخوفه المستمر من المتعلمين
في مصر فيمكننا فهم لماذا خالف الدستور الذي كتبه من عاونوه على الانقلاب فيما يخص
ميزانية التعليم والصحة في مصر، فحسب المادة 19 من دستور 2014 فإن الدولة ملزمة
بتخصيص نسبة 4 في المئة من الناتج القومي للبلاد للإنفاق على التعليم (وتلتزم الدولة
بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم لا تقل عن 4 في المئة من الناتج القومي الإجمالي،
تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتشرف الدولة عليه لضمان التزام جميع المدارس والمعاهد العامة
والخاصة بالسياسات التعليمية لها).
في العشرية السوداء يتم صرف أقل من نصف النسبة المقررة للصحة والتعليم والبحث
العلمي في الدستور وهي 10 في المئة، فأين ذهبت بقية المخصصات؟ ربما ذهبت لشراء
طائرة الجنرال الجديدة أو لدعم بناء
قصره المشيد في العاصمة العسكرية
الجديدة.
لا يحبذ الجنرال الإنفاق على التعليم أو الصحة بينما
مصر تحتل المرتبة الثالثة عربيا والسادسة عالميا في
قائمة أكثر الدول
استيرادا وليس تصديرا للسلاح، وكأننا دولة لديها فائض دولاري ضخم أو تعوم على بحار
من النفط والغاز، أو وكأن مصر تخوض حربا عالمية أو نستعد لخوضها منذ الانقلاب وحتى
اليوم.
وجهة نظر الجنرال لا تقتصر على فكرة محاربة التعليم
والمتعلمين، بل إنه يقدم مبررات غاية في السخف والتفاهة حين يقرر أنه لن ينفق على التعليم
وسيواصل إنفاقه على مشروعات الكباري والطرق التي يراها لا تقل أهمية عن الإنفاق على
التعليم. ففي أثناء افتتاح مشروع للإنتاج الزراعي عُقد مؤخرا أمسك الجنرال بالحديدة
ليقدم درسا بليغا للحضور في فن الدفاع عن منطقه المعوج ومقارنته السخيفة بين التعليم
وبناء الكباري قائلا: "كل فترة اسمع مطالبات بشأن التركيز على التعليم، وأقول
إن التعليم هو أمر مهم، ولكن لا يمكن تأجيل الإنفاق على مشروعات الطرق والجسور، ومنحه
الأولوية. الناس لن تتحمل عدم وجود طرق أو كهرباء أو إنتاج غذائي جيد، من أجل أن تحصل
على تعليم جيد، ولا يمكن أن نضع موارد الدولة -المحدودة في الأساس- في عملية تطوير
التعليم فقط". إذن لا يرى الجنرال وبنص كلماته؛
أهمية ولا أولوية للتعليم في مصر، كما أنه لا يرى في مخالفته لمواد الدستور أي مشكلة،
وكيف تكون مشكلة وليس هناك نظام أو طريقة في الدولة المصرية حاليا يمكّن الشعب من محاسبة
الرئيس على خرق الدستور.
يكره الجنرال الحديث عن الصحة والتعليم والتنمية الإنسانية
لكنه يحبذ الحديث عن حلمه في تطوير الإنتاج الحيواني ويعتبره مشروعا ذا أهمية (لديه
حلم حيال تطوير حياة المزارعين، يتمثل في الحصول على رؤوس الماشية غير المطورة لديهم،
واستبدالها بأخرى مطورة لتحقيق إنتاجية أفضل وفائدة للفلاح).
أحلام السيسي ليست في التعليم ولا في الصحة ولا في الجامعات
ولا في الإنسان المصري، بل في الأسفلت والكباري والطرق وتربية الماشية والمزارع السمكية
التي يقوم عليها أبناؤنا المجندون في القوات المسلحة، وهم يد عاملة رخيصة وللأسف مهانة
وتعامل معاملة العبيد في مزارع الأمراء والنبلاء في العصور الوسطى، وهذا ما يفضله الجنرال
في التعامل عوضا عن التعامل مع أناس لديهم حظ من التعليم الحقيقي والفهم والوعي.
يرى الجنرال أن التعليم الحقيقي خطر،
ففي المؤتمر الأول للشباب عن التعليم صرح
الجنرال قائلا: "التعليم الحقيقي هيطلع شخصية صعب السيطرة عليها بالوسائل الحديثة،
وإحنا محتاجين ده (أي السيطرة على الشخصية) إذا كنتم خايفين على بلدكم وعلى مستقبل
مصر لازم المتعلم الجديد يبقى قادر على أنه هو عنده عقل ناقد يناقش الموضوعات بشكل
منطقي والتعليم الجيد هيحقق ده".
رغم أن مصر من أوائل الدول التي عرفت الكتابة عبر التاريخ وهناك دراسات تقول بأن الحضارة المصرية القديمة عرفت الكتابة قبل السومريين
بمائتي عام، إلا أن ترتيبها في التصنيف العالمي لجودة التعليم لعام 2023 ما زال
مترديا، فتقبع مصر في المركز 139 وعربيا في المركز 13، كما تقبع في المركز الخامس والتسعين
(95) من بين 132 دولة في مؤشر المعرفة العالمي (Global knowledge Index)، في الوقت الذي
تأتي قطر والسعودية والكويت في المراكز 37 و43 و47، وهي دول عرفت أول وزارة للتعليم
في نهاية الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، بينما يرجع تاريخ أول وزارة
مصرية للمعارف إلى زمن مصر الخديوية في عام 1978، وكان أول وزير للمعارف وقتها هو علي
مبارك باشا ثم توالت الوزارات التي ترأسها نخبة من الأسماء الكبيرة في عالم الأدب والثقافة
والتربية والسياسة الوطنية والإبداع؛ كان من بينهم محمود سامي البارودي ومحمد حسين
هيكل وأحمد نجيب الهلالي ومحمد حلمي مراد وطه حسين وسعد زغلول وعبد الرزاق السنهوري
وعلي ماهر ومصطفي كمال حلمي، ثم تدهور الحال بمصر ليدير الوزارة ضابط من ضباط صورة
يوليو 1952 هو كمال الدين حسين الذي ظل وزيرا للتعليم منذ 1952 حتى 1962، على فترتين،
كان في الأولى منفردا وفي الثانية ساعده أحمد نجيب هاشم كرئيس للمجلس التنفيذي للوزارة.
وفي عصر الانقلاب تولى الوزارة ثلاثة وزراء، فمكث طارق شوقي المقرب من الجنرال
في الوزارة أكثر من خمس سنوات ونصف (2017-2022) بحجة تطوير التعليم، وانتهى به الأمر
خارج الوزارة بعد أن تراجعت مرتبة مصر في المؤشرات الدولية للتعليم وحافظت الأمية على
مستوياتها المرتفعة في البلاد.
حسب
موقع يو اس نيوز الأمريكي، تحتل جامعة القاهرة
أعلى تصنيف بين الجامعات المصرية (المرتبة 363 عالميا)، ولا يختلف حال الجامعات من
حيث تراجع المستوى وجودة التعليم والفساد المستشري في أرجاء الجامعات عن الفساد في
منظومة التعليم والمدارس، على الرغم من أن فكرة مجانية التعليم أصبحت جزءا من الماضي
مع تراجع الدولة عن الإنفاق على العملية التعليمية برمتها وخصوصا المعلمين، حيث تعاني
وزارة التربية والتعليم من نقص يصل إلى 323 ألف مدرّس. وترفض السلطة بقيادة الجنرال
تعيين مدرسين بحجج مختلفة؛ ليس أولها أن معظم المعلمين ينتمون للتيار الإسلامي ولن
يكون آخرها هو عدم وجود ميزانية للتعليم، وبالتالي فإن نسبة المعلمين إلى التلاميذ
في المرحلة ما قبل الثانوي تصل إلى 1/32 تلميذ وفي الثانوي 1/17 طالب. ورغم وجود حوالي
مليون معلم ومدرس إلا أن هناك عجزا كبيرا لا يريد النظام تغطيته؛ لأن الجنرال وكما
سبق وأن شرحنا في بداية هذا المقال لا يؤمن بالتعليم وجدواه ويراه خطرا على استقرار
البلاد وعلى تثبيت أركان حكمه.
طرح
البنك الدولي حلولا من أجل تطوير التعليم في مصر وكما جاء في تقرير على موقع البنك الدولي: "يسعى
المشروع الجديد إلى تحقيق أهدافه عن طريق: (1) التوسع في إتاحة التعليم في مرحلة الطفولة
المبكرة وتحسين جودته؛ (2) وضْع نظام موثوق به لتقييم أداء الطلاب والامتحانات؛ (3)
تنمية قدرات المعلمين والمديرين التربويين والموجهين؛ (4) استخدام التقنيات الحديثة
في التدريس والتعلُّم، وتقييم الطلاب، وجمع البيانات، وكذلك التوسع في استخدام موارد
التعلُّم الرقمية).
يعاني التعليم في مصر من التكدس وقلة المدرسين وتراجع الميزانية وعدم كفاية
الفصول، إذ أن هناك حاجة إلى بناء 50 ألف فصل جديد حتى عام 2024، ولو لم يتم بناؤها
-وفي الغالب لن يتم حسب رؤية الجنرال الذي يفضل بناء الكباري على الفصول- فإن التكدس
قد يصل إلى 65 تلميذا في الفصل الواحد.
ورغم حصول النظام على دعم متمثل في قروض ومساعدات إلا أن النظام على الأرجح
لا ينفق هذا الدعم في بناء ولا تطوير المنظومة، وعلى رأسها المعلم الذي يصل متوسط راتبه
الشهري أقل من 200 دولار بينما زميله المصري الذي يعمل في دولة خليجية مثل الكويت يصل
متوسط راتبه الشهري إلى 650 دينارا كويتيا، أي 2210 دولارات، أو قرابة تسعين ألف جنيه
مصري.
في بلد لديه أكثر من 20 كلية حكومية للتربية يمكن الاستعانة بخريجيها لسد العجر،
يفضل الجنرال ألا يتم تعيين أيا من هؤلاء الخريجين مباشرة في الوزارة وأن يكون التعيين
مؤقتا وبراتب ضعيف و
عن طريق المسابقة، بل وصل الأمر إلى الإعلان عن
فتح باب التطوع للعمل بالتدريس لمن
أراد أن يخدم مصر.
في مصر يتم الاستعانة بالخبرات القضائية كمستشارين في الدولة والوزارات المختلفة،
وكذلك الحال بالنسبة لكبار ضباط الجيش والشرطة وبرواتب وأجور ومكافآت خيالية، أما المعلمون
والمدرسون فإنهم وبمجرد وصولهم سن المعاش يتم التخلص منهم وتركهم في عالم النسيان،
رغم حاجة البلاد إليهم كونهم يمثلون خبرة عظيمة في مجال بناء الإنسان منذ صغر سنه،
لكن في بلد يرى القائمون عليه وعبر عقد كامل يُنظر للمدرس على أنه سقط متاع لا حاجة
للنظام به ولا إليه، فنسمع عن أخبار تُبكي وتُحزن القلب، مثل خبر مدير المدرسة الذي
مات كمدا وهو يعمل كعامل بناء
ليحصل على ما يعينه على أعباء الحياة بسبب النقص الكبير في دخله من التدريس الذي وهب
نفسه له.
وفي مصر أنشئت القوات المسلحة عقب انقلاب 3 يوليو 2013 مجموعة مدارس تخضع بالكامل
لسيطرة الجيش رغم أن تعليمها مدني، مثل مدارس بدر الدولية للغات بكلفة 90 مليون جنيه
على 30 فدان من أراضي مصر التي يقوم الجيش بالاستيلاء عليها دون رقيب أو حسيب، ورغم ذلك وصل مصروفات العام الواحد للصف الإعدادي (عام 2017) إلى ما يزيد عن 30 ألف جنيه.
كما يقوم قادة الجيش بزيارة المدارس وإعطاء التعليمات
والتوجيهات للمدرسين والتلاميذ والطلاب على حد سواء، وهناك مشروع يعرف بالتأسيس العسكري
للمدارس وهو يعني حسب
بروتوكول التعاون بين وزارة التربية والتعليم وإدارة
الدفاع الشعبي أن يتم استغلال السنة
الأولى من التعليم الفني للتأسيس العسكري للطلبة، أي تحويل المدارس إلى منشآت عسكرية
أو شبه عسكرية استعدادا لما هو قادم، وما هو قادم أسوأ بكثير مما نراه في العشرية الحالية
حسل توقعات الجنرالات.
ثمة نقطة مهمة في سجل التعليم في العشرية السوداء وهي الحملة الضارية
التي قام بها النظام وإعلامه ضد المعلمين والمدرسين من أبناء التيار الإسلامي، وانتهي
الأمر ورغم العجز في المدرسين إلى
طرد أكثر من ألف مدرس من وزارة التربية
والتعليم، وامتدت المطاردة إلى المدارس الخاصة التي قام ببنائها وتشغيلها والاستثمار
فيها رجال أعمال من الإخوان المسلمين رغم جودة المنتج التعليمي باعتراف النظام نفسه،
ولكن النظام يرى في وجود الاخوان في المؤسسات التعليمية خطرا يجب التعامل معه بالمصادرة
والحبس والاعتقال كما جرى مع
عشرات المدارس المملوكة للإخوان
أو حوارييهم.
ورغم إعجاب الجنرال بتجربة سنغافورة في بداية حكم "لي كيوان يو" والمتمثلة
في الاستبداد السياسي ومطاردة الناشطين وغلق المجال السياسي، إلا أن تجربة سنغافورة
في التعليم لم تكن ملهمة لجنرال مصر أبدا للسبب الذي ذكرناه، وهو الخشية من وجود جيل
من المتعلمين أصحاب الرأي والقرار، وهو أمر لا يريده الجنرال ولا يقبل النقاش حوله
على النحو الذي ذكرناه، وبالتالي فلا فرصة للتقدم في مجال التعليم في مصر طالما بقي
الجنرال والنظام في السلطة وبنفس العقلية التي تطارد كل ذي عقل وكل ذي رأي، وترى فيهم
خطرا ماحقا على استقرار الدولة وتثبيت أركان حكم الجنرالات.