في معرض التفاعل الإيجابي مع ما جاء في مقاليّ السابقين، وكان أولهما قد تحدث عن «هل تنجح الجبهة المدنية في إيقاف
الحرب»، بينما تناول المقال الثاني موضوع «الحرب والعملية السياسية في
السودان»، وصلت إليّ مجموعة من التعليقات والملاحظات، بعضها تطرق لذات الموضوع، لكن من عدة زوايا مختلفة.
ولعل القاسم المشترك بين هذه التعليقات، هو تماهيها التام مع قولنا بأنه لا يمكن حل قضية شعب السودان من خارجه أو بالإنابة عنه، ومع دعوتنا لأن تنتظم كل الكتل والتنظيمات والمجموعات والأفراد السودانية الرافضة للحرب والتدمير الممنهج للبلد، في نشاط ملموس على مستوى القواعد الشعبية، يبذل أقصى ما يمكن من جهد حتى تنطلق القوى المدنية السودانية من منصة واحدة، وتتحدث بصوت واحد يعبر عن موقف موحد، وأن يأتي محتوى هذا الموقف والصوت الواحد لعزل العناصر الداعمة للحرب، مؤكدا أن إسكات البنادق هو الوطنية الحقيقية، ورافضا أن يكون القتال بديلا عن الحوار والتفاوض لحل الخلافات والأزمات السياسية والاجتماعية مهما بلغت من شدة التعقيد، وأن يتصدى ويرفض بشدة ويفند الخطاب الشعبوي الذي يقول؛ إن هذه الحرب وطنية، وأن الدعوة لوقفها تعني طعن الجيش السوداني في الظهر والسماح لهزيمته وتدميره، مقابل السماح لانتصار قوات الدعم السريع.
الجماهير فاعل أساسي تجاه حل أزمة الحرب في السودان، عبر بناء أسس ومبادئ هذا الحل، وسط ومن خلال القواعد الشعبية.
ومنذ اشتعال الحرب الكارثية في الخرطوم في 15 نيسان/ أبريل الماضي، وتفاقمها في دارفور، خاصة في مدينة الجنينة، وقطاعات واسعة من الشباب السوداني تدور بينها نقاشات جادة وعميقة في عدد من المنابر الإسفيرية؛ كالكلوب هاوس أو التويتر أو الزووم وغيرها من الوسائط، وتتسم هذه المناقشات بقدر واسع من الموضوعية والمثابرة الملحاحة؛ بحثا عن الإجابة عن أسئلة: كيف يمكن عمليا إيقاف هذه الحرب الكارثة، وماذا نحن فاعلون بعد توقفها؟ وفي هذا السياق، وصل إلي مكتوب من الدكتور عزام عبدالله إبراهيم، المقيم ببلجيكا، يحوي ملخصا مختصرا لما تناولته أحد هذه المنابر التي شارك فيها هو شخصيا، وجاء الملخص بعنوان «رؤية لإدارة الحرب وتداعياتها وأدوات إيقافها، وتأسيس دولة المواطنة بسلطاتها المدنية الديمقراطية اللامركزية».
وتعميما للفائدة، وتغذية للنقاش حول هذا الموضوع المصيري، رأيت أن أفسح المجال وأستضيف الدكتور عزام في المساحة المخصصة اليوم لمقالي الأسبوعي. يتحدث مكتوب الدكتور عزام عن الرؤية الواجب تبنيها لإدارة الحرب، وعن الأدوات الملائمة والضرورية لإيقافها، فيقول؛ إن هذه الرؤية تعتمد على الجماهير كفاعل أساسي تجاه حل أزمة الحرب في السودان، عبر بناء أسس ومبادئ هذا الحل، وسط ومن خلال القواعد الشعبية، وأن يخدم هذا الحل المطالب اليومية للشعب ويقود لتأسيس الدولة والسلطة المدنية كهدف رئيسي لثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة، امتدادا لتراكم الفعل الثوري لقوى الثورة الحية.
وعلى هذا الأساس، تصدح الرؤية، كما وردت في رسالة الدكتور عزام، بثلاث مراحل يتحقق من خلالها الحل المطلوب، وهي مرحلة إدارة تداعيات الحرب، ومرحلة توفير أدوات إيقافها، ومرحلة تأسيس الدولة المدنية. بالنسبة لمرحلة إدارة تداعيات الحرب، فإن الرصاصة الأولى التي أطلقت في الحرب، كانت بمنزلة إعلان لموت الدولة، ومن ثم سقوط سلطتها. وفي الأصل، تخلت الدولة وسلطتها عن الشعب منذ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، لكن الحرب التي اندلعت في 15 نيسان/أبريل الماضي، جعلت موت الدولة أكثر وضوحا.
وهذا الواقع، يستوجب ابتدار نظام عملي جديد يدير حياة الناس في ظل حرب دمرت مؤسسات الدولة الخدمية والأمنية والاقتصادية والسيادية. وضربة البداية في هذا الحل العملي، هي أن تنظم قوى الثورة سلطات إسعافية فعالة، على مستوى المدن والمحليات، تتولى إدارة تداعيات الحرب على مستويين؛ المستوى المحلي بإدارة الواقع وفق إمكانياته وعلى ضوء بيانات حقيقية، وتنظيم الخدمات عموما والعمل على استقرار الأمن والنشاط الاقتصادي. والمستوى القومي وفق آليات تقوم بدور المنفذ والمراقب للعون الإنساني في ظل انهيار الدولة، وما صاحب ذلك من إعاقة لسريان العون الإنساني من منظمات المجتمع الدولي.
وجود هذه الآليات، يعني وجود سلطة تضمن حيادية وانسيابية العون الإنساني ونزاهة وصوله للمستحقين، وفق بيانات حقيقية من أرض الواقع.
بالنسبة لمرحلة توفير أدوات إيقاف الحرب، فإن كل الجهود الدولية والإقليمية قد يكون لها أثر كبير في إيقاف الحرب، لكن انتظام الشعب في سلطات قاعدية هو العامل الرئيسي القادر على إيقاف الحرب لصالح دولة المواطنة وسلطتها المدنية. ونجاح مرحلة إدارة تداعيات الحرب، تجعل السلطات الإسعافية مؤهلة بثقة الشعب، لتكون هي السلطة التي تعزل أطراف الحرب من أي حاضنة اجتماعية أو سياسية، وتفقدهم المبررات الأخلاقية وتوصل صوت الشعب للمجتمع الدولي.
وعزل أطراف الحرب يعني أيضا دفع ضباط وجنود طرفي الحرب لوقف الاقتتال بالطرق على إفقادها، وتجريدها من كل دوافعها ومبرراتها الأخلاقية والسياسية. بهذا الوضع وبواقع سلطات تمثل الشعب، يكون المكون المدني هو القوة الرئيسية في أي معادلة تفاوض دولي أو محلي، مما يمكن قوى الثورة من فرض تأسيس الدولة والسلطة المدنية.
بالنسبة لمرحلة تأسيس الدولة، فإن تلك السلطات الإسعافية القاعدية، بمعنى بروزها من بين الجماهير الشعبية وبواسطتها، وتكوين جبهة مدنية شعبية وما ستقوم به من عمل جدي في إدارة تداعيات الحرب وعزل أطرافها ثم إيقافها، هي القادرة والمستعدة لمرحلة ما بعد الحرب بتكوين حكومة تأسيس انتقالي، عبر تمثيل كل السلطات القاعدية التي أدارت تداعيات الحرب وعملت على إيقافها.
وتقوم سلطة التأسيس الانتقالية بتنفيذ رؤية الجماهير في إعادة تأسيس الدولة السودانية وفق مبادئ:
المواطنة المتساوية والحرية ووحدة الأرض السودانية.
الجيش المهني الواحد وحل كل الأجسام والمليشيات المسلحة.
اللامركزية والقسمة العادلة للسلطة والثروة.
العدالة الشاملة المستقلة وسيادة حكم القانون وعدم الإفلات من العقاب.
بناء السلام الأفضل بمشاركة كل المتضررين من الحروب والفساد والاستبداد، بمعالجة مسبباتها ودرء آثارها.