لا أنام، عنوان رواية لإحسان عبد
القدوس، وقصتي تشبهها من وجهين؛ وجه الحرمان من النوم ووجه الحب.
لم أعد أباً، فقدتُ أبوّتي منذ أن
وطئت قدمي بلاد الفرنجة، وأمسيت طفلاً، وصار أولادي آبائي، فقد تعملوا لغة الأعاجم
وأتقنوها، يعملون وهم طلاب في الجامعات، في أعمال لها أسماء طريفة مثل
"الميني جوب"، "والهاف تايم"، وهي التي تبيحها الدولة للطلاب،
وأجورهم كريمة، ولديهم سيارات. والآباء بالفطرة يعطفون على أولادهم، ألم يقل
الشاعر صاحب قصيدة "لا أنام": لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من
الغمض، لكن آبائي ينامون وهم أيقاظ، ويضيقون بي، ولا يسمعونني، أما الطاعة، فهي
ناقوس يدق في عالم النسيان.
ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً
منسيا.
قلت كثيراً لأصدقائي، وليس لي هنا
أصدقاء، فأصحابي جميعاً وراء أعالي البحار وأداني الجبال، وقد أنشأنا نادياً في
ربوع "الواتساب"، أطلق عليه المؤسس اسم "الغروب"، وأصله هو
الكروب، والكروب لفظ أعجمي، ويعني الرهط والمجموعة والثلة والشلة، وقد يكون أصله
عربياً، يقول ابن منظور: الكَرْبُ، على وَزْن الضَّرْبِ مَجْزُومٌ: الـحُزْنُ
والغَمُّ الذي يأْخذُ بالنَّفْس، وجمعه كُرُوبٌ. وكَرَبه الأَمْرُ والغَمُّ
يَكْرُبهُ، كَرْباً: اشْتَدَّ عليه، فهو مَكْرُوبٌ وكَرِيبٌ، والكَرْبُ: القُرْبُ.
والكَرْبُ: الفَتْلُ؛ يقال: كَرَبْتُه كَرْباً أَي فَتَلْتُه.
لكني ألفظها الغروب، فقط طاب لي هذا
اللفظ، وغربت شمسي، بعد أن وجهت إلى بلاد بني الأصفر عنسي.
"الغروب" يروّح عن النفس
حيناً، لكنه يزيد الكرب أحياناً أخرى. نجتمع ونتبادل الشكوى مثل الأرامل والثكالى،
والوقوف على الأطلال. قلت لهم إن أسعد لحظات حياتي "الغاربة"، كانت
لحظات لعبي مع أولادي، لم أجد سعادة في طعام أو وصال، فهي لذات من الدرجة الثالثة،
اللذة الكبرى هي في لهوي مع الأولاد وعناقهم.
أمس قرأت منشوراً لصديق روى فيه
مطاردة وقعت له، حوصر في ركن وبدأ المحاصرون في لكمه، فاستيقظ على ابنيه، وهما
يترافسان، فيصيبان وجهه، وقد تورمت شفتاه، ولا يعرف أمن لكمات المحاصرين في
الحلم، أم من رفس ولديه؟ ثم إنه قبّل قدميهما ونام.
لكني لا أنام مثل حطان بن المعلى وإحسان
عبد القدوس.
لم أكن أبخل عليهم بشيء أقدر عليه،
ثياب جديدة وألعاب، وسياحة بالقدر المستطاع، ومجلات مصورة، ثم مع ظهور الفيديو
و"السيدي"، رأينا كل أفلام ديزني لاند، وهي أفلام ممتعة، لكنها لا تعلم
أدباً ولا خلقاً، بل تفسدها. وقلت للغروب: إنّ عهدي انقضى، وإن كان ابني يعطف
عليَّ أحياناً، فيتصدق علي بثيابه التي ضاقت عليه، أو زهد في طرازها، فالثياب تبلى
في هذه البلاد بالموضة لا بالاهتراء. وكنا نلبس أكسية آبائنا، تضيّقها أمي لنا،
حتى تناسب أعمارنا. وقد تهبني ابنتي هاتفاً جوالاً قدم، وضاقت عليه الموضة، واشترت
جديداً، والحمد لله أنها لا تطلب له أجراً، فكل شيء في بلاد العلوج له ثمن. ليس كل
البنات كريمات، فبعضهن يحتفظن بالقديم ضّناً بذكرياتهن، أو للحاجة إلى جهازين؛
ابنتي الصغرى لديها ثلاثة أجهزة من هواتف الجيب!
أولادي لا يأكلون ما أعدُّ لهم من
أطباق في أوقات فراغي، ووقتي كله فراغ وسديم، وينفرون من لحم الخروف، بل ويغلقون
أنوفهم من ريح لحمه، ويقبلون على طعامين؛ وهما من أشهر الأطعمة في بلاد العلوج:
البيتزا والشيبس، أما الشراب الأثير، الخبيث، فهو الكولا، وهو شراب لا أطيقه
وأتجنبه، بل إني لا أستطيع استراطه. قالت لي زوجتي
مرة: ارفق بأولادك وتلطف بهم، وأرتني فيديو لشيخ حمصي يستقبل أولاده بالعناق،
فبينتُ لها أني أشدُّ حباً لأولادي من الشيخ المذكور، وبرهنت لها على ذلك، ووقفت
على الباب عند عودة أولادي واحداً واحداً من الجامعة أو من العمل، فاتحاً ذراعي
لهم مثل فزاعة عصافير، فوجدت أنهم عمي، لا يرفعون عيونهم عن أجهزة الهاتف، وآذانهم
مسدودة بالسماعات، كأن في آذانهم وقرا، أو إنّ العصافير فزعت من فزاعة العصافير
فطارت.
ذكرت لكم أني غدوت طفلاً في هذه
البلاد، وأذكر أني عندما كنت تلميذاً، طلبت مني المدرسة إحضار ولي أمري، من أجل
التوقيع على وثيقة. يزعمون أنَّ التاريخ يتكرر، ولا أحبُّ تعبير "يكرر نفسه"
فالتاريخ ليس عاقلاً، ولو كان عاقلاً ما كرر نفسه، وأنَّ المؤسسات الحكومية
الأعجمية تطلبني بين الحين والآخر من أجل إجراءات وثائقية، وهي معقدة، ولا أحسن
قراءة كتبهم وفهم حديثهم، فأستعطف أولادي وأتوسل إليهم كي يصحبوني ويترجموا لي،
فيماطل أولياء أمري طويلاً. وكان أبي يماطل قليلاً لانشغاله بأعماله، أما آبائي
الجدد فيشترطون علي أن أخرس وأتجنب الكلام بلغة الفرنجة لأن لغتي مضحكة، لكن
الموظف الحكومي يسألني فأجيب بهزة الرأس، وقد أضطر إلى جواب قصير، فيضحك من عجمتي،
وتنظر لي ابنتي شزراً، مغتاظة من خيانتي العهد المقطوع.
عملت في كثير من الأعمال، وقد بلغت
الستين، وهو عمر لا يغري الشركات بي، وكل الأعمال التي عملت فيها من الدرجة
الأخيرة، عضلية، مثل العتالة، والبستنة، وهي لا تحتاج إلى تدريب كبير، وكنت مكرماً
في الديار، ديار ليلى، وديار مية، وديار عبلة، أميراً على رهط من الموظفين،
يخاطبونني بلقب الأستاذ، فدارت بي الدنيا، وقذفتني من منزل عالٍ إلى خفض. ثم ما
تلبث الشركات أن تطردني طرداً مؤدباً، فأعود إلى البيت منتظراً صدقات أولادي،
وكثيراً ما آكل ما يفضل منهم، فهم لا يقدرون النعمة، يأكل واحدهم نصف البيتزا
ويرمي بنصفها. والبيتزا طيبة، لكنها مضرة بصحة أمثالي، البيتزا تسبب السمنة
لفزاعات العصافير، وقد سمنت كثيراً، وتورم بطني من الحزن. قرأت مرة أن الحزن من
أسباب السمنة.
كان لوالدي رحمه الله غرفة، يعود إلى
البيت، فنستقبله طامعين في لمسة، فيمسح رؤوسنا، أو يسهو بسبب كروبه وهمومه أو
ديونه، أو مشاحناته في السوق، فالسوق أصل الشر، وقد يأكل طعامه على عجل، وينصرف
إلى غرفته للراحة. ليس لي غرفة كما لآبائي في بلاد العلوج، فهم ينصرفون إلى غرفهم
من غير طعام، أو لمسة يد كأنها ضربة جزاء في مباراة، فأبقى وحيداً، منبوذا مثل
البعير الأجرب.
أخشى أن أموت فيحرقوا جثتي، يقشعر
بدني خوفاً من الحرق، الذي أمسى وصية أثيرة للمحتضرين العلوج، وموضة شائعة، فهم
يوصون بحرق جثثهم وذرّها في البحر!
وجدت أنّ آبائي لا يخاطبونني بنداء
الأبوة: أبي أو بابا أو يابو، وإذا اضطروا للكلام، كلموني من غير خفض لجناح الذل
من الرحمة.
لا تزال لي فائدة واحدة، فهم
يستغيثون بي لقتل فراشة تسللت إلى غرفهم سعياً وراء الضوء، فأكرّ على الفراشة في
عرينها، مغيثاً، منجداً، سعيداً بأني لا أزال مفيداً، نافعاً. مع أنّ الفراشات رسل
خير وبشائر نعمة، أصيدها، فتذوب بين أصابعي، وتتحول إلى دقيق ناعم، إمّا لهشاشتها،
وقد ضرب العرب المثل بخفتها، وإمّا لأني أريد أن أظهر لهم أني بطل مقدام من عصر
المعجزات الغارب، ليس أقل بطولة من الزير سالم الذي كان يصيد الأسود ويحمل على
متونها القرب، أو ربيعة بن مكدم "حامي الظعائن".
twitter.com/OmarImaromar