عندما نتأمل في
كتاب الله نجد أن هنالك دعوة للتفكّر وعقل ما يقال حتى في آيات الله وكتابه، وعندما
نتدبر نجد أن عاملا مهما يبرز بذاته وهو المنظومة العقلية ذات الأهلية. فلم ينزل
القرآن بافعل ولا تفعل، أو قل ولا تقل أو هذا حسن وذاك قبيح، وإنما وضعت تعاليمه قيما،
ولا بد من يقرأ القرآن على مكث أن يتفاعل معه بالتفكير فأسلوبه ليس إملائيا بل
مثيرا للتساؤل ومتفاعلا مع السؤال، ويبين أن الإنسان حر وكامل الأهلية في خياراته.
يقول الله تعالى إن الله يكره كذا وكذا، ذلك ما يعظكم به، فهو وعظ وليس إجبار
لاختيار لأنك أصلا في تصميم الخليقة كامل الأهلية وليس هنالك من يحاسبك في الدنيا والآخرة
إلا الله على خياراتك، ما لم
تضر القوانين والمجتمع أو تقلق استقراره وتخترق قوانينه عندها يحاسبك القانون
والسلطة.
السلالة التي
أراد الله جل وعلا أن تكون في الأرض هي سلالة آدمية، ويبدو من التأمل في الآيات أن
هنالك نسخا سابقة وسلالات سابقة في الأرض كانت تفسد فيها، لكن علم الله أوسع من
المشاهدة، ففي هذا المخلوق البشري ميزة مختلفة من التصوير الحسن إلى ميزة التفكير
والحفظ والتذكر وفيه مع الغرائز منظومة العقل هذه التي تدير المعلومة. هل أدار آدم
المعلومة؟ وهنا الدرس الأول للآدمية بآدم نفسه، فقد أعطاه الله
المعرفة وعلمه كل
شيء، لكنه لم يتفكّر بالمعلومة وهذا درس للبشرية بأبيهم أن المعرفة وحدها ليست
نافعة بلا تدويرها في الذهن والتدبر والاستفادة منها في الأحداث، فنسي التحذير من
مخلوق اتضحت كراهيته له كمخلوق وليس كراهية
السلوك وهنا نقف وقفة قصيرة.
منطق الكراهية يجعلك مؤمنا أو شيطانا
عندما نظر إبليس إلى
آدم نظر إلى مخلوق مكرم، لم يفعل آدم شيئا ولم يرتكب هفوة، ولم يبدُ على ملامحه
السوء، ارتفعت الأنا عند إبليس وأثارت الحسد فالحقد لأن هذا المخلوق آدم نال تكريم
خالقه. إذن الكراهية الإبليسية هي كراهية الذات للذات وكراهية الإنسان للإنسان
والتي تأتي من حسد وحقد، كذلك كان قابيل عندما قتل هابيل. وأما كراهية المؤمن فهي
كراهية الفعل من الإنسان وليس كراهية الإنسان، كذلك كانت كراهية هابيل لفعل قابيل،
كراهية أي إنسان سوي لفعل في إنسان آخر فان أصلح أفعاله فلا كراهية ولا سوء. قال ﷺ:
"الإسلام يجبّ ما قبله"، أي إن اعتدال الأفكار يجعل الإنسان نقيا تخلى
عن ماضيه بما فيها ذنوبه وهو أمام منهج جديد، فالكراهية لفعل الإنسان هي رغبة
بالخير له بصلاح فعله وإيجابية تعامله ونقاء فكره ورقي إنسانيته.
عندما يندمج الإنسان
بفعله، ويصبح بالأنا الإبليسية متوحدا مع أفعاله فهو يخرج عن منهج الآدمية وسجيتها.
عندما أخطأ آدم كان فعلا تبرأ منه بالتوبة والاستغفار الذي احتاج كلماته ليعلمه
خالقه الأمر الذي يظهر مدى تكريم الله لهذا المخلوق وهو الأعلم بخفايا نفسه. لكن
الأنا الإبليسية أصرت على التكبر والعصيان، كذلك يكون الإنسان المصر على العصيان
فيكون "إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ"،
ومع هذا رأف الله بنوح فلم يجعله يرى غرق ابنه، لأن الإنسان له من العواطف ما
تجعله أضعف ما يكون أمامها، لكنه ينيب.
السلوك دال على
مدى فاعلية المنظومة العقلية ومدى الفهم للقيم، وليس من ملائكة على الأرض،
فالإنسان يخطئ ويصيب وإنابته باعتذاره وحسن إصلاحه للأمور، والأولى أن يفكر ولا
يصر فالإصرار هو غياب للحكمة وغياب
الحكمة هو الفشل للآدمية، والتصالح مع الذات
بتصويبها وليس بالإصرار على الخطأ، اللهم إلا من كان مريضا فذاك إنابته بعلاج ذاته
ليعود نافعا لأهله وبيئته. ومن هنا نرى الحيز الضيق لكره الإنسان لاندماجه وسلوكه
المتشبع بالشر.
الحكمة والمعرفة
لقد كان آدم
مزودا بالمعرفة، ولم يفعّلها في تفكيره فكان ما كان، فالمعرفة التي لا تستفيد منها
الأمم بخاصتها وعامتها هي كمثل بني إسرائيل عندما لم يفهموا التوراة لا تكفي
المعرفة وحدها بلا حكمة وشفافية وإخلاص، مثل الحمار يحمل أسفارا، ينقلها للاستخدام
من غيره بيد أنه لا يفيد منها وما أكثرهم بل ما أشدهم قسوة في محاسبة الناس ونسيان
أنفسهم، لذا لم يقل الله من يؤت المعرفة، بل قال ومن يؤت الحكمة فالحكمة هي التي
تجعل منك آدميا بما لديك من معرفة وليس مكتبة متنقلة بلا سلوك متفق مع القيم التي
تتحدث بها.
الحرص على عوامل
الحكمة تنعكس على السلوك، لأن من فقد حكمته شوه ما يحمل من علم بمخالفته أو بسوء
سلوكه: "يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا
تَفْعَلُونَ" (الصف: 2)، إنهم مؤمنون بما يقولون ولكن ضعفت النفسية فأمروا
الناس بالبر ولم يفعلوه وعلموا الصواب وخالفوه، فيكون بعضهم للناس أذى ومنفرا في
القول والفعل وسوء السلوك والمعاملة وقدوة سيئة.. إن مقت الله آت لفقدان التوازن
في المنظومة العقلية والسلوك.