تميزت حكومة عبد الإله
بنكيران بتشكيل تحالف ثنائي متميز بين حزب العدالة والتنمية وحزب التقدم
والاشتراكية (الحزب الشيوعي
المغربي
سابقا)، بحيث لم يكن من المتصور قبل رياح الربيع العربي أن يشارك حزب العدالة
والتنمية ذو المرجعية الإسلامية وحزب التقدم والاشتراكية ذو المرجعية الاشتراكية
في نفس الحكومة وأن يجمعهما برنامج حكومي واحد، وأن ينجح الحزبان في تجاوز
خلافاتهما التاريخية وأن يؤسسا لعلاقة تفاهم قوية تطورت داخل الحكومة إلى درجة
كبيرة.
هي تجربة تستحق الدراسة، باعتبار نجاحها واستمراريتها لمدة ولاية
كاملة، وباعتبار الدروس الممكن استفادتها عربيا من الناحية الفكرية والمنهجية.
تاريخ من الصراع السياسي والإيديولوجي بين التيار الإسلامي والتيار
اليساري..
عاش التيار الإسلامي والتيار اليساري في المغرب تاريخا من الصراع
الإيديولوجي والسياسي، بلغ أوجه مع المشروع الشهير باسم "الخطة الوطنية
لإدماج المرأة في التنمية" التي قدمها الوزير الأول آنذاك والكاتب الأول لحزب
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المرحوم عبد الرحمن اليوسفي يوم الجمعة 19 آذار/ مارس
من سنة 1999 بالرباط، بحضور الرئيس العام المساعد للبنك الدولي، ولم يكن الوزير
المشرف على تنزيل هذه الخطة سوى القيادي في حزب التقدم والاشتراكية سعيد السعدي
كاتب الدولة المكلف بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة.
تعرض مشروع الخطة لمعارضة شعبية كبيرة شارك فيها العلماء والوعاظ
والعدول بتوجيه من وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق عبد الكبير العلوي
المدغري، كما قاد حزب العدالة والتنمية إلى جانب حركة التوحيد والإصلاح حملة قوية
ضد هذا المشروع الذي تضمن بعض المقتضيات التي من شأن اعتمادها تغيير ملامح الأسرة
المغربية التي تأسست على مبادئ الشريعة الإسلامية ووفق المذهب المالكي المعتمد
رسميا في المغرب، ومن هذه المقتضيات منع تعدد الزوجات، وإلغاء الولاية في الزواج،
وجعل الطلاق بيد القاضي دون غيره...، كما سجل المناهضون لمشروع الخطة تهميشها الواضح
للمرجعية الإسلامية في منطلقاتها واعتمادها الحصري على الاتفاقيات الدولية
والتوصيات الأممية، خصوصا وأن الخطة جرى تمويلها من البنك الدولي، فضلا عن تغييب
المقاربة التشاركية مع باقي الفاعلين المعنيين وعدم استشارة الأحزاب السياسية
ومنظمات المجتمع المدني والعلماء المختصين في الشريعة الإسلامية ورجال القانون.
تميزت حكومة عبد الإله بنكيران بتشكيل تحالف ثنائي متميز بين حزب العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي المغربي سابقا)، بحيث لم يكن من المتصور قبل رياح الربيع العربي أن يشارك حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية وحزب التقدم والاشتراكية ذو المرجعية الاشتراكية في نفس الحكومة وأن يجمعهما برنامج حكومي واحد، وأن ينجح الحزبان في تجاوز خلافاتهما التاريخية وأن يؤسسا لعلاقة تفاهم قوية تطورت داخل الحكومة إلى درجة كبيرة.
وهو ما أفرز نقاشا حادا وصل
إلى درجة الانقسام المجتمعي بين التيارين الإسلامي والعلماني، مما دفع البعض
للحديث عن تشكل جبهة دينية في مقابل جبهة حداثية، وقد توج هذا التقاطب بتنظيم
مسيرتين بكل من الدار البيضاء والرباط يوم 12 مارس 2000م حيث قدر عدد المشاركين بالدار البيضاء بأزيد من
مليونين من المناهضين لتلك الخطة ، بينما تجمع المؤيدون للخطة بالرباط وقدر عددهم بحوالي عشرات الآلاف.
وقد أدى هذا التقاطب إلى تراجع الحكومة عن مشروع الخطة الوطنية
لإدماج المرأة في التنمية، وشكل الملك محمد السادس لجنة خاصة سميت ب"اللجنة
الملكية الاستشارية لتعديل مدونة الأحوال الشخصية" لينتقل المغرب بعدها من
العمل بـ"قانون الأحوال الشخصية" إلى "مدونة الأسرة" التي
حظيت بالإجماع الوطني، بعدما التزم الملك في خطاب تقديمها أمام البرلمان يوم الجمعة
10 أكتوبر 2003 بصفته أميرا للمؤمين أنه لا يمكنه أن "يحل ما حرم الله ويحرم
ما أحله"، مؤكدا أن "المقتضيات الشرعية الواردة في مدونة الأسرة هي من
اختصاص أمير المؤمنين".
بعد هذا التمرين المجتمعي الكبير، كانت هناك محطة أخرى للتوتر تمثلت
في كيفية التعاطي مع الأحداث الإرهابية التي عاشتها مدينة الدار البيضاء ليلة 16
ماي 2003، حيث جرى تحميل حزب العدالة والتنمية المسؤولية المعنوية حول هذه
الأحداث، لكن يسجل لحزب التقدم والاشتراكية أنه تجنب الدخول في المقاربة الإقصائية
اتجاه إسلاميي العدالة والتنمية، لكنه في المقابل تبنى خطابا صارما للتحذير من "ظاهرة تكاثر فتاوى غريبة عن المقاصد
النبيلة للشريعة الإسلامية، معاكسة للتطور العلمي، وخارجة عن القانون، ومنافية
للعقل السوي والمنطق السليم.
وهي ظاهرة يتعاطى لها من هم غير أهل إطلاقا لإصدار الفتاوى، ويتم
الترويج لها من قبل جهات لا تقيم بذلك وزنا للمؤسسة المخول لها أمر الإفتاء،
وتتطاول على اختصاصات علماء الدين الأجلاء"، كما اعتبر الحزب أن المعركة ضد الإرهاب هي أيضا معركة فكرية
"يجب خوضها في إطار مقاربة شمولية تدمج الأبعاد السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والتربوية،" مؤكدا "تشبثه بمؤسسة إمارة المؤمنين،
التي تمتلك وحدها الحق الدستوري لضمان وحدة الأمة وتماسكها وحماية عقيدتها".
لكن رغم التمايزات الواضحة في الخطاب السياسي وفي المسارات الفكرية
لكلا الحزبين، فقد سجلت لحظة انطلاق دينامية الاحتجاجات الثورية في العالم
العربي تطابقا في التعامل مع هذه
الاحتجاجات وهو ما يفسر جزءا من أسباب تطور العلاقة بين الحزبين بعد احتجاجات 20
فبراير وما أعقبها من أحداث سياسية تمثلت أساسا في المصادقة على دستور جديد وتنظيم
انتخابات تشريعية سابقة لأوانها تصدرها حزب العدالة والتنمية بحصوله على 107 مقعد
داخل مجلس النواب وتعيين الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران
رئيسا للحكومة.
محاولة لفهم أسباب نجاح العلاقة بين الحزبين في لحظة سياسية مفصلية
في تاريخ المغرب
بين حزب التقدم والاشتراكية وحزب العدالة والتنمية، قصة التقاء بين
مدرستين سياسيتين مختلفتين بينهما تاريخ من الصراع والتوتر السياسيين، وهو ما
يستحق الوقوف عند العوامل التي ساهمت في هذا التقارب الذي تم على إيقاع الرجة السياسية التي أحدثتها احتجاجات
20 فبراير:
العامل الأول ـ موقفهما الرسمي المتقارب من دينامية 20 فبراير، فكلا
الحزبين اختارا رسميا دعم مطالب الإصلاح مع الامتناع عن المشاركة في احتجاجات 20
فبراير، رغم أن كلا الحزبين سجلا مشاركة عددا من مناضليهما في احتجاجات الشارع
ومساندة مطالب المحتجين، مع تسجيل نوع من الاختلاف في تعاطي قيادة الحزبين مع
مشاركة بعض رموزها في مظاهرات 20 فبراير، حيث عرف حزب العدالة والتنمية نقاشا
صاخبا بين قياداته ومناضليه حول المشاركة من عدمها، وتم تسجيل مشاركة عدد معتبر من
مناضلي الحزب وجزء من قياداته في مظاهرات 20 فبراير، حيث قرر أربعة من أعضاء
الأمانة العامة و6 مسؤولين جهويين للحزب وأعضاء آخرين بالمجلس الوطني للحزب إصدار
بلاغ يعلنون فيه مشاركتهم في هذه الاحتجاجات، كما التحقت بهم قيادات أخرى في
مظاهرات يوم 20 مارس من نفس السنة، كما أصدرت شبيبة الحزب بيانا "تعلن فيه
أنها ستشارك في تظاهرات الأحد 20 فبراير، مشددة على أن مشاركتها ستكون سلمية وأنها
ستكون من أجل الاحتجاج على الفساد بكافة أشكاله" قبل أن تضطر للتراجع بضغط من
الأمين العام.
العامل الثاني ـ نتائج الانتخابات التي أجريت يوم 25 تشرين الثاني/
نوفمبر 2011، والتي بوأت حزب العدالة الرتبة الأولى سهلت هذا التقارب، بحيث كان
حزب العدالة والتنمية يحتاج لحساسية سياسية تمثل اليسار الاشتراكي في الحكومة،
وتعزز التوجه الوطني الديموقراطي داخل الحكومة، خصوصا بعد اعتذار حزب الاتحاد
الاشتراكي للقوات الشعبية عن المشاركة في الحكومة بشكل مفاجئ، كما كان حزب التقدم
والاشتراكية محتاجا للمشاركة في الحكومة والاستفادة من جو الانفتاح السياسي الذي
دخلته البلاد بعد دينامية الربيع العربي، وتحقيق نوع من الاستمرارية في القرب من
مؤسسات صناعة القرار العمومي.
أبانت التجربة العملية أن هناك إمكانية لبناء توافقات وطنية كبرى على أرضية الديمقراطية بين تيارات سياسية وحساسيات فكرية مختلفة، وهو شرط ضروري في عملية التحول الديموقراطي، كما أثبت بأن العديد من الأفكار المسبقة حول حزب العدالة والتنمية ليست بالصورة التي يجري تصويرها من طرف العديد من وسائل الإعلام.
العامل الثالث ـ عنصر الواقعية السياسية، فكلا الحزبان ينتميان إلى
تجربة قامت بالعديد من المراجعات الفكرية والسياسية خلال محطات تاريخية مختلفة،
فحزب التقدم والاشتراكية الذي كان يحمل إسم الحزب الشيوعي المغربي، وكانت أفكاره
السياسية متأثرة باليسار الشيوعي في العالم، قام بالعديد من المراجعات لملاءمة
أدبياته مع الخصوصيات الثقافية والحضارية للمجتمع المغربي وللتأقلم مع طبيعة
النظام السياسي المغربي، كما أن حزب العدالة والتنمية هو من بنات فكرة المشاركة
السياسية التي كانت نتيجة للمراجعات الفكرية والسياسية التي قامت بها الحركة
الإسلامية في المغرب قبل أن تقرر خوض غمار العمل السياسي من داخل النسق السياسي
القائم، هذه الواقعية هي التي دفعت كلا
الحزبين إلى التقدير المشترك سنة 2011بأن مصلحة الوطن تتطلب نقلة متقدمة في مجال
الإصلاح السياسي والدستوري من جهة، وعدم المغامرة بمقومات الاستقرار السياسي من
جهة أخرى، والعمل المشترك لنقل مطالب الشارع إلى داخل المؤسسات.
العامل الرابع ـ هو الاعتراف الموضوعي بالاختلافات وإدارتها وفق رؤية
براغماتية بناء على سلم أولويات واضح ينتصر للقضايا الكبرى المستعجلة، من قبيل
القضايا الاقتصادية والاجتماعية ويعمل على تأجيل القضايا التي تتمتع بحساسية
إيديولوجية مفرطة بين حزبين يختلفان من حيث المرجعية، لكن مع مرور الوقت وإخضاع
الكثير من الإشكاليات للنقاش الهادئ تبين بأن هناك حلولا توفيقية ممكنة، مع جرعة
من الاعتراف المتبادل وتفهم البعض لمنطق البعض الآخر.
العامل الخامس ـ هو الثقة المتبادلة والإيمان المتبادل بدور الطرف
الآخر والاقتناع بأن الحقيقة ليس لها لون واحد، شريطة انطلاقها من إرادة "المعقول"..
هذا المفهوم الشعبي، الذي تمتزج فيه مفاهيم الصدق والنزاهة والفعالية، كان عاملا
محددا في نجاح تجربة هذا التحالف ووفاء طرفيها.
العامل السادس، هو الصبر واليقظة تجاه الضغوطات والمناورات التي
مورست عليهما طيلة تلك المرحلة، لقد تعرض كلا الحزبين داخل الحكومة للكثير من
التشويش والاتهامات من طرف العديد من وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي
المقربة من بعض الدوائر النافذة، أو ما يعرف بالذباب الإلكتروني المناهض
للديموقراطية ، وتحملا كلاهما مسؤولية الدفاع عن قرارات الحكومة التي ترأسها
عبدالإله بنكيران من 2012 إلى 2017، بما فيها القرارات التي لم تكن محل رضا بعض
الفئات الاجتماعية من قبيل بعض الإصلاحات الحساسة مثل إصلاح صندوق المقاصة الذي
بموجبه توقف دعم المحروقات، أو إصلاح نظام التقاعد الذي رفضته النقابات، ومع ذلك
صمد كلا الحزبان وأثبتا وفاءهما للبرنامج الحكومي ولميثاق الأغلبية..
سابعا ـ مرونة عبد الإله ابن كيران مع حزب التقدم والاشتراكية،
والتعامل معه كحليف سياسي بغض النظر عن وزنه الانتخابي، حيث شارك حزب التقدم
والاشتراكية الذي حصل على 20 مقعدا بأربعة وزراء في حكومة يناير 2011، وبخمسة
وزراء بعد التعديل الحكومي لأكتوبر 2013 بعد قرار خروج حزب الاستقلال من الحكومة،
وذلك بإضافة امرأة كوزيرة منتدبة مكلفة بالماء وهي شرفات أفيلال.
كما شارك الحزب في حكومة سعد الدين العثماني بثلاث حقائب وزارية قبل
أن يقرر الانسحاب من الحكومة، في تشرين أول/ أكتوبر 2019.
وبغض النظر عن المبررات التي دفعت حزب التقدم والاشتراكية إلى
الانسحاب من الحكومة، فقد أبانت التجربة العملية أن هناك إمكانية لبناء توافقات
وطنية كبرى على أرضية الديمقراطية بين تيارات سياسية وحساسيات فكرية مختلفة، وهو
شرط ضروري في عملية التحول الديموقراطي، كما أثبت بأن العديد من الأفكار المسبقة
حول حزب العدالة والتنمية ليست بالصورة التي يجري تصويرها من طرف العديد من وسائل
الإعلام.
في الحلقة القادمة نتابع
تقييم الأداء
الحكومي لحزب العدالة والتنمية.