خلال فعاليات المؤتمر العالمي الأول للسكان والصحة والتنمية والذي تم
عقده في
مصر في الفترة من 5 إلى 8 أيلول/ سبتمبر 2023 الجاري بالعاصمة الإدارية
شرق القاهرة، أثيرت قضية
تحديد النسل في الصين باعتبار أنها كانت الحل الوحيد الذي
نهض بالصين وجعلها من أوائل دول العالم في النمو الاقتصادي خلال العقود الماضية،
خاصة وأن توجيهات السيسي أشارت إلى أنه لا يؤمن بحرية الشعب في الإنجاب، وإلى
ضرورة ألا يتجاوز عدد المواليد في مصر عن عدد 400 ألف مولود سنويا على عشرين سنة؛
وهذا يعني انخفاض معدل الخصوبة إلى أقل من واحد طفل لكل سيدة في مصر .
وكان طبيعيا أن تخرج وسائل الإعلام المصرية بالكثير من المغالطات حول
التجربة الصينية، وزاد الطين بلة ظهور دعوات برلمانية تثمن تجربة الصين في خفض
معدل المواليد باعتبارها نموذجًا مُلهمًا للكثير من الدول، خاصة "سياسة الطفل
الواحد" عام 1979، وقانون السكان وتنظيم الأسرة عام2001 ويشمل حوافز إيجابية
وأخرى سلبية لتفعيل القانون وضمان تأثيره.
الاستراتيجية الصينية للتنمية الشاملة شملت عدة محاور تمت بالتوازي
يوجد تصور منتشر في مصر باعتبار أن سياسة الطفل الواحد كانت هي الإجراء
الوحيد الذي أدى إلى النهضة الصينية الحديثة، وهذا تصور خاطئ ويدل على عدم وجود
دراسة وفهم حقيقي للاستراتيجية الصينية نحو التنمية الشاملة.
فقد اتخذت القيادة الصينية في نهاية عام 1978 قرارًا تاريخيًا حاسمًا
غيّر الصين والعالم، وشمل البدء في الإصلاحات الزراعية وفتح الأبواب أمام
الاستثمار الأجنبي حيث بدأ الاقتصاد الصيني ينمو بوتيرة متسارعة وبلغ متوسط النمو
السنوي 10% خلال الأربعة عقود المنصرمة ما أدى إلى إحداث تحول شامل وبعيد المدى في
المجتمع الصيني وتحقيق نهضة اقتصادية غير مسبوقة؛ حيث اعتمدت الصين استراتيجية
متكاملة الأبعاد شملت:
أولا ـ الاهتمام بالتنمية الشاملة: وقد ارتكزت الإصلاحات الاقتصادية
الصينية في بداية الأمر على زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي واستكمال إنشاء البنى
التحتية في الريف والحضر، وإنشاء نظام حوكمة الشركات الحديثة ما أرسى أسسًا راسخة
للتنمية الاقتصادية المستدامة. وتم التركيز بداية على الريف والذي يمثل نسبة 71
بالمئة من سكان الصين: حيث تم منح المزارعين الحق في استغلال أراضيهم الخاصة؛ وذلك
بإدخال تطبيقات تراثية ومجتمعية وتطوير الأيدلوجية الشيوعية الحاكمة؛ مما ساعد في
تحسين مستويات معيشتهم والتقليل من ظاهرة شح المواد الغذائية. مع التركيز على
التصنيع وإدخال التكنولوجيا الحديثة وهي خطوات أدت في نهاية المطاف إلى إخراج
الملايين من دائرة الفقر.
ثانيا ـ فتح الأبواب للاستثمارات الأجنبية، حيث تدفقت الأموال من قبل
المستثمرين الذين كانوا يتوقون للاستفادة من العمالة الرخيصة والايجارات المنخفضة
في الصين، وتم تحقيق أكبر المعجزات الاقتصادية في التاريخ، حيث بلغت نسبة نمو
الاقتصاد الصيني مستويات قياسية بنهاية التسعينيات، وانضمت البلاد إلى منظمة
التجارة العالمية في عام 2001 مما منح اقتصادها دفعة إضافية أدت إلى تحسين مستوى
المعيشة بالنسبة للمزيد من السكان.
ثالثا ـ الاهتمام بتنمية رأس المال البشرى حيث تسارعت مستويات
التعليم بشكل هائل. لرفع نوعية الموارد البشرية والتشجيع على روح المبادرة
والإبداع والابتكار. وتشير الإحصاءات إلى أن الإنفاق على تعليم الأبناء يأتي في
مقدمة الإنفاقات المعيشية لمعظم الأسر الصينية سواء أكانت في الأرياف أم في المدن،
ويزداد الإنفاق الحكومي في التعليم والبحث العلمي والتطوير سنة بعد أخرى، ما أدى
إلى تفوّق العديد من الشركات الصينية في مجال الاتصالات والتسويق الإليكتروني
والدفع الإليكتروني والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي وغيرها من المجالات. ويتوقع
"بنك ستاندارد تشارترد" أن تكون 27 في المئة من القوة العاملة في الصين
تحظى بتعليم جامعي بحلول عام 2030، وهو معدل يساوي وضع ألمانيا الآن.
رابعا ـ فرض سياسة الطفل الواحد عام 1979، أي بعد عام من الإصلاحات
الاقتصادية؛ حيث سنَّت الحكومة الصينية قوانين صارمة على شعبها من أجل تحديد النسل
والتحكم في عدد المواليد وجنسها. حيث لم تسمح إلا بابن واحد للأسرة، ومَن خالف ذلك
يُعاقب بغرامات قاسية ومنع حصول الابن على أوراق ثبوتية، والطرد من الوظيفة أو أن
يتم إجهاض المرأة الحامل .
سياسة الطفل الواحد في الصين أتت بسلبيات فاقت نسبة الإيجابيات، وتم
العدول عنها عام 2015.
وعلى الرغم من أن سياسة الطفل الواحد قللت بشدة من معدل الخصوبة في
الصين، وأبطأت النمو السكاني الطبيعي وقلصت عدد السكان، إلا أنها أفرزت تبعات
خطيرة لم ترد في الحسبان تدفع الصين ضريبتها حاليا، فقد ارتفعت نسبة المواليد
الذكور مقابل الإناث، ودفعت الأسر الصينية التي تفضل الذكور إلى اختيار جنس
المولود. ومن النتائج الرئيسة الأخرى لسياسة الطفل الواحد وجود عدد كبير من
الولادات غير الموثقة، وقد اختار كثيرون عدم الإبلاغ عن هذه الولادات، خاصة إذا لم
تكن لديهم الإمكانات المالية لدفع الغرامات، ويسمى هؤلاء المواليد "الأطفال
السود"، لأنه لم يتم دمجهم في نظام تسجيل الأسرة الصيني، وذلك يعني عدم
حصولهم على الرعاية الطبية أو التعليم أو التوظيف، لا سيما في المناطق الحضرية
التي تسهل مراقبتها حيث طبقت سياسة الطفل الواحد فقط تطبيقا صارما.
من المهم أن يستوعب السيسى ومعه جميع أطراف الإدارة المصرية أن التجربة الصينية بدأت عام 1978 بالتنمية الاقتصادية والبشرية أولا، ثم تبعتها عام 1979 بسياسة الطفل الواحد، والتي تسببت في وجود خلل رهيب في التركيبة السكانية؛ مما اضطر الصين إلى بدء سياسة سكانية جديدة تستخدم شعارات تدعو الأسر إلى "إنجاب الأطفال من أجل البلاد".
وقد تراجعت معدلات الخصوبة في الصين بصورة كبيرة للغاية لدرجة حالت
دون مستويات الاحلال الطبيعية، وتعني أن معدل الخصوبة يجب ألا يقل عن نسبة 2.1 طفل
لكل سيدة، وبالتالي بدأ المجتمع الصيني يتحول إلى مجتمع مسن نتيجة انخفاض نسبة
المواليد وارتفاع معدلات العمر، مما أوجد ضغوطا متزايدة على نظام التقاعد والخدمات الاجتماعية خاصة مع التراجع
المتزايد في اعداد القوي العاملة. فقد شهدت الصين تراجعا في أعداد القوى العاملة
حيث أشارت الإحصاءات إلى انخفاض قوة العمل في الصين في عام2012 بأكثر من ثلاثة
ملايين عامل. وفي عام 2014، وبدأ عدد السكان في سن العمل في الصين الانكماش لأول
مرة منذ أكثر من 3 عقود.
وفي العام التالي 2015؛ أعلنت الحكومة الصينية إنهاء سياسة الطفل
الواحد، التي تسمح للأزواج بإنجاب طفلين، لأن هذا الخلل في النمو الديموغرافي يتعارض بشكل أساسي مع مخططات الدولة
الصينية للنمو الاقتصادي، ويدقّ ناقوس الخطر بعجز مرتقب في اليد العاملة لدى أكبر
اقتصادات العالم. إزاء ذلك عمدت الحكومة الصينية إلى تشجيع مواطنيها على الإنجاب،
وتدارست في سبيل ذلك إجراءات كتمديد إجازة الأمومة، والتشجيع على إنجاب طفل ثانٍ
من خلال تقديم حوافز نقدية مباشرة أو إعفاءات ضريبية لبعض الوقت.
التجربة الصينية في تحديد النسل وتكذيب رواية السيسي:
وفى حين تتميز مصر بوجود الغطاء البشرى الذى يميز شخصية مصر
الإقليمية والبشرية والزمانية والتكاملية بحسب وصف الدكتور جمال حمدان في مؤلفه
الموسوعي حول "شخصية مصر"؛ فإن تلك الهبة الديموجرافية ما زالت تعاني من
الهدر في رأس المال البشرى، حيث أشارت دراسة للدكتور محمد عبد الرحمن صالح منشورة
في "دورية عمران للعلوم الاجتماعية في أبريل 2015"؛ إلى ارتفاع نسبة
الفقر والحرمان بأبعاده المختلفة في مصر، وتدني مستويات التعليم وانفصامه عن سوق
العمل، وانخفاض المستوى المهارى للعاملين
من الشباب، وارتفاع نسبة العاطلين وفجوة النوع الاجتماعي، وتفاقم الطلب على الهجرة
الخارجية، وانتهت الدراسة إلى أن التنمية الحقيقية تلك التي تعتمد على الاستثمار
في البشر من خلال التعليم والعدالة الاجتماعية، مع إزالة كافة المعوقات التي تخلق
فجوة النوع الاجتماعي.
وجاءت توجيهات وأوامر السيسى في مؤتمر السكان تكرارا لما سبق وأن
أعلنه كثيرا من قبل بالعمل على خفض معدل الخصوبة في مصر من 2.85 طفل لكل سيدة
حاليا ليصبح أقل من واحد، وحيث أن معدل التوازن السكاني يؤكد على ألا يقل معدل
الخصوبة عن 2.1 طفل لكل سيدة، لذا فإن أوامر السيسى تلحق بالغ الضرر بالتركيبة
السكانية الفريدة للمجتمع المصري والتي وصفها رئيس الجهاز المركزي للإحصاء عام
2017 بأنه "مجتمع شاب وفتى ".
ومن المهم أن يستوعب السيسى ومعه جميع أطراف الإدارة المصرية أن
التجربة الصينية بدأت عام 1978 بالتنمية الاقتصادية والبشرية أولا، ثم تبعتها عام
1979 بسياسة الطفل الواحد، والتي تسببت في وجود خلل رهيب في التركيبة السكانية؛
مما اضطر الصين إلى بدء سياسة سكانية جديدة تستخدم شعارات تدعو الأسر إلى "إنجاب
الأطفال من أجل البلاد".