لا يكتفي د. عزمي بشارة في
كتابه الجديد "مسألة
الدولة: أطروحة
في الفلسفة والنظرية والسياقات" الصادر عن المركز
العربي للأبحاث ودراسة
السياسات عام 2023، بتناول النقد الذي وجه إلى
المفاهيم السابقة للدولة من منظور
الفلسفة الأخلاقية والسياسية وعلم السياسة، ولا يكتفي أيضا بمراجعة السرديات
المختلفة لنشوء الدول، بل يقوم بتقديم رؤية حول فلسفة الدولة من منظور نقدي
إنساني، تأخذ بعين الاعتبار التوتر القائم بين المفهوم والواقع، لا سيما واقع
البلدان العربية.
الدافع الأساسي لهذا الكتاب يكمن في أمرين رئيسيين، الأول الإسهام في
بلورة مفهوم الدولة وبحث قضاياها الرئيسية، والثاني أن موضوع الدولة حاسم بالنسبة
إلى الانتقال الديمقراطي، لأنه لا يمكن الوصول إلى تعددية ديمقراطية في ظل شروخ
اجتماعية عميقة تجعل الدولة هشة وغير قادرة على إنشاء نظام ديمقراطي تعددي.
النقطة الرئيسية التي ينطلق منها الكتاب هي ضرورة تعديل التعريفات
الرائجة للدولة، وذلك بالاستقراء من واقع الدول، حتى لا تكون الدولة كمفهوم، مجرد
فعل تنظيري منفصل عن الواقع، فالدولة مفهوم، وهذا صحيح بمعنى أنها توجد في التصور،
لكن الدول موجودة بالتأكيد، ففي الواقع توجد مؤسسات، وهي كيانات واقعية.
الدولة الحديثة هي نتاج صيرورة تمايزات في وظائف السلطة ومؤسساتها،
لكن هذه التمايزات كانت موجودة قبل تشكل الدولة بوصفها كيانا قائما بذاته، ويتصوره
السكان بوصفه شاملا للحاكمين والمحكومين معا، وهذه التمايزات هي نتاج صيرورة تفاعل
نظم الحكم وآليات السيطرة مع تطور المجتمعات.
لا يمكن فهم الدولة المعاصرة من دون مكون المواطنة الذي أصبح الوجه الآخر للسيادة، ففهم السيادة على أنها السلطة العليا على إقليم وسكانه لم يعد كافيا، كما أن مصطلحات غامضة مثل سيادة الشعب، لا تفي بالغرض، لأنها لا تدخل في تعريف الدولة، بل في التأسيس لطبيعة نظام الحكم.
ولذلك ينبهنا د. بشارة إلى مسألة عدم الخوض في الدلالات الأصلية للفظ
دولة في اللغة العربية والتي تفيد التغيير والتبدل، والمشتق من دال ويدول،
ومقارنتها مع دلالة مفردة STATE التي تعني السكون والاستقرار، لأن
الاختلاف في معاني الألفاظ لا يفسر الفرق بين حال الدول العربية والدول الأوروبية.
أيضا، لم تعد تداعيات كلمة "دولة" العربية تثير معاني
التغيير والتبدل في أذهاننا، بل العكس تماما، حيث انقلبت الدلالة إلى عكسها.
وينطبق الأمر على دلالة اللفظ باللغة الإنكليزية، فقد كان لفظ STATE يعني في الأصل حالة أو وضعا، وكلمات مثل مكانة STATUS، وطبقة اجتماعية وإقطاعة ESTATE مشتقة منها، وقد تحول لفظ STATE ليعني دولة، إذ مر عبر STATUS،
وهو اللفظ الذي ميز مكانة الحكام من المحكومين، ولا شيء هنا يشبه بالسكون والرسوخ.
السيادة
تُعرف الدولة الحديثة وفق فرضية الكتاب بالسيادة، أي الحق الحصري في
التشريع والولاية القضائية على إقليم ترابي محدد سياسيا، ويتطلب ذلك بالضرورة
احتكار الاستخدام الشرعي للعنف، كما يتطلب وجود جهاز بيروقراطي يدير الحكم والشؤون
العمومية.
لكن هذه الخواص غير كافية لتعريف الدولة الحديثة وتمييزها عن نظم
الدول القديمة، فإذا كان الحق الحصري في التشريع والاستخدام الشرعي للعنف هي سمات
موجودة في الدولة القديمة وإن بدرجات، فإن ما يميز الدولة الحديثة هو المواطنة
باعتبارها تجسيدا للسيادة.
وعند هذه النقطة يجري التمييز الجوهري بين الدولة والسلطة، فمن دون
انتقال المحكومين إلى مواطنين لا يمكن الحديث عن الدولة، وإذا لم يحدث هذا
الانتقال فسيبقى الوضع قائما بين رعية وسلطة حاكمة، لا دولة.
لا يمكن فهم الدولة المعاصرة من دون مكون المواطنة الذي أصبح الوجه
الآخر للسيادة، ففهم السيادة على أنها السلطة العليا على إقليم وسكانه لم يعد
كافيا، كما أن مصطلحات غامضة مثل سيادة الشعب، لا تفي بالغرض، لأنها لا تدخل في
تعريف الدولة، بل في التأسيس لطبيعة نظام الحكم.
أيضا، ليست الديمقراطية شرطا للمواطنة، فالمواطنة هي وضعية الفرد
القانونية في الدولة الحديثة، لكن المواطنة شرط الديمقراطية، وبهذا يعني بشارة
بالمواطنة العضوية في الدولة والمساواة القانونية في المكانة، وهي لا تفترض
المساواة الاجتماعية ولا الديمقراطية، ولا حيوية المجال العمومي، لكنها تضع الدول
على مسار يقود إليها إذا توافرت الظروف والقوى الاجتماعية والسياسية التي تناضل
لتحقيق هذه الأهداف.
يميز بشارة بسين شرعية الدولة (الحديثة) وشرعية الحكام، لا لأن ذلك
من المسلمات، ولا لأنه يعكس الواقع في كل زمان ومكان، وهذا ليس صحيحا، بل لأسباب
أربعة:
1ـ إن التمايز بين شخص الحاكم وجهز الحكم هو من مقدمات الدولة
الحديثة.
2ـ إمكانية التمييز بينهما قائمة نظريا في مفهوم الدولة الحديثة ذاته.
3ـ من المفروض أن يميز الفاعلون السياسيون والاجتماعيون بين نظام
الحكم الدولة إذا كان هدفهم تغيير نظام الحكم من دون المس بالدولة.
4ـ أصبح لدى المجتمع توقعات من السلطة تختلف عن توقعاته من الدولة.
كانت واجبات الدولة، حين كان المقصود بها الحكام، قليلة وغير قائمة
على توقعات أو الالتزام بتحقيق توقعات منها لدى المجتمع، أما السلطات الحاكمة في
العصر الحديث، فتدخل في علاقة تفاعلية مع المجتمع ضمن إطار يجمعهما، هو الدولة،
وعلى ذلك فثمة توقعات من الناس والتزامات أيضا.
دول العالم الثالث
لم تنشأ الدولة العربية ودول العالم الثالث نتيجة لعملية مبكرة
وتدريجية لمركزة السلطان والعنف، وسابقة على تأسيس الدولة الحديثة، فقد نشأت
الدولة العربية ودول العالم الثالث إثر عملية مركزة قامت بها قوى أجنبية محتلة أو
وصية، وحين قامت الدولة الحديثة دفعة واحدة، كان ثمة مصادر أخرى تقليدية أهلية
للتشريع وجماعات مسلحة داخل الدولة، وقد تعاونت الدولة الحديثة ذات الشرعية
التقليدية مع هذه الجماعات المسلحة (قبائل وغيرها) في بداية نشوء الدولة (العراق،
الأردن، السعودية، المغرب) قبل ان تصطدم بها.
في آسيا وإفريقيا، اللتين تشهدان حروبا أهلية متكررة منذ نهاية حقبة
الاستعمار، تُسلم جميع القوى السياسية الفاعلة تقريبا، بأن لا بديل من الدولة
الحديثة في تنظيم عملية حكم إقليم وسكان.
ليست الديمقراطية شرطا للمواطنة، فالمواطنة هي وضعية الفرد القانونية في الدولة الحديثة، لكن المواطنة شرط الديمقراطية، وبهذا يعني بشارة بالمواطنة العضوية في الدولة والمساواة القانونية في المكانة
هنا، يركز بشارة في حالة دول العالم الثالث، بما فيهم البلدان
العربية، على خطورة غياب الدولة، وخطورة وهم الاستغناء عنها، ونتائج هذا الغياب
المروعة لناحية الفوضى التي تظهر آفات المجتمع كما حدث في بلدان الربيع العربي منذ
عام 2011، كما يركز بشارة أيضا على مسألة تأسيس القدرة على التمييز بين الدولة
والحكام ونظام الحكم، وهذه مسألة مهمة للغاية لأنها متعلقة بالحفاظ على استقرار
الدولة، على الرغم من تغيير النظام.
وقد أعطى بشارة في أكثر من مناسبة أمثلة على ذلك، منها أن إسرائيل
أجرت خمس انتخابات خلال السنوات الخمس الماضية من دون أن تتأثر مؤسسات الدولة التي
بقيت تقوم بعملها رغم عدم وجود سلطة عمليا، في حين أن الانتخابات في مصر وتونس على
سبيل المثال أدتا إلى احتراب سياسي اجتماعي أخذ في لحظات معينة أبعادا عنفية.
يرتبط الإشكال في الحالة العربية حسب بشارة في عدة أمور: قضايا
الشروخ الاجتماعية العامودية، وهن مؤسسات الدولة غير الأمنية، تحول النظام الرئاسي
المستبد في بعض الحالات إلى نظام شبه سلطان، ضمور المواطنة لناحية كونها الصلة بين
الدولة والفرد متضمنة الحقوق والواجبات، تآكل ثقافة الدولة بمعنى ضعف تصور وجود
مصلحة عمومية تخدمها مؤسسات الدولة، قرن الأنظمة السلطوية الولاء للنظام السياسي
القائم بالوطنية وعدم الولاء بالخيانة الوطنية.