كان الرئيس
التونسي قيس سعيد سعيدا بما يجري على الساحة
الفلسطينية منذ
الساعات الأولى، وهو ما جعل موقف تونس مختلفا عن بقية الدول العربية التي أصدرت
بيانات في هذا الشأن، بما في ذلك الموقف الجزائري على أهميته. فالرئيس رفض في
صياغة البيان مختلف الخطوط الحمراء التي تلتزم بها عادة الأنظمة العربية بما في
ذلك الدبلوماسية التونسية، وذلك خشية اتهامها من قبل الدول الكبرى والمنتظم الأممي
بالعداء لإسرائيل، ورفض حقها في الوجود.
بقطع النظر عن الحسابات الخاصة بالصراع الداخلي التونسي، لقي موقف الرئاسة
استحسانا من قبل أغلب مكونات الطيف السياسي، بما في ذلك المعارضون لسياسات الرئيس.
فتونس اليوم رئاسة وأحزابا ومنظمات مجتمع مدني؛ مثل النقابات والقضاة والمحامين
والصحفيين وغيرهم؛ على قلب رجل واحد، تؤيد حق المقاومة في الخطة التي أعدتها وشرعت
في تنفيذها.
رفض البيان مجاراة المفردات المستعملة إعلاميا مثل "غلاف غزة"، في إشارة
إلى المستوطنات التي زرعت حولها، قائلا بأنها "أرض فلسطينية ترزح تحت
الاحتلال الصهيوني". وهو تصحيح مهم له دلالاته وأبعاده، فتنشيط الذاكرة أمر
على غاية من الأهمية، خاصة ضمن السياق الراهن، لهذا أشار البيان إلى ضرورة التذكير
بالجرائم السابقة؛ مثل مذابح دير ياسين وكفر قاسم وخان يونس. فقيس سعيد يفضل الحديث
عن الصهيونية، ويتجنب قدر الإمكان استعمال مصطلح
إسرائيل ككيان سياسي معترف به
دوليا، ويعتبره الرئيس التونسي كيانا غير شرعي.
الأهم من ذلك، إصرار البيان الرئاسي على حق الفلسطينيين في "استعادة كل
أرض فلسطين"، وهو ما يعني ضمنيا أن الرئاسة التونسية لا تقر بشرعية الدولة الصهيونية
التي تأسست عام 48.
انحاز بيان الرئاسة كليا وبدون تحفظ إلى المقاومة؛ صحيح أنه لم يذكر حماس
وغيرها من الفصائل المسلحة، لكن أكد بوضوح لا لبس فيه "حق المقاومة
المشروعة للاحتلال، ولا يعدّ ذلك اعتداء وتصعيدا".
أخيرا، تم تذكير المجتمع الدولي بحق الفلسطينيين في "إقامة دولتهم
المستقلة وعاصمتها القدس" على كل فلسطين، وهو المطلب الذي تجاهلته الدول بعد أن
غيّرت إسرائيل الجغرافيا، وعادت القيادات الصهيونية، خاصة الدينية منها إلى خرائط "إسرائيل
الكبرى"، التي خلت بالكامل من الوجود الفلسطيني.
هذا الموقف التونسي الرسمي الصادر هذه الأيام، جاء مختلفا في جوانب أساسية
عن الرؤية التي تبناها الرئيس بورقيبة منذ 1965، حين شجع الفلسطينيين على القبول
بقرار التقسيم، وإقامة دولتهم على ذلك الأساس.
بهذا البيان الواضح وقطعي الدلالة، يكون الرئيس قد أكد عدم قبوله بمسألة
التطبيع مهما كانت الضغوط. وموقفه هذا ستكون من نتائجه تعميق الفجوة بينه وبين جزء
واسع من رؤساء دول العالم الغربي؛ الذين أكدوا بعد عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كونهم ملتزمين بالدفاع عن إسرائيل ضد ما وصفوه بـ"عدوان حماس الإرهابي".
ومن المتوقع في هذا السياق أن تتضاعف الضغوط على تونس، في محاولة من هذه الأطراف
الدولية إضعاف قيس سعيد سياسيا واقتصاديا، وربما التفكير في التخلص منه بأي شكل من
الأشكال، وهي فرضية قد تبدو مستبعدة وغير جدية، لكن بعد المنعرج الذي دخله الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي، والموقف الرسمي التونسي، فإن الدوائر الصهيونية، بعد أن تهدأ
الأوضاع، ستراجع حساباتها وتعيد النظر في أكثر من ملف.
الأمر اللافت للنظر، أن الرئيس التونسي لم يسارع كما جرت العادة للاتصال بمحمود
عباس رئيس السلطة الفلسطينية للتشاور. ورغم تحفظات سعيد على الحركات الإسلامية
عموما بما في ذلك حركتا حماس والجهاد، إلا أن ذلك لم يمنعه من الإعلان عن موقف
مساند بدون تحفظ سياسي أو أيديولوجي.
إن إمكانية إصدار قانون لتجريم التطبيع، أصبحت واردة في القريب العاجل أكثر
من أي وقت مضى، خاصة مع تطور الأحداث القادمة التي ستفجرها تداعيات "طوفان الأقصى".
فعندما تحرك الولايات المتحدة مجموعة "حاملة طائرات هجومية"، وترسل 5000
جندي لمساعدة إسرائيل في حربها على الفلسطينيين، فذلك مؤشر على طبيعة المعارك التي
ستدور رحاها؛ لأن الغرب الأمريكي والأوروبي بالذات غير مستعد للتخلي عن انحيازه
المطلق للحركة الصهيونية، وعدم استعداده النظر بجدية في حجم الجرائم التي ترتكبها
الدولة العبرية على مختلف الأصعدة.
إن غدا لناظره قريب.