مثَّلت عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب القسام في 7 تشرين
الأول/ أكتوبر 2023 ضربة تاريخية نوعية للكيان الصهيوني، لم يسبق لها مثيل منذ إنشائه
قبل 75 عاماً، حيث
اجتمعت فيها عناصر المفاجأة الصاعقة العسكرية والأمنية الاستراتيجية، واجتياح
منطقة معتبرة من
فلسطين المحتلة 1948، وإحداث أكبر قدر من القتلى والجرحى والأسرى مقارنة بكل المعارك التي
خاضها الفلسطينيون منذ إنشاء الكيان، بل وبمعظم الحروب العربية
الإسرائيلية.
شعر الاحتلال الإسرائيلي الذي بدا مرتبكاً مصدوماً،
بالمهانة وهو يرى بعينه تحطّم نظرية الأمن وانهيار جدران الردع المادي والنفسي،
كما رأى بنفسه كيف اقتحم رجال القسام نحو عشرين موقعاً استيطانياً و11 موقعاً
عسكرياً في بضع ساعات، وتأكد من فشله في تطويع الإنسان الفلسطيني وسحق مقاومته.
السلوك الإسرائيلي:
أخذ الاحتلال الإسرائيلي يُلملم نفسه ليستوعب الحجم
التاريخي الهائل للحدث، الذي ضرب كيانه في الصميم، وجعله يستحضر "الخطر الوجودي"
على بقائه وعلى مشروعه، في هكذا بيئة معادية. ولذلك، سيسعى أولاً بأقصى طاقته
لتوحيد جبهته الداخلية، لإظهار وحدته وتماسكه، وحتى يُعبِّر القرار السياسي
والعسكري عن حالة "وحدة وطنية"؛ وهو ما فعله من خلال تشكيل حكومة
الطوارئ.
من ناحية ثانية، سيسعى الاحتلال لاستعادة صورته الرادعة التي
هشمتها عملية طوفان الأقصى، من خلال حملة عسكرية واسعة مدمرة، تستهدف قطاع غزة
وبناه التحتية ومؤسساته الخدمية والمدنية، وإحداث أكبر قدر من الإرهاب للمدنيين،
وتدفيعهم ثمن الأداء العسكري لقيادتهم؛ كما سيسعى لجباية ثمن كبير من خلال اغتيال
عدد من القيادات السياسية والعسكرية للمقاومة وخصوصاً حماس في الداخل وحتى في
الخارج، وسيسعى للإمساك بزمام المبادرة، وإعادة فرض شروط اللعبة.
وقد يذهب إلى خيارات أبعد من مجرد إعادة الأوضاع إلى ما
قبل 7 تشرين
الأول/ أكتوبر 2023، إذ من الواضح أن القصف الهائل الهمجي والمنهجي الذي يتعرض له
القطاع، ومطالبة أهل شمال غزة (نحو نصف السكان) بالنزوح إلى جنوب القطاع أو مصر،
تعني أن ثمة رغبة في محاولة إعادة تشكيل الخريطة السياسية والأمنية للقطاع. وقد
تشمل الاحتمالات احتمال الاجتياح الشامل للقطاع، وهو احتمال مكلف جداً ومحفوف
بالفشل، نظراً للبنى التحتية القوية للمقاومة؛ واحتمال الاجتياح الجزئي إما لعمل
شريط حدودي "آمن" داخل القطاع، أو بتقطيع أوصال القطاع بفصل شماله عن
وسطه، ووسطه عن جنوبه، أما الاحتمال الثالث فمن خلال عمليات توغل واسعة في القطاع
لتنفيذ مهام محدودة لكسر شوكة
المقاومة، ثم الانسحاب بعد أيام قد تزيد أو تقل بحسب
إنجاز الأهداف.
ويبدو أن الاحتمال الأرجح حتى الآن سيكون الاجتياح البري
المحدود؛ غير أنه سيكون من النوع "المتدحرج المرن"، أي القابل للتطور
والتغيير بحسب الأداء على الأرض. فإذا ما واجه مقاومة شرسة، ووقعت به خسائر كبيرة،
فإنه سيُقلل من دائرة طموحاته، وإذا ما وجد بيئة تحرك مواتية، فإنه سيوسع مروحة
أهدافه.
وسيستفيد الاحتلال الإسرائيلي من الدعم الأمريكي
والأوروبي الغربي المفتوح، الذي تجاوز تحفظاته تجاه الحكومة الصهيونية المتطرفة،
والذي دخل سنداً معنوياً ومادياً للكيان، وغطاء للعدوان البشع على قطاع غزة.
كما سيستفيد الاحتلال من النفوذ الصهيوني الإعلامي
والسياسي والاقتصادي العالمي، في تشويه صورة المقاومة، وشرعنة عدوانه، وفي استجلاب
التأييد والغطاء الدولي لعدوانه، والتجاوز عن خروقاته للقانون الدولي وارتكاب
جرائم الحرب. وسيسعى إلى "تدعيش" حماس وقوى المقاومة، حتى ولو بناء على
أكاذيب وافتراءات مزعومة.
سلوك المقاومة:
لعل المقاومة تدرك الأثمان المتوقعة نتيجة هذه العملية
التاريخية الاستراتيجية، وأنها مقبلة على معركة "كسر عظم"؛ وتدرك أن
الضربة القاسية المهينة التي تلقاها الاحتلال ستُلجئُه إلى الانتقام الهمجي، في
محاولة لاستعادة الثقة بنفسه، وإعادة صورة الردع التي ظل يحافظ عليها لعشرات
السنوات. وتدرك قبل ذلك أن الاحتلال تحت قيادة حكومته المتطرفة، كان يسعى لحسم
الصراع سواء في مصير الأقصى والقدس، أم في مصير الضفة الغربية، أم في إغلاق ملف
المقاومة في قطاع غزة وفي البيئة الاستراتيجية المحيطة، وأن الرغبة الإسرائيلية
الأمريكية في المضي في ملف التطبيع تعني السعي لإنهاء المقاومة داخل فلسطين
وخارجها، وأن ثمة دولا عربية مُطبّعة (أو في طريقها للتطبيع) ترى في المقاومة عائقاً
لمساراتها التطبيعية، وحالة إلهام وتثوير لشعوبها ضد سلوكها السياسي، وستسعى
للمحاصرة الإعلامية للمقاومة، ولامتصاص ردود فعل شعوبها، وتمرير ضرب المقاومة بأقل
الخسائر المحتملة. ولذلك، فإن حجم الضغط المتوقع على قطاع غزة سيكون كبيراً.
ومن المتوقع أولاً أن تسعى المقاومة إلى تمتين الجبهة
الداخلية الفلسطينية وتعزيز تماسكها، وتوسيع دائرة الجماهير الملتفة حول خط
المقاومة، وحول تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، وحماية غزة، وعدم الانشغال بأي
خلافات جانبية أو تناقضات مرحلية. وأن تسعى لحماية ورعاية حاضنتها الشعبية خصوصاً
في قطاع غزة، وتقديم كل ما بوسعها لدعمها.
من ناحية ثانية، فإن هذا الوقت هو الوقت الحقيقي
لاستحقاق "وحدة الساحات"، وستزداد أهمية وحيوية هذا الخيار في حالة
إقدام الاحتلال على الاجتياح الشامل أو الجزئي لقطاع غزة، بمشاركة قوى المقاومة
داخل فلسطين وخارجها. إذ لا يمكن لقوى المقاومة خارج فلسطين أن تترك غزة لوحدها
تواجه هذا العدوان المسنود بتحالف عالمي، ذلك أن رأس المقاومة في لبنان وغيرها
سيكون الهدف التالي لإعادة بناء خريطة الشرق الأوسط وفق الشروط الإسرائيلية
الأمريكية.
من ناحية ثالثة، تستطيع المقاومة الاستفادة من ورقة
الأسرى الصهاينة، في وقف العدوان، ووقف استهداف المدنيين، وفي تحقيق صفقات تبادل وتبييض
السجون من كافة الأسرى الفلسطينيين.
من جهة رابعة، فلا بدّ من تصعيد الزخم الجماهيري
والحاضنة الشعبية الداعمة للمقاومة وزيادة تفاعلها في الضفة والـ 48، والعالم
العربي والإسلامي، والبيئة الدولية، كما حدث في سيف القدس (بل وأكثر)، لتشكل حالة
ضاغطة لدعم المقاومة ووقف العدوان على القطاع ووقف استهداف المدنيين، ولتكشف الوجه
البشع للاحتلال، وتعمل على تجريمه وعزله ونزع الغطاء عنه.
من ناحية خامسة، فإن من الأهمية بمكان التواصل مع الدول
العربية والإسلامية والعالمية، خصوصاً تلك التي يمكن أن تتفهم وجهة نظر المقاومة،
وأن تفضح كافة أشكال الدعاية المضللة التي يمارسها الصهاينة، وأن تضع هذه البلدان
أمام مسؤولياتها التاريخية. فإلى جانب البلدان العربية والإسلامية، هناك دول
عالمية وازنة ترفض حصار غزة وترفض العدوان عليها، وترفض الاحتلال الإسرائيلي للضفة
والقطاع، وتتفهّم أسباب المقاومة المسلحة، مثل روسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا..
وهي يمكن أن تلعب أدواراً في وقف العدوان، كما أن الكثير من الدول العالمية بما
فيها الأوروبية تقف ضد استهداف المدنيين.
* * *
وأخيراً، فإن الاحتلال الإسرائيلي بقدر ما هو راغب في
الانتقام وسحق المقاومة في غزة، بقدر ما يتملكه الرعب من الفشل. ولذلك، سيسعى بكل
قوته لتحقيق انتصار أو "صورة انتصار"؛ ولكن احتمالات فشله ليست قليلة؛
وهو ما قد يعني أن 7 تشرين الأول/ أكتوبر سيسجل في التاريخ، سواء كإنجاز نوعي
للمقاومة، أم كمحطة مهمة في مسار هزيمة "إسرائيل".