يُجمِع المراقبون والمحلّلون على أنَّ جولة المواجهة الجديدة بين المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب الشَّهيد عزَّ الدِّين القسَّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية- حماس والكيان الصُّهيوني تختلف تمامًا عن باقي المواجهات والجولات السَّاخنة في هذا الصِّراع الوجودي، وهو الحدث الاستراتيجي الأضخم وغير المسبوق على أرض فلسطين التاريخية منذ 75 سنة، إذ تمَّت السيطرة على 20 مستوطنة، و11 موقعًا عسكريا، في ظرفٍ قياسيٍّ وجيز، وهو ما يضفي عليه أبعادًا إستراتيجية مهمة، إذ سيكون عنوانًا بارزًا ومَعْلَمًا واضحًا في معركة التحرير الكبرى، فقد لامَسَ في جوهره المخاطر الوجودية لمستقبل الكيان الصُّهيوني، وهو ما يفسِّر هذا التدخُّل الغربي السَّريع وبشكلٍ قويٍّ ومباشر، وعلى رأسهم الحِلف الصَّليبي المتصهين: أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
والظَّاهر، أنَّ الإعداد لهذه المواجهة كان على قدْرٍ عال جدًّا من التخطيط والدقة والاحترافية، وقد تميَّز بسلسلةٍ من المفاجآت المدوِّية في عالم المواجهات العسكرية.
– من حيث التوقيت: مارست “حماس” خداعًا استراتيجيًّا كبيرًا منذ مدَّة، كما كانت كتائب القسَّام منشغلةً بالاستعداد الكامل والجهوزية التَّامَّة للهجوم والدفاع معًا، رغم معرفة السُّلوك الهمجي لردِّ الفعل الصُّهيوني الفاشي؛ فقد كان التوقيت في غاية الدقَّة والحِكمة، إذ تزامنت هذه المواجهة الخاطفة بيوم السَّبت، عطلة الكيان الصُّهيوني، واختتام مناسبة الأعياد الدينية له، وعلى موعدٍ مع بركات قوله تعالى: “فالمُغِيرَاتِ صُبحًا” (العاديات:03)، بعد ذروة الغرور الصُّهيوني باعتداءاته المتكرِّرة على المسجد الأقصى المبارك، وهو الذي كاد أن يُحْكِم قبضته بالتهويد النِّهائي له، فأتاه هذا الهجومُ من حيث لا يحتسب، وأصيب بأكبر نكبةٍ وإهانةٍ في تاريخه.
– الصَّدمة بالفشل الاستخباراتي والانهيار العسكري: في الوقت الذي تمَّ التسويق للصُّورة الخرافية للجيش الذي لا يُقهر، وجهاز الاستخبارات الأسطوري الذي لا يُهزم، تتمكّن المقاومة من القيام بهذا الهجوم الضَّخم، برًّا وبحرًا وجوًّا، من دون أن يثير أدنى انتباهٍ لكلِّ استخبارات العالم، وهو ما يؤكِّد التفوُّقَ الاستخباراتي للمقاومة.
– الحصيلة الثقيلة في الوقت القياسي: إذ استطاعت المقاومة، وفي زمنٍ قياسيٍّ قصير، تعطيل الرادارات، وقطع الاتصالات، واختراق الحواجز، وتدمير الحصون، والسيطرة على 07 مستوطنات و11 موقعًا عسكريا في غلاف
غزة، وكانت الحصيلة من حيث عدد القتلى في صفوف الجيش الصُّهيوني والشرطة الإسرائيلية وقطعان المستوطنين ثقيلة جدًّا، تتجاوز إلى حدِّ الآن 1500 قتيل، وعدد الجرحى يتجاوز 3500، وهو ما لم يذق العدو الصهيوني مرارته منذ قيام هذا الكيان سنة 1948م، وكانت الغلَّة في عدد الأسرى -كمًّا ونوعًا- ما لم يحدث في تاريخ هذا الصِّراع، إذ يعترف العدو إلى حدِّ الآن بأكثر من 120 أسير، وكان عدد المفقودين في صفوف العدو الصُّهيوني ما أربك دقَّة معلوماته، إذ تشير اعترافاتٌ إلى 800 مفقود.
وبغضِّ النَّظر عن نتائج هذه المواجهة ومآلاتها من حيث عدد الضَّحايا من الجانبين، فإنَّ ذلك ليس معيارًا في قياس نتائج الربح والخسارة، إذْ مهما بلغت حصيلة الشهداء، والتدمير في عالم المادة والأشياء فهي رخيصةٌ من أجل تحرير المسجد الأقصى المبارك، وهو ثمنٌ طبيعيٌّ في طريق حرِّية الأمم واستقلال البلدان وتقرير مصير الشُّعوب، وهو ما تشهد له تجارب الدول جميعًا، مهما كانت دياناتها وثقافاتها، وهي وفق عقيدتنا وتصوُّرنا الإسلامي شرفٌ عظيمٌ على طريق الجهاد والاستشهاد في سبيل الله. ولذلك فإنَّنا معنيون بهذا التراكم الاستراتيجي للفعل المقاوم، والذي يقرِّبنا أكثر من المعركة الفاصلة والشاملة.
ومن الأبعاد الإستراتيجية لهذه المواجهة:
1/ إسقاط هيبة هذا الكيان الصُّهيوني عالميًّا: فبالرغم من حجم نفوذه في الدول الغربية، واختراقه للدول العربية، والعلوّ الكبير الذي لم يصل إلى مثله في التاريخ اليهودي، وبالرغم من حجم الترسانة النووية والعسكرية والاستخباراتية والتقنية والتكنولوجية واللوجيستية، وبالرغم من قسوة الحصار المضروب على قطاع غزة منذ 16 سنة، برًّا وبحرًا وجوًّا، فقد استطاعت المقاومة -وبإمكاناتٍ ذاتيةٍ متواضعة- أن تُسقط هذه الأسطورة، وتبدِّد هذا الوَهْم، وتزعزع الثقة في هذه الخرافة، وهي الصورة التي يصعب على هذا الكيان ترميمها، مهما بالغ في همجيته وإجرامه وإمعانه في ردِّ الفعل، وصدق الله تعالى في عمومية المعنى عن اليهود عبر التاريخ في قوله: “لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى، وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ” (آل عمران:111)، والفرق بين الضَّرر والأذى، أنَّ الأذى مؤقتٌ وظرفي، ولن يدوم، وأنَّ العاقبة في القانون العامّ: “ثمَّ لا يُنصَرون”، فستضيف هذه المعركة رصيدًا هائلاً من المعنويات واليقين في زوال إسرائيل، بل قد قرَّبت تحقُّقَ هذه الحتمية، وجعلتها حقيقةً ماثلةً للعيان، وبالمقابل فإنها زرعت شكًّا عميقًا وتضعضعًا كبيرًا في جدار سردية الحقِّ اليهودي في فلسطين، إذْ لا مستقبل لهم تحت الشَّمس.
2/ النتائج العكسية لمخططات تصفية القضية: ستترك عملية “طوفان الأقصى” آثارًا عميقة في الوجدان الصُّهيوني، وفي جدوى قيام هذه الكيان، وهَدِّ مقوِّمات بقائه، ومدى قدرته على الحفاظ على مكتسباته، فهي ستتسبَّب في هجرةٍ عكسيةٍ للإسرائيليين، وفي اهتزاز العقيدة العسكرية لدى الصَّهاينة، وستضرب هذا الكيان في عمق إستراتيجيته للتمدُّد في الأرض الفلسطينية بالاستيطان، والتغوُّل بالتطبيع في المنطقة العربية، وستتراجع أهميته الإستراتيجية لدى الدول الغربية، مهما أبدت مساندته الاضطرارية، إذْ سيكون عبئًا ثقيلاً عليهم في المستقبل.
وقد نشرت صحيفة “هآرتس” مقالاً للكاتب “آري شبيت”، تحت عنوان: “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة”، قال فيه: “يبدو أنَّنا نواجه أصعب شعبٍ عرفه التاريخ، ولا حلَّ معهم سِوى الاعتراف بحقوقهم، وإنهاء
الاحتلال..”، وأضاف: “يبدو أننا اجْتَزْنا نقطة اللاَّ عودة، وأنه لم يعُد بإمكان “إسرائيل” إنهاءَ الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السَّلام”.
3/ الدلالات العميقة لتثبيت خيار المقاومة وتوحيد ساحاتها: فقد كان عنوان هذه المواجهات الأخيرة: “سيف القدس” سنة 2021م، و”طوفان الأقصى” سنة 2023م إيذانا بالدخول في مرحلةٍ جديدةٍ من الصِّراع، وهي تجسيدٌ لشعار: “اليوم نغزوهم، ولا يغزوننا”، مما أعطى زمام المبادرة وقرار الحرب والسِّلم للمقاومة، وتعمَّقت مبرِّراته بالبُعد العقائدي وحمولته الجاذبة، فهو مهوى أفئدة المسلمين جميعًا في العالم، بسبب الاعتداءات الهمجية والمتكررة على القدس والأقصى، وهو العنوان المركزي الجامع للأمة، كما توسَّعت دائرة الفعل المقاوم، لتشمل التوغُّل في العمق الصهيوني في المستوطنات والضفَّة وأرض 48، بما يعجِّل بالحرب الإقليمية التي تنسف إسرائيل من جذورها.
ولأوَّل مرَّةٍ منذ قيام هذا الكيان سنة 1948م تدور رَحَى المعارك الضَّارية والمواجهات المباشرة على الأراضي التي يزعم هذا الكيان سيادته عليها، فبعد تحرير غزة سنة 2005م، ها نحن الآن نشهد تهجير قطعان المستوطنين من غلافها، وإعلانها مناطق عسكرية خطيرة.
وفي الوقت الذي يسعى العدو إلى تهجير سكان غزة إلى “سيناء” عبر ما يُسمَّى “الممرات الإنسانية الآمنة”، في محاولةٍ يائسةٍ لكشف ظهر المقاومة، وتفريغ الحاضنة الشعبية لها، والاستفراد بها، والتمهيد لسياسة الأرض المحروقة، وتصفيتها وجوديًّا، فإن المقاومة تتبع إستراتيجية معاكسةً، بالتركيز على قصف مستوطناتٍ بعينها بآلاف الصواريخ، والتغطية على عمليات تسلُّل المجاهدين إليها، وتهجير المستوطنين منها، والتمهيد لتحريرها نهائيًّا، ولن يتجرَّأ أيُّ صهيونيٌّ على العودة إلى ذلك الجحيم، بعد أن عجزت المنظومة العسكرية والأمنية الصهيونية عن حمايتهم، فكثيرٌ من المستوطنين قالوا في تصريحاتٍ لوسائل الإعلام الصهيونية بعد اليوم الأسود في تاريخهم (07 أكتوبر 2023م) أنهم لن يعودوا إلى تلك المستوطنات مرة أخرى، بل إنهم يفكِّرون جدِّيًّا في الهجرة من إسرائيل أصلاً، بسبب فقدان الشُّعور بالأمان فيها.
4/ إستراتيجية المقاومة مع الأسرى: فهو ملفٌ يقع ضمن سُلَّم أولوياتها، وهو من العناوين الكبرى لهذه المواجهة، وملفٌ إنسانيٌّ لأكثر من 5 آلاف أسير ينتظرون معجزةً لتحريرهم، فإنهم ليسوا مجرد أرقام في السِّجلات الصُّهيونية، ما يفرض على الاحتلال دفع الثمن لحسابهم، وهو ما تحقق بأكثر مما هو متوقَّعٌ في هذه المعركة، فحسب الاعترافات الرسمية للكيان الصهيوني إلى حدِّ الآن فإنَّ هناك 120 أسيرًا بيد المقاومة، وهو رقمٌ صغيرٌ أمام الحقيقة، ولكنه كبيرٌ جدًّا في ميزان الصِّراع، ويكفي لتبييض كلِّ سجون الاحتلال.
لقد سطرت معركة “طوفان الأقصى” -وعلى المدى البعيد- آياتِ الفخر والاعتزاز، بأنه لا يعلو صوتٌ فوق صوت المقاومة، وأنه لا يمكن تمريرُ مشاريع التهويد والتسوية والتطبيع إلا على جثّتها، فصُمَّت آذانُ الدنيا إن لم تسمع كلمتها، وأنه لن يُفرض حلٌّ إلا وفق شروطها، وستبقى نغمة الرشاش هي لغة حوارها مع عدوِّها، وأنها ضمير الأمة نحو التحرير والتمكين والشهود الحضاري، وصدق الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- القائل: “لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحقِّ ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم، إلا ما أصابهم من لَأْوَاء، حتى يأتيهم أمرُ الله وهم كذلك”، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس“.
(الشروق الجزائرية)