يواصل سلاح الجو الإسرائيلي قصف قطاع غزّة بآلاف الأطنان من القذائف والمتفجّرات، وصلت إلى ما يعادل قوّة ربع قنبلة نووية. ويرتقي يوميا أكثر من 300 من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، كلّهم تقريبا من المدنيين العزّل. ويواصل جيش «الدولة الصهيونية» حربه العدوانية، التي تحوّلت إلى مجزرة مستمرة، يصفّق لها، بحثا عن الانتقام واستعادة الهيبة، الجمهور الإسرائيلي ونخبه السياسية والأمنية والثقافية والأكاديمية والاجتماعية، ويدعمها بحماس غير مسبوق ممثّلو «العالم المتحضّر»، تحت غطاء «الدفاع عن النفس»، المخادع والملتوي.
يأتي هذا الانفلات الإجرامي بعد أن تعرّضت إسرائيل إلى أكبر صدمة في تاريخها، هزّت بعمق الجيش والمجتمع والنخب ومكوّنات الدولة الصهيونية كافة من القاع إلى القمّة. الأحداث التاريخية صمّاء والبشر يمنحونها المعاني، وعليه فإن إدراك ووعي ما حدث لا يقل أهمية وتأثيرا عمّا حدث فعلا، وكل من يتابع حديث الساعة في إسرائيل يصل إلى استنتاج أن الجمهور الإسرائيلي بدأ يؤطّر ما حدث في السابع من أكتوبر، بأنه انكسار لهيبة الجيش والدولة، وتهاوٍ للردع، وانكشاف هشاشة «خط الدفاع الأوّل» المتمثل بعمل المخابرات، وانتشار الجيش وإقامة الجدار.
وتدل كل استطلاعات الرأي إلى أن الإسرائيليين فقدوا ثقتهم بالحكومة وبالجيش وبالمؤسسة الأمنية عموما، وبأنّهم يريدون انتقاما فوريا للضربة التي تلقّتها إسرائيل. وتتعرّض القيادة الأمنية والسياسية إلى ضغوط من الشارع للإسراع في العملية البرية للقضاء على حركة حماس، وتسيطر على وسائل الإعلام الإسرائيلية هستيريا عسكرية غير مسبوقة، تمجّد العنف والبطش، ولا يبدو أن مشاهد الرعب المقبلة من غزّة تؤثّر في الرأي العام في إسرائيل، بل بالعكس، فقد اختفت الادعاءات السابقة حول التفريق بين المحاربين والمدنيين.
شراكة أمريكية
يشير معظم، وليس كل، المحللين الإسرائيليين إلى أن الجيش أصبح جاهزا للاجتياح البري، وأنّه بانتظار قرار بايدن، الذي يطلب التريّث قبل أن يحسم الأمر. ويعود هذا الطلب اوّلا لمنح فرصة ومهلة للوساطة القطرية والمصرية لإطلاق سراح رهائن وأسرى، وثانيا لإتمام الاستعدادات لحماية الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة من هجمات حلفاء إيران، وثالثا لتمكين الجيش الأمريكي من تجهيز ما هو مطلوب للمشاركة في حرب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. وهناك من يضيف أيضا أن الإدارة الأمريكية لا تثق بقدرات الجيش الإسرائيلي، وتخشى ضعفه القتالي وعدم قدرته على حسم المعركة.
خلافات شديدة بين نتنياهو وقيادة الجيش، فهو يعلن أن العملية البرّية وشيكة وكاسحة، لكنّه في الكواليس يعبّر عن خيبة أمل عميقة من أداء الجيش والأجهزة الأمنية
كما تخشى الإدارة الأمريكية أن تؤدّي عملية برية واسعة إلى فتح جبهات كبرى جديدة، قد تورّطها في مواجهات عسكرية غير مرغوبة وقد تعرّض مصالحها الحيوية للخطر. منذ حرب 1967، تدعم الولايات المتحدة إسرائيل في كل حروبها وحملاتها العسكرية ضد الفلسطينيين والعرب عموما. وجرت ترجمة هذا الدعم إلى معونات مالية ضخمة وتزويد بأحدث الأسلحة الفتّاكة وغطاء سياسي لا يقدّر بثمن في المحافل الدولية. المتغيّر الدراماتيكي هذه المرّة أن الولايات المتحدة لا تكتفي بالدعم من الخارج، إذا صح التعبير، بل هي شريكة كاملة وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الحرب الإسرائيلية الحالية.
وقام الرئيس الأمريكي جو بايدن، بزيارة خاصة لإسرائيل عبّر فيها عن تأييده ودعمه لها، وتبنّى روايتها ومنح غطاء «حق الدفاع عن النفس» لها ولجرائمها. وما قوله بضرورة الالتزام بالقانون الدولي في الحرب، إلّا غطاء لجرائم الحرب، وكأنّ إسرائيل لم ترتكبها بعد. وفي إطار التورّط الأمريكي العميق في الحرب الإسرائيلية جرى توجيه حاملتين للطائرات وأسطول بحري عسكري ضخم إلى شرق المتوسّط، وكذلك دفع الجيش الأمريكي بفرقتين من القوّات الخاصة إلى إسرائيل والمنطقة، وانطلق قطار جوّي لتزويد الجيش الإسرائيلي بالأسلحة والذخائر وأعلن جو بايدن عن مساعدات تصل إلى 14 مليار دولار إضافية.
ويشارك ضبّاط أمريكيون كبار في التخطيط للعمليات العسكرية الإسرائيلية، وتساهم أجهزة المخابرات والاستشعار الأمريكية في ضخ المعلومات للجيش الإسرائيلي على مدار الساعة. لقد جرى تقسيم للمهام، بحيث تتولّى إسرائيل مسؤولية المواجهات العسكرية على حدودها المباشرة، وتقوم الولايات المتحدة بالتصدي للهجمات المقبلة من دول المحيط، وقامت بذلك فعلا بعد أن أسقطت سفنها الحربية للصواريخ والمسيّرات التي انطلقت من اليمن ولقسم من تلك التي انطلقت من سوريا والعراق. ويقوم الجيش الأمريكي بنصب بطاريات صواريخ مضادة للصواريخ في منطقة الخليج، تحسّبا من إمكانية ولو ضئيلة لدخول إيران في معمعان المعركة.
للولايات المتحدة حساباتها الاستراتيجية، وللإدارة اعتباراتها السياسية، ولجو بايدين فوق هذا كلّة نزعاته الشخصية، ولكن كل هذا يصب في الاتجاه نفسه، وهو تحالف إسرائيلي أمريكي، وربّما تحالف دول الغرب ضد الشعب الفلسطيني، ولو كانت التسمية الرسمية هي «ضد حماس». ومقولة «ضد الشعب الفلسطيني» ليس اعتباطية، بل هي محصّلة ما قاله قادة الغرب المتوافدين إلى إسرائيل بأنّ استعمال العنف هو امتياز حصري للدولة الصهيونية، التي «تدافع عن نفسها»، ولا يحق للمتضررين منه أن يدافعوا عن أنفسهم في مواجهته، والمسموح لهم فقط أن يتصرفوا بحسن سلوك ريثما يأتيهم الفرج.
لم نسمع من أحد من قادة «العالم الغربي المتحضّر» إدانة أو حتى انتقاد لاستهداف المدنيين الفلسطينيين، وقتل أكثر من ألفي طفل فلسطيني. وكم هو فظيع أن علينا أن نذكّرهم ونذكّر غيرهم بأن قتل الأطفال عموما هو أمر فظيع، ولكن قتل الطفل الفلسطيني هو أمر فظيع أيضا. كم هو مذهل أن مثل هذا الأمر بحاجة لشرح وإقناع لعالم يعتبر نفسه «متحضرا» وحساسا لحقوق الإنسان.
خلافات إسرائيلية
بعد صدمة السابع من أكتوبر، تشكّل في الدولة الصهيونية إجماع سياسي وأمني وإعلامي بضرورة الانتقام والبطش بحركة حماس وبأهالي غزّة عموما. وصار هناك اندفاع وتدافع في دعم وتبجيل الضربات الجوية الإجرامية على غزّة، ومن بين الآلاف من السياسيين والعسكريين والمثقفين والصحافيين والأدباء والفنانين، الذين ظهروا وتحدثوا في الإعلام الإسرائيلي، لم يخرج تقريبا أي صوت يعارض هذا القصف الجوي الوحشي. هناك أيضا شبه إجماع على ضرورة خوض معركة برّية لإتمام مهمة «تقويض حكم حماس».
لكن هناك خلافات شديدة بين نتنياهو وقيادة الجيش حول العملية البرية. هو يعلن في الملأ أن العملية البرّية وشيكة وكاسحة، لكنّه في الكواليس يعبّر عن خيبة أمل عميقة من أداء الجيش والأجهزة الأمنية، وهناك تسريبات بأنّه لم يعد يثق بقدرة القوات البرّية على حسم المعركة وتحقيق النصر وجلب صورة النصر. وعليه فهو متردد في خوض غمار المعركة البرية خشية الفشل، الذي سيقضي على حياته السياسية وعلى ميراثه التاريخي. لقد أرادت قيادة الجيش ومعها وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، توجيه ضربة استباقية في لبنان استنادا إلى ما اعتبر «فرصة استراتيجية» لاغتيال قيادة حزب الله، ولكن نتنياهو عارض ومنع ذلك.
وهذه القيادة العسكرية تريد الإسراع في العملية البريّة، ونتنياهو مرتبك وخائف، إلى درجة أن بعض من استمعوا إليه نعتوه بالجبان. هذا لا يعني أن نتنياهو «معتدل» عسكريا، بل هو حذر وقد يكتفي بمواصلة وبتصعيد القتل الجماعي من الجو، الذي ليس محفوفا بالمخاطرة بحياة الجنود.
يبدو أن نتنياهو يريد أن يبقى الباب مواربا لعدم القيام بحملة برية، والدليل أن أبواقه في الإعلام الإسرائيلي تردد بأنّها خطيرة وبأن الجيش غير جاهز وبأنّه يمكن حسم المعركة جوّا. كما عقد نتنياهو جلستين مع الجنرال احتياط بريك، الذي ينتقد بشدة قيادة الجيش ويتهمها بإهمال القوات البرية لحساب سلاح الجو والتكنولوجيا، ويعارض الاجتياح البرّي بسبب ضعف الجيش. وهنا يبدو أن أمام نتنياهو خيارين، الأوّل أن يسمح للجيش بالقيام بعملية برية، مع مراقبة شديدة أمريكية وإسرائيلية لمنع انزلاقه إلى فشل خطير، والثاني هو أن يمنع هذه العملية ويشن حملة على الجيش بأنّه غير مؤهّل وبأنه يتحمل مسؤولية ما حدث يوم السابع من أكتوبر، ليعفي نفسه من المسؤولية. وفي المقابل يدفع بسلاح الجو إلى رفع وتيرة القصف والدمار والقتل الجماعي.
المثير أنّه في مسألة الحذر والخوف من الفشل هناك توافق بين نتنياهو وبايدن، وهذا أمر مهم لأن القرار بيدهما والجيش الإسرائيلي بانتظار هذا القرار، كما يقول الناطقون باسمه، بشكل غير رسمي وحتى بشكل رسمي.
وعلى الرغم من كل المعيقات والتخوّفات، يبدو أن الجيش الإسرائيلي سيقوم بعملية أو عمليات برّية مدمّرة، ولكن حتى لو لم يفعل فهو سيواصل تنفيذ المجازر الجوية في غزّة إلى أن يردعه رادع. وهذا الرادع لن يأتي من فراغ إذا لم يكن هناك إنذار عربي واضح لإسرائيل لوقف هذه الحرب القذرة، والتهديد بقطع العلاقة معها، وإبلاغ الولايات المتحدة بأن مصالحها في المنطقة سوف تتضرر إن هي لم تلجم حليفتها إسرائيل.