هل من الممكن أن تكره اليهود وتحب إسرائيل في الوقت ذاته؟
الجواب: نعم، إذا كنت سياسيا انتهازيا تمارس شعبوية هابطة ثم تجد من يصدقك.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تبدع الأحزاب القومية في أوروبا في هذا الميدان. وقد وجدت يهودا، في إسرائيل وخارجها، اطمأنوا لها وصدَّقوا كذبها.
خلال الأسبوعين الماضيين وقف العالم على ثلاث حالات صارخة: الأرجنتين وهولندا وفرنسا.
في الأولى قال الرئيس المنتخب حديثا، خافير ميلي، إن حلمه الآن أن يصبح يهوديا، وأعلن أن زيارته الأولى خارج الأرجنتين ستكون إلى إسرائيل ليدشن نقل سفارتها إلى القدس.
في هولندا وقف الفائز الجديد بالانتخابات العامة، زعيم حزب الحرية المتطرف، غيرت فيلدرز، محتفلا بنتائج حزبه وفي الخلفية علم إسرائيل.
قبل الأرجنتين وهولندا، تابع العالم مشدوها وقوف مارين لوبان في الصفوف الأولى لمسيرة ما يسمى رفض معاداة السامية في باريس يوم 12 من الشهر الماضي، متقدمة على بعض عتاة اليهود والإسرائيليين. السؤال الذي يستحق الطرح هو هل كانت لوبان تتظاهر احتجاجا على معاداة السامية أم دعما لإسرائيل؟
تعاطف اليمين التقليدي في كل أوروبا مع إسرائيل ودعمه لها مطلق وقديم. الجديد في الأمر انتقال هذا التعاطف والدعم إلى اليمين القومي، الذي يعيش أبهى أيامه، مع جرعة قميئة من المزايدة والإفراط في التملق.
إلى سنوات قليلة مضت كان اليمين المتطرف في عموم أوروبا كارها لليهود وغير مبالٍ بإسرائيل. في دول أوروبية كبيرة مثل فرنسا كرر جون ماري لوبان، والد مارين، مرارا قناعته بأن المحرقة اليهودية مجرد «تفصيل بلا معنى في التاريخ» وشكَّك في أرقام ضحايا المحرقة فاستدعته المحاكم وأدانته عدة مرات، آخرها في نيسان (أبريل) 2016 (30 ألف يورو) وهو على مشارف التسعين من العمر.
قبل أسبوع من انتخابات الرئاسة الفرنسية في 2017 أنكرت ابنته ووريثته، مارين، وكانت مرشحة لتحقيق نتائج مظفرة في تلك الانتخابات، أي دور لفرنسا في تسليم الآلاف من مواطنيها اليهود إلى المحتشدات النازية، رغم أن الرئيسين شيراك وبعده هولاند أقرا بذلك واعتذرا عنه رسميا.
في 2008 عندما انتهت انتخابات النمسا بفوز القومي يورغ هايدر (ابن وحفيد عائلة من نازيي النمسا) بالانتخابات العامة ليصل إلى الحكومة، عبّرت الخارجية الإسرائيلية عن قلقها الشديد ووصفت الفوز بـ«التطور المقزز». (توفي هايدر في حادث سير غامض أُقنعت كل النمسا بأنه قضاء وقدر! ثم شنّت صحف نمساوية وألمانية حملة لتكريس أن هايدر كان مثليا، عانت زوجته في المحاكم لتُبعد عنه الشبهة. في كل أوروبا تحمي القوانين المثليين وتمنع معايرتهم إلا عندما وصل الأمر إلى هايدر).
ومن سخرية السياسة في ألمانيا أن حزب البديل، القومي المتطرف الذي يعزز مكاسبه السياسية والانتخابية باستمرار، يدعم إسرائيل بقوة رغم أفكاره العنصرية المتماهية مع النازية. ولا يبدو أن ذلك يثير فضولا أو استغرابا كبيرين.
اليوم عندما يفوز يميني متطرف من فصيلة لوبان وهايدر وفيلدرز، تعمُّ البهجة في إسرائيل. فما الذي تغيّر؟
تغيّرت أشياء كثيرة، لكن أهمها أن هذه الأحزاب القومية قررت شنّ حرب بلا هوادة على هجرة الملوَّنين إلى القارة الأوروبية، خصوصا المسلمين والعرب.
بالنسبة لإسرائيل وفئات من اليهود، لا مشكلة مع هاته الأحزاب العنصرية طالما أنها تعادي العرب والمسلمين، وتُصفّي القضية
الفلسطينية من أجنداتها السياسية المحلية والدولية.
إسرائيل تعتقد أن الأحزاب القومية في أوروبا هي الحائط الذي سيصد هجرة الملوَّنين إلى القارة، ومعهم (وهذا الأهم) معتقداتهم المتناقضة مع القيم الأوروبية ومنها معاداة السامية والتطرف الديني، كما تزعم إسرائيل والقوميون الأوروبيون.
في المقابل يعتقد قادة التيارات القومية الأوروبية أن إسرائيل هي الحائط الذي يصد الظلامية ومعاداة القيم الأوروبية (بمفهومهم) في الشرق الأوسط، إحدى أكثر مناطق العالم تصديرا للمهاجرين. ويعتقدون أن التقرّب من إسرائيل يكفّر قليلا عن جرائم آبائهم وأجدادهم.
سيحفظ التاريخ أن إسرائيل من أكثر دول العالم التي استثمرت في الهجمات الإرهابية التي نفذها مسلمون في دول أوروبية خلال العقدين الماضيين. وحرَّضت السياسيين الأوروبيين، في السر والعلن، على المسلمين من باب أنها تعرفهم أكثر من غيرها بحكم الجوار والاحتكاك اليومي.
وقد رفع جنوح إسرائيل، سياسةً ومجتمعا، نحو اليمين القومي الديني الحرج والعبء المعنوي عن اليمين المتطرف الأوروبي. تماهى اليمينان فوجد كل واحد مصلحته في الآخر.
هناك تطور آخر يجب أخذه بعين الاعتبار، وهو أن اليمين القومي أصبح أمرا واقعا في أوروبا، كتيار فكري واجتماعي، وتنظيمات حزبية تسعى للوصول إلى الحكم ووصلت. لم يبق هذا اليمين حكرا على دول بعينها، بل تحوّل إلى كتل سياسية قارية تنسق جهودها وعنصريتها (تشكل الأحزاب القومية في البرلمان الأوروبي كتلة تسمى «الهوية والديمقراطية» تعدادها 73 عضوا، أي نحو 10٪ من مجموع المقاعد مقارنة بـ5٪ في الفترة البرلمانية السابقة).
اظهار أخبار متعلقة
عندما أدركت إسرائيل هذا الأمر، عملت بطريقتها على ترويض هذا اليمين وجلب ممثليه إلى صفها. وقد أثمر جهدها ما نراه اليوم من تعاطف هذه التيارات معها عبر كل أوروبا ليصل إلى بيونيس أيريس.
لكن المشكلة أن تنامي اليمين المتطرف في أوروبا واستثمار إسرائيل فيه، لم يثمر النتائج المأمولة بعد وقد لا يثمر. ففي مقابل الانتشار الواسع لليمين القومي وجنوحه للغلو والعنف، يصل مهاجرون ملوَّنون إلى أوروبا بالآلاف يوميا، ويتكاثرون بلا توقف، ويتغلغل رموز منهم في دواليب السياسة والعمل الاجتماعي والثقافي بشكل ملحوظ. وما انتفاضة الشارع الأوروبي والأمريكي ضد الحرب الحالية على غزة إلا نتيجة لهذا التغلغل المؤثر.
بدل أن تثمر إيجابا، يبدو أن قصة الحب بين إسرائيل واليمين القومي قد تضع يهود أوروبا في مشكلة بتحالفها مع أشخاص لا شيء يثبت أنهم تابوا عن كراهيتهم المَـرَضية لكل شيء عدا أنفسهم.
(
القدس العربي)