إن بشاعة المجازر ووحشية الإبادة التي
تحدث في
غزة جريمة لا مثيل لها في التاريخ المعاصر من جهة صغر المساحة المستهدَفة
وكثافتها السكانية ووضعها التاريخي مقابل ضخامة جيش
الاحتلال وآلته العسكرية
والتكنولوجية وأذرعه الدولية من مرتزقة وعتاد وتحالفات على رأسها حلف النيتو.
تشهد غزة منذ قرابة شهرين ونصف إبادة
جماعية بالمعنى الحرفي لكلمة الإبادة أي أن الصواريخ والقنابل والمدفعية تستهدف
ليلا نهار المنازل والمجمعات السكنية والمستشفيات والمدارس دون رحمة. يحدث هذا في
قطعة أرض كثيفة السكان محاصرة برا وبحرا وجوا لا يدخلها ماء أو دواء أو غذاء
وتُحكم الدول العربية المحيطة بها حصارها وخنقها من جهة مصر والأردن ولبنان.
عربيا لا يمكن الحديث عن مؤسسات قادرة
على إنقاذ غزة لأن أنظمة عربية كبرى متورطة في الجريمة من ناحية ولأن جامعة الدول
الناطق الرسمي باسم النظام الاقليمي ليست إلا صدى لمنطق الاستبداد المشارك في
الجريمة.
بقيت إذن المنظمات الدولية وعلى رأسها
الأمم المتحدة التي تعدّ منطقيا المرجع الوحيد للنظر في الصراعات والحروب والبحث
في طرق إيقافها ولو على المستوى النظري على الأقل.
إن انعدام التكافؤ بين القوتين
المتواجهتين داخليا وخارجيا يطرح مسؤولية المجتمع الدولي والقانون الدولي الذي تمت
المصادقة عليه بعد الحرب الأوروبية الثانية ممثلا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن
بما هو الشرطي العالمي المكلف بفض النزاعات.
فلسطين قضيةً دوليةً
تاريخ القضية الفلسطينية في أروقة
الأمم المتحدة يكفي لوحده دليلا فاقعا لإدانة المنظمة الدولية واتهامها دون مبالغة
أو تجن بكونها كانت طوال عقود من الزمن شريكا صامتا في مأساة شعب فلسطين.
عشرات القرارات الصادرة عن المنظمة
الدولية ضربت بها دولة الاحتلال عرض الحائط سواء تلك الصادرة عن
مجلس الأمن أو عن
الجمعية العامة للأمم المتحدة أو حتى قرارات منظمة التربية والثقافة والعلوم
(اليونسكو). فمنذ القرار الأممي عدد 181 الصادر في نوفمبر 1947 والقاضي بتدويل
القدس العاصمة المقدسة لدولة فلسطين لم تتوقف القرارات الدولية المُدينة للاحتلال
وللتهويد والاستيطان والحرب الوحشية.
المعضلة الأكبر إنما تتمثل في ما عاناه العرب والمسلمون تحديدا من هذه المنظمة الدولية التي لم تنصر يوما قضاياهم رغم عدالتها ورغم كونهم ضحايا توحش المنظومة الدولية نفسها. وهو الأمر الذي رسّخ في الوعي العربي يقينا ثابتا بأن المنظومات الدولية بكل أدبياتها ليست غير الوجه الناعم للمحتلين والغزاة ومجرمي الحرب.
لكن كل هذه القرارات كانت تصطدم
بعقبتين أساسيتين : أما الأولى فتتمثل في أنها قرارات غير مُلزمة ولا تتعدى قيمتها
الرمزية وأما العقبة الثانية فقد صنعها نظام التصويت داخل مجلس الأمن والمتمثل في
حق النقض الذي تتمتع به الدول الكبرى. فقد نجحت الولايات المتحدة التي تشارك بقوة
في مجزرة غزة اليوم في إسقاط كل القرارات الدولية ضد الاحتلال عبر استعمال حق
النقض الجائر.
هذه الوضعية الدولية هي التي سمحت
لدولة الاحتلال بالمضي قدما في سياسة التهويد وبناء آلاف المستوطنات وتهجير
الفلسطينيين وارتكاب المذابح والمجازر. لقد شكّل هذا الوضع الدولي غطاء قانونيا
لدولة الاحتلال التي أدركت باكرا أن النظام الدولي الذي تسيطر عليه الولايات
المتحدة والمعسكر الغربي يقف إلى جانبها في مشروعها الاستعماري وفي حرب الإبادة
التي ترتكبها في حق شعب فلسطين.
لم يقتصر استعمال الولايات المتحدة لحق
النقض على منع تطبيق القرارات والعقوبات على الكيان المحتل بل تجاوزت ذلك إلى
تعطيل كل القرارات القاضية برفع الحصار عن غزة أو إيقاف المجازر أو حتى إدخال
الماء والغذاء والدواء. هكذا لم يعد الموقف الأمريكي المسيطر على القرار الدولي
داعما للاحتلال فقط بل صار مشاركا فعليا مباشرا في الإبادة التي يرتكبها في حق
المدنيين هناك.
تحت هذا الغطاء الدولي ارتكبت عصابات
المحتل عشرات الجرائم في حق القرى الفلسطينية حتى قبل 1948 وهي السنة التي ستدشن
تاريخا من المذابح بدءا بمذبحة دير ياسين ومذبحة الطنطورة ومذبحة قرية أبو شوشة
وصولا إلى مجزرة غزة اليوم مرورا بمجزرة صبرا وشاتيلا التاريخية.ط
أكثر هذه المجازر والجرائم ضد
الانسانية موثقة بالصوت والصورة ومدعمّة باعترافات مرتكبيها من ضباط يهود أقروا
بأنهم كانوا يدخلون القرى لارتكاب أفظع الجرائم من أجل إرهاب سكان باقي القرى
الأخرى وإجبارهم على الفرار والنجاة بأنفسهم وعائلاتهم.
هكذا لم يبدأ الصراع مع الكيان
الصهيوني وعصابات القتل الذي تكوّن مجتمعه البارحة مع تاريخ 7 أكتوبر بل إن جذور
الصراع الحقيقة تعود إلى لحظة تأسيس أول مستوطنة صهيونية على أرض فلسطينية مغتصبة
وعلى جماجم أهلها.
القانون الدولي ومنطق الغاب
في مؤتمر القمة العالمي للأمم المتحدة
سنة 2005 أيدت كل دول المنظمة التزاما سياسيا لمنع جرائم الإبادة الجماعية
والتطهير العرقي والجرائم ضد الانسانية وسمي القانون "مبدأ مسؤولية
الحماية".
يتأسس هذا المبدأ على الإقرار بأنه من
مسؤولية المجتمع الدولي وتحديدا مجلس الأمن استخدام التدابير اللازمة والتي تشمل
الإنذار المبكر والعقوبات الاقتصادية وكل التدابير التي أقرها الفصل السابع من
ميثاق الأمم المتحدة من أجل حماية المدنيين في حلات الحروب والكوارث الطبيعية
والجرائم ضد الانسانية.
ليست غزة وحدها ولا فلسطين ضحية جديدة من ضحايا قانون الغاب الدولي فقد سبقها ضحايا كثر من فيتنام إلى العراق إلى الشيشان مرورا بالبوسنة وروندا وغيرها من الدول والشعوب التي دُمّرت بسبب تواطؤ المجتمع الدولي.
كما تنص المادتان 41 و42 وكذلك المواد
44 إلى 51 على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة بما فيها العسكرية وقطع العلاقات
الدبلوماسية ضد الدول والكيانات التي تكون سببا في هذا النوع من الجرائم وهو الأمر
الذي ينطبق حرفيا على ما ترتكبه العصابات الصهيونية اليوم في غزة.
لكن لا شيء من هذه القرارات والمبادئ
والمواثيق والنصوص البراقة يجد طريقه إلى التطبيق إلا إذا كان ذلك في صالح القوى
المهيمنة على القرار الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة. بل إن جرائم كبيرة حدثت
ضد قرارات مجلس الأمن مثل حرب العراق التي ارتكبت فيها القوات الأمريكية
والأوروبية جرائم حرب تتجاوز الوصف ودمّرت بلدا مركزيا في المشرق العربي لا يزال
يعاني من آثارها الكارثية إلى اليوم.
ليست غزة وحدها ولا فلسطين ضحية جديدة
من ضحايا قانون الغاب الدولي فقد سبقها ضحايا كثر من فيتنام إلى العراق إلى
الشيشان مرورا بالبوسنة وروندا وغيرها من الدول والشعوب التي دُمّرت بسبب تواطؤ
المجتمع الدولي.
المعضلة الأكبر إنما تتمثل في ما عاناه
العرب والمسلمون تحديدا من هذه المنظمة الدولية التي لم تنصر يوما قضاياهم رغم
عدالتها ورغم كونهم ضحايا توحش المنظومة الدولية نفسها. وهو الأمر الذي رسّخ في
الوعي العربي يقينا ثابتا بأن المنظومات الدولية بكل أدبياتها ليست غير الوجه
الناعم للمحتلين والغزاة ومجرمي الحرب.
مرّة أخرى تكشف مجازر غزة عن ترابط
وثيق بين المشاريع الاستعمارية العالمية والمنظومات الدولية المكلّفة بمحاربة هذه
المشاريع. إن الوعي بهذا الارتباط الوثيق هو الذي سيساهم في رفع الموجات
الارتدادية الناجمة عن معجزة طوفان الأقصى الأخيرة بفضل ما كشفته من حقائق وقناعات
وما عرته من أوهام وأكاذيب. هذه الموجات هي ستشكل الأسس التي سيقوم عليها فكر
الأجيال القادمة الداعم للمقاومة وعيا بتوحش الاحتلال وتواطؤ النظام العالمي وبأن
منطق الغاب وقانون الأقوى هو الذي يحدد مصير الأمم والشعوب ولا شيء غيره.