من هم «
الحريديم»؟ «الحريديم»، لغة، هم المتقون، أو الأتقياء، الذين يخشون ربهم؛ وهم، اصطلاحا، تيار دينى، يتمسك بأصول الدين، وبالتفسير الحرفى للنص الدينى، وبتطبيق الشريعة اليهودية، وبالحرص الشديد على أداء الفروض الدينية، وبالحفاظ على نمط حياة خاص، شبه منعزل عن المجتمع، وبأهمية الكيان الأسرى، وبالفصل بين الجنسين فى كل المجالات: فى المواصلات العامة، وفى التعليم، وفى المناسبات العامة كالأفراح، وبالتزام الحشمة فى الملبس؛ وهم يشكلون ما نسبته 13% من السكان داخل إسرائيل (نحو مليون و800 ألف نسمة، حسب إحصاء 2022م)، وما نسبته 18% من عموم يهود العالم، أى إنهم تيار مؤثر، بل إن قوة تأثيرهم تتجاوز نسبتهم العددية، بفضل تمسكهم بما يؤمنون به. ترجع نشأة هذا التيار إلى القرن التاسع عشر فى أوروبا الشرقية، خاصة، بعد ظهور التيارات الحداثية، والتنويرية، التى دفعت عددا من اليهود إلى الخروج من العزلة الثقافية ــ عزلة التعليم الدينى اليهودى ــ والمكانية ــ التقوقع بداخل الجيتوهات ــ والاندماج فى المجتمعات الأوروبية؛ أى إن هذا التيار نشأ كرد فعل على عمليات اندماج اليهود فى أوروبا، وما استتبعها من إمكانية ضياع الهوية الدينية اليهودية، من جانب بعض الغيورين على الدين اليهودى، وعلى رأسهم الحاخام، موشيه سوفير (1762 ــ 1839م)، صاحب المقولة الشهيرة: «كل جديد محرم طبقا للتوراة»، التى تقابل المقولة الشهيرة فى المأثور العربى: «كل بدعة ضلالة».
موقفهم من الصهيونية، ومن دولة إسرائيل، ومن التجند فى
الجيش
عارض قسم كبير من زعماء «الحريديم» الحركة الصهيونية منذ بدايتها، بسبب خشيتهم من الرؤية العلمانية التى استند إليها زعماء الحركة الصهيونية؛ فيما عارضها البعض الآخر، لسبب دينى، يرى أنها محاولة للتعجيل بـ«الخلاص» («الخلاص» ركن من أركان العقيدة اليهودية، بحسب العلامة موسى بن ميمون، ويجب أن يتحقق بمشيئة إلهية، وليس من خلال فعل بشرى، كما رأت الحركة الصهيونية). وبعد إقامة دولة إسرائيل عام 1948م تخلت بعض طوائف هذا التيار (يضم التيار طوائف عديدة حسب بلد المنشأ فى أوروبا) عن معارضتها للفكرة الصهيونية، وشاركت حتى فى الحياة السياسية، وفى التجند بالجيش ولو جزئيا، فيما استمر بعضها فى معارضة وجود الدولة حتى اليوم مثل طائفة «ساتمار» و«الطائفة الحريدية». لا يخدم السواد الأعظم من الرجال «الحريديم» فى الجيش الإسرائيلى ــ لا تخدم المرأة إذا أثبتت أنها متدينة، طبقا لاتفاق يسمى: «توراته حرفته»، وقع مع دافيد بن جوريون، أول رئيس حكومة إسرائيلية، بعد قيام دولة إسرائيل، تؤجل بمقتضاه الخدمة العسكرية لطلاب المعاهد الدينية اليهودية، وغالبا ما يمتد التأجيل حتى انتهاء السن الافتراضية للتجنيد؛ ويبرر «الحريديم» عدم تجندهم ببضعة مبررات منها: حرصهم على «الحشمة» وتخوفهم من الاختلاط بين الجنسين، ومن الأكل غير المطابق للشريعة، والأهم من كل ما سبق أنهم يرون أن طلاب العلم الدينى يمثلون «سلاحا روحيا» يقى بنى إسرائيل من الأعداء، لا يقل أهمية عن السلاح المادى. استمر هذا الوضع حتى نهاية التسعينيات من القرن الماضى، ومع ازدياد عدد الشبان «الحريديم» فى كل دفعة من دفعات التجنيد، استحدث الجيش أطرا عسكرية تتناسب مع نمط حياتهم منها، ما يسمى بـ«نحل حريدى» ــ فتية حريديون مقاتلون ــ الذى تحول، لاحقا، إلى كتيبة مشاة تحت مسمى دينى: «نصير يهودا» (بمعنى: رب إسرائيل نصير مملكة يهودا)، ومنها إطار الخدمة العسكرية المهنية فى أسلحة الجو، والبحر، والبر والجبهة الداخلية؛ وفى منتصف 2011م استحدث مسار لخدمتهم العسكرية ضمن الشرطة الإسرائيلية. لا يوجد فى كل هذه الأطر اختلاط بين الجنسين، مع مراعاة الاحتياجات الدينية المختلفة، مثل: مطابقة الطعام المقدم للشريعة اليهودية، ومواقيت الصلاة، واحترام قدسية يوم السبت. وبحسب إحصاءات عام 2019م تجند فى الجيش 1220 شابا «حريديا» من إجمالى 62500 فى سن التجنيد يؤجلون الخدمة من عام لآخر طبقا للبند: «توراته حرفته». ويجب التنويه إلى أن «الحريديم» لا يمثلون التيارات الدينية جميع فى المجتمع الإسرائيلى، وأن هناك تيارات أخرى من المتدينين، من أبرزها، على سبيل المثال، التيار الدينى القومى، وتيار المتدينين المتمسكين بالتراث وبالتقاليد اليهودية، اللذين يؤدى أبناؤهما الخدمة العسكرية شأنهم شأن غير المتدينين، ويخدمون فى كل الأسلحة، ويتبوأ بعضهم مناصب رفيعة بالجيش؛ وهما تياران عريضان ومؤثران، ومتداخلان فى الحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وفى مجالات العمل، وغير منعزلين عن الجماعة الإسرائيلية.
اتجاه جديد؟
مع اندلاع حرب «طوفان الأقصى» ــ «السيوف الحديدية» طبقا للتسمية الإسرائيلية ــ طرأ تغير نسبى فى نظرة «الحريديم» إلى الخدمة العسكرية، وإلى عموم المجتمع الإسرائيلى؛ فقد أظهر استطلاع للرأى أجرته شركة «أسكريا» لاستطلاعات الرأى لحساب المعهد «الحريدى» لبحوث السياسات أن 73% من «الحريديم» يشيرون إلى تعاظم الشعور بوحدة المصير مع المجتمع الإسرائيلى فى أعقاب الحرب، وأن 51% منهم لا يتفقون مع مقولة أن «الحريديم» يجب أن يحصلوا على إعفاء من التجنيد بشكل جارف، مع ارتفاع بنسبة نحو 20% لتأييد انخراطهم فى الجيش والمؤسسة الأمنية. وتطوع مئات منهم من أجل أداء الخدمة فى الجبهة الداخلية، وقدم آخرون مبادرات من أجل الجنود وقوات الأمن، من قبيل إرسال عشرات الآلاف من الوجبات الساخنة، وعيادة الجنود الجرحى، ومساعدة المزارعين فى غلاف غزة بعد أن ترك العمال الأجانب إسرائيل عقب الحرب. بل إن أحد الطلاب قال: «أسمع طلابا يسألون أنفسهم لماذا لا نكون جزءا من الجبهة العسكرية». ربما تفضى هذه التساؤلات، لاحقا، إلى سلوك عام مختلف فى هذه المسألة، لكن الأرجح، أن ما قد يبدو «اتجاها» جديدا، لا يعدو كونه هبة عاطفية، اقتضتها ضراوة الحدث، فضلا عن أن أحدا من شباب وطلاب «الحريديم» لا يقوى على شق عصا الطاعة على الحاخامات ومديرى المعاهد الدينية، الذين يتمتعون بسلطة طاغية، تجعل من المستحيل التمرد عليهم.
وقد أزعجت هذه «الفورة» الشبابية، إذا جاز التعبير، كثيرا من حاخامات التيار «الحريدى»، لكونها تتجاوز مرجعيتهم، وتسحب البساط من تحت أقدامهم، من بينهم الحاخام، دوف لانداو، الذى نشر فى الجريدة الدينية، «ياتيد نئمان»، رسالة دعا فيها «الحريديم» إلى التمسك بكتاب الله، وإلى عدم الانسياق خلف أشياء «تغرى القلوب الضعيفة، وتوهم بأن خلاصنا فيها... دعوكم من الهنات والأفكار والأوهام وعودوا إلى الرب فى التوراة، وإلى تعلمها والعمل بها»، ومنهم الحاخام، بنيامين فينكل، الذى قال لتلاميذه: «هناك للأسف من يرون أن اليهود يعانون، فيقولون فى أنفسهم ما الذى أفعله هنا (أى فى المعهد الدينى)، هيا نساعدهم... يا له من خطأ فادح. أنت (طالب العلم الدينى) المنقذ الكبير! أنت المنقذ من الناحية الروحية والمادية! أنت تجلس وتدرس التوراة، تشتغل بالتوراة! هذا هو الإنقاذ الكبير. إذا تعالوا ندرس التوراة المقدسة»، ومنهم الحاخام، حاييم فينشتاين، الذى انتقد مبادرة قيام طلاب المعهد الدينى، الذى يترأسه، بصنع وربط ما يسمى بالعبرية:
«تسيسيوت» ـ أى أهداب/ شراشيب فى الزوايا الأربع للثوب، وهى فريضة دينية توراتية ــ من أجل الجنود على الجبهة، قائلا: «يجب أن تتفرغ المعاهد الدينية المقدسة للتوراة فقط... وليس حتى للفروض الدينية، ولا لأعمال البر، ولا للحراسة، ولا لربط الـ«تسيسيوت»/ الأهداب، ولا لأى شىء آخر».
ذهب بعض الحاخامات من «الحريديم» مدى أبعد، حين استشعروا أن طلاب المعاهد الدينية يقارنون بين ما يقومون به على مقاعد الدراسة وما يقوم به الجنود فى ميدان الحرب، فراحوا يقللون من أهمية الحرب، ومنهم الحاخام، يعقوف كرف، الذى قال لطلابه إن «المعركة الحقيقية فى بيت همدراش (المعهد الدينى)، ويجب أن نعرف أن ما يقوله الصهاينة من أنهم سيفعلون كذا وكذا لا قيمة له، وأن الخيل والعربات (عدة الحرب) لا طائل منهما على الإطلاق، وإنما ما ندرسه باسم إلهنا».
فيما رأى الحاخام، دافيد كوهين، رئيس المعهد الدينى اليهودى بالخليل، أن جزءا من العمليات العسكرية فى غزة هدفه المصالح الشخصية والعلاقات العامة: «جزء من كل العمليات العسكرية المختلفة والغريبة علاقات عامة، بعضها فيه فائدة ما، لكن هذا لن يجعل عموم بنى إسرائيل يصمدون فى هذا الوضع الصعب ويصلون إلى وضع لا ينتصر فيه أعداؤنا علينا. بفضل قوة التوراة فقط ينجو بنو إسرائيل كافة»؛ أما الحاخام، يسرائيل بونم شرايبر، فقد سخر من موجة التعاطف بين أوساط «الحريديم» مع جنود الجيش ومع السكان الذين جرى إخلاؤهم من جنوب وشمال إسرائيل، وشبه ما جرى فى السابع من أكتوبر بأحداث مماثلة سابقة تعرض لها اليهود. وحين سئل ما إذا كان يتعين الامتنان للجنود الذين يدافعون عن إسرائيل قال شرايبر: «هل يتعين على أن أشعر بالامتنان لأولئك الذين يجمعون القمامة كل صباح؟»، وحين سئل عن مشاعر التعاطف التى انتابت شباب «الحريديم» تجاه المصابين فى الحرب قال شرايبر: «هل تنتابك مشاعر كهذه عندما يقتل أحد فى حادثة طرق؟ لا. فلم إذا ينتابك فجأة شعور بالتعاطف هنا؟ هل لأن من فعل هذا عربى؟».
على الجانب الآخر هناك بعض الحاخامات لهم رأى مختلف عن الآراء السابقة، وهو ما يكشف عن خلافات داخل هذا التيار، حيث يرى نفر منهم أن العمل العسكرى لا يقل أهمية عن دراسة التوراة، ومنهم الحاخام، حاييم ميئير، الذى يرى أن التوراة والسيف ــ «سافرا فى سيافا»، أى السيف والقلم كما فى التعبير العبرى ــ وجهان لعملة واحدة، يكمل بعضهما بعضا، مستشهدا فى ذلك بما ورد فى «الجمارا» ــ شروح التلمود: «لولا داود لما شن يوآف حربا، ولولا يوآف لما عكف داود على دراسة التوراة»، ويوآف، هو قائد جيش داود، وصانع «فتوحاته» كما ورد فى سفر صموئيل. وثمة حاخامات آخرون آثروا التزام الصمت وعدم التعبير عن وجهة نظرهم فى المسألة منذ اندلاع الحرب وحتى الآن، واكتفوا بالدعاء من أجل سلامة المجتمع الإسرائيلى. والخلاصة أن التيار «الحريدى» لا يمثل كل المتدينين فى المجتمع الإسرائيلى، وأن السواد الأعظم من زعمائه، من كبار الحاخامات ورؤساء المؤسسات التعليمية الدينية، لا يزالون متمسكين بثوابت هذا التيار، وأبرزها اعتزال المجتمع، وجعل دراسة العلم الدينى جل اهتمامهم، رغم «الفورات» الشبابية، ورغم وجود أصوات أخرى مختلفة.
(الشروق المصرية)