غداة عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي،
أعلنت إسرائيل أنها ستشن حربا واسعة في قطاع
غزة من أجل تحقيق هدف واحد هو القضاء
على حركة "حماس" والمقاومة نهائيا، وخلق واضع جغرافي ـ عسكري جديد يختلف
تماما عن الواقع الجغرافي ـ العسكري الذي نشأ منذ عام 2006 في القطاع.
غير أن الهدف الإسرائيلي هذا بقي هو ذاته في أجندة الحكومة
الإسرائيلية على الرغم من فشل الآلة العسكرية الإسرائيلية في القضاء على
"حماس" والمقاومة بعد ثمانين يوما من القتال، الأمر الذي يطرح تساؤلا
رئيسا حول المفهوم أو التعريف الإسرائيلي للقضاء على حركة "حماس"، أي ما
هي المعايير الناظمة التي يمكن الاتفاق عليها حول مسألة ما المقصود من مقولة تدمير
"حماس".
غير أن صمود المقاومة وقدرتها على تكبيد
الاحتلال خسائر بشرية، فرض
على صناع القرار في إسرائيل تغيير وجهة نظرهم لمسار الحرب وأهدافها، فبدأت تُطرح
مسألة منع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، كآلية ضغط إسرائيلية ثانية إلى
جانب الحرب، ثم ما لبث الإسرائيلي أن طرح مسألة إجراء صفقة حول تبادل الأسرى
رفضتها حماس إن لم تؤد إلى وقف كامل للنار.
تشير المعطيات القائمة منذ نحو ثلاثة أشهر ليس إلى فشل إسرائيل في القضاء على "حماس" والمقاومة الفلسطينية فحسب، بل إن إسرائيل لا تمتلك مسارا زمنيا لتحقيق هذا الهدف
ومع تغير المزاج الدولي الداعم لإسرائيل نتيجة المجازر البشرية التي
ارتكبها الاحتلال في غزة، بدأت عملية ضغط أممية على إسرائيل ـ شملت الولايات
المتحدة أيضا ـ من أجل تخفيف حدة القتل والتدمير ضد المدنيين، أي تغيير استراتيجية
الحرب من التدمير الشامل لقطاع غزة إلى تدمير المقاومة
الفلسطينية فقط.
تكمن أهمية هذا التحول في المزاج الدولي في أن مسار وقف القتال قد
بدأ وإن كان بطيئا، ما يضع الاحتلال أمام سقف زمني ـ لا يزال غير معلوم إلى الآن ـ
لتحقيق هدفه.
هنا، تجد إسرائيل نفسها في مأزق استراتيجي، فهي من جهة لم تعد قادرة
على عمليات عسكرية واسعة المدى جغرافيا، ليس بسبب الضغط الدولي فحسب، بل أيضا بسبب
التكلفة البشرية والاقتصادية للحرب، ومن جهة أخرى، هي غير قادرة على توجيه ضربة
قاسمة للمقاومة تجبرها على الاستسلام وإعلان فوز إسرائيل.
وأمام هذا الوضع، بدأ الحديث داخل إسرائيل عما سمي بالمرحلة الثالثة
من الحرب، وهي مرحلة تعني الانتقال من مناورة برية واسعة إلى معركة أكثر تركيزا،
أي هجمات متوالية ضد أهداف المقاومة تتضمن اقتحامات مركزة وقصيرة لمراكز ثقل
المقاومة وقيادتها، شبيه بما جرى ويجري في الضفة الغربية، مع إضافة وجود قوة نارية
جوية في القطاع.
ستستفيد إسرائيل من الخبرة الأميركية في العراق وسورية، وهو ما يبدو
أنه تم الاتفاق عليه بين الجانبين مؤخرا، بحيث تكون المعركة المقبلة مركزة من الجو
مع اقتحامات صغيرة النطاق ومحددة الأهداف.
تتطلب هذه المرحلة، عملية فصل جغرافي بين مستوطنات غلاف غزة والمنطقة
الحدودية من غزة القريبة من المستوطنات، كما تتطلب أيضا تحييد الأنفاق في محور
فيلادلفيا القريب من الحدود المصرية، بحيث تنحصر المقاومة في البر الداخلي للقطاع.
إن صمود المقاومة الفلسطينية جعل من الأهداف الإسرائيلية لحربها في غزة أهدافا فضفاضة ومائعة لا يمكن تحديدها ولا تحقيقها، وإذا ما استمر الوضح القائم على حاله، فإن إسرائيل ستجد نفسها مضطرة إلى التفاوض على وقف إطلاق النار من دون شروط.
لكن هذه المرحلة ـ طويلة الأمد بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية ـ
ستمنح المقاومة بالمقابل فرصة للتنفس وإعادة ترميم صفوفها، وهذا أمر سينعكس سلبا
على الجيش الإسرائيلي، فإذا كانت المقاومة قد نجحت في تكبيد قوات الاحتلال خسائر
بشرية في ذروة العنف الإسرائيلي، فكيف سيكون الحال مع تخفيف حدة القصف وتقليص
المساحات الجغرافية؟
بمعنى آخر، جرت عمليات الإنزال الأمريكية في العراق وسوريا في مساحات
جغرافية واسعة، إذ تتوزع الأهداف البشرية المُراد اغتيالها في بقع جغرافية مبعثرة،
ما سهل على الأمريكيين تنفيذ العمليات الإنزال الجوية، وهو أمر مختلف تماما في
غزة، حيث الكثافة السكانية عالية جدا، والمقاومة لها حاضنة شعبية قوية، بما يصعب
من تنفيذ مثل هذه العمليات.
بناء على ما تقدم يعاد طرح السؤال الرئيس، ماذا يعني القضاء على حركة
"حماس"؟
تشير المعطيات القائمة منذ نحو ثلاثة أشهر ليس إلى فشل إسرائيل في
القضاء على "حماس" والمقاومة الفلسطينية فحسب، بل إن إسرائيل لا تمتلك
مسارا زمنيا لتحقيق هذا الهدف، وهو السبب في أنها بدأت منذ فترة تطرح مسألة إجراء
صفقة حول الرهائن بما يخفف من الاستياء الشعبي في إسرائيل ويخفف أيضا من الضغط
الدولي، وفي أنها بدأت تطرح مؤخرا مسألة التفاوض مع السلطة الفلسطينية لكي تكون
جزءا من الترتيبات المستقبلية لقطاع غزة، بعدما رفض نتنياهو لمدة شهرين متواصلين
فكرة إدخال السلطة الفلسطينية في مستقبل قطاع غزة.
ما تزال حركة "حماس" إلى الآن تطلق الصواريخ تجاه العمق
الإسرائيل على الرغم من القدرات التكنولوجية الإسرائيلية المتطورة والدعم اللوجستي
الاستخباراتي المدعوم بالأقمار الصناعية الأميركية، وما تزال قادرة على قتل وإصابة
جنود إسرائيليين.
كما لا تزال الحركة قادرة على إدارة معركتها سياسيا وإعلاميا،
والتفاوض مع مصر وغيرها من أجل إدخال المساعدات والتفاوض حول شروط وقف إطلاق النار
وصفقة إطلاق الأسرى.
إن صمود المقاومة الفلسطينية جعل من الأهداف الإسرائيلية لحربها في
غزة أهدافا فضفاضة ومائعة لا يمكن تحديدها ولا تحقيقها، وإذا ما استمر الوضح
القائم على حاله، فإن إسرائيل ستجد نفسها مضطرة إلى التفاوض على وقف إطلاق النار
من دون شروط.