استعرض موقع "
المجلس الروسي
للشؤون الدولية" في مقال رأي لمديره العام إيفان تيموفيف، بعض
التوقعات لسنة 2024.
وقال الكاتب، في مقاله الذي ترجمته
"عربي21"، إن العالم ودّع الأفكار المثالية حول العولمة التي سادت في
أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بشأن انتهاء
التناقضات السياسية الكبرى بين القوى. على العكس من ذلك، فإن الوضع بدأ يتغيّر وعادت
العلاقات الدوليّة إلى مسارها المعتاد بين المنافسة وصراع المصالح بما في ذلك
المصالح الوطنية. وفي الوقت الراهن، أصبحت العولمة بالشكل الذي كانت عليه قبل
عشرين عامًا غير مقبولة بالنسبة للعديد من الأطراف.
في ما يتعلق بروسيا التي تخوض
صراعًا شديدًا مع الغرب انجر عنه فرض عقوبات وقيود تصدير، فإنه بات من الواضح لها أنه
يمكن للاعتماد المتبادل على الغرب أن ينقلب في أي لحظة ضدها، وتؤثّر السياسة مرة
أخرى على الاقتصاد، الأمر الذي يستدعي تنويع العلاقات التجاريّة.
وأشار الكاتب إلى أن العلاقات بين
الصين والولايات المتحدة لا تزال قائمة على مستوى عالٍ من الاعتماد الاقتصادي
المتبادل. ونظرًا لتزايد المنافسة السياسية يعمل الصينيون بنشاط على تطوير
تقنيّاتهم وصناعاتهم الخاصة، لا سيما في ظل استهداف الولايات المتحدة قطاع
التكنولوجيا الصيني عن طريق فرض عدد من العقوبات.
من جانبها، أدركت الولايات المتحدة
أن تسييس العلاقات الاقتصادية قد يلحق بها ضررا، وهو ما أثبتته التجارب السابقة،
حين هددت الصين الولايات المتحدة بفرض قيود على توريد المعادن النادرة إلى الخارج،
وهي خطوة من شأنها التأثير بشكل خطير على عدد من القطاعات الصناعية، بما في ذلك
قطاعات التكنولوجيا المتقدمة. لهذا السبب، يولي الأمريكيون في الوقت الراهن
اهتمامًا كبيرًا بإعادة إنشاء صناعة الإلكترونيات الخاصة بهم ليس فقط من حيث
اكتساب المعرفة وإنما أيضًا من حيث تكوين دورة إنتاج كاملة لأشباه الموصلات
والإلكترونيات.
في الأثناء، ينزلق الاتحاد
الأوروبي بشكل متزايد نحو علاقة اعتماد مشترك مع الولايات المتحدة ولا ينادي
بإرساء صناعته وسلاسل توريده الخاصة. ومع ذلك، يشكك
الاتحاد الأوروبي هو الآخر في
نهج العولمة واستراتيجية التنمية.
وذكر الكاتب أن إطار العولمة
القائم على إجراء المعاملات المالية بالدولار وسلاسل التوريد العديدة والإحجام عن
التخلي عن العلاقات الدولية لبلدان مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والعديد من
البلدان النامية الأخرى لا يزال قائمًا. وبينما تسعى هذه الدول إلى التنويع، بما
في ذلك من خلال منصة البريكس، فإنها تتجنب الدخول في صراع مع الغرب. لذلك، تظهر
الممارسة العملية عدم تكافؤ. وفي حين يجبر البعض العولمة على إعادة الهيكلة، يظل
البعض الآخر محافظا عليها بالأساس في محاولة لضمان استقرار العلاقات الدولية.
نظريًا، من المنطقي التنبؤ بانقسام
العالم تدريجيًا إلى عدة أقطاب (اثنان على الأقل: الولايات المتحدة والصين)، يمتلك
كل واحد منصاته التكنولوجية الخاصة وسلاسل التوريد والدوائر المالية الداخلية وما
إلى ذلك. لكن عمليًا، يتطلب هذا تكاليف كبيرة ووقتا طويلا. في المقابل، تتمثل مهام
السياسة في تعزيز المصالح بأي ثمن بصرف النظر عن التكاليف. وعلى المدى الطويل،
يمكن انقسام العالم إلى قطبين على الأقل. لكن ستتصدى بعض الأطراف وخاصة الشركات
التي اعتادت العيش في ظروف أكثر ملاءمة لهذه المحاولات وستحاول التأثير عليها قدر
استطاعتها.
خلف الأبواب المغلقة
أورد الكاتب أن علاقات
روسيا مع
الدول الحدودية على الجانب الأوروبي تستمر في التدهور بعد التحاق فنلندا بحلف شمال
الأطلسي وإغلاق حدودها البرية مع روسيا بشكل كامل، مثلما فعلت دول البلطيق الثلاث.
وغلق الحدود والعسكرة التدريجية لمنطقة البلطيق مجرد بداية وقد تصل الأمور إلى حد
الاشتباكات العسكرية. مثل هذا الاحتمال قائم، ونظرا لعسكرة منطقة البلطيق وتوسيع
حلف شمال الأطلسي على حساب فنلندا وفي المستقبل السويد، فإن مؤامرة إغلاق الحدود
ليست سوى جزء من اتجاه سلبي أكثر شمولا.
واتسمت السنة الماضية بتصعيد
العقوبات الغربية ضد روسيا بعد دخول اللوائح التي تم اعتمادها قبل عام حيز
التنفيذ. فعلى سبيل المثال، فُرض حظر على تصدير المنتجات النفطية الروسية إلى
الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، صاحبه توسع خطير في قوائم السلع الصناعية
المحظور تسليمها إلى روسيا. وتعتبر العقوبات صنيعة العمليات السياسية، ومن النوع
الذي لا توجد فيه شروط مسبقة لتخفيفها بشكل مستدام. وتظهر التجربة أن فرض العقوبات
أسهل من رفعها أو تخفيفها.
في هذا الصدد، كانت الولايات
المتحدة المبادرة بفرض العقوبات. وعلى مدى القرن الماضي، قدّمت واشنطن عدداً أكبر
من هذه المبادرات مقارنة بجميع الدول والمنظمات الدولية الأخرى مجتمعةً. ويمكن
للرئيس الأمريكي إلغاء أوامره التنفيذية المتعلقة بالعقوبات. ومن خلال التوصل إلى
اتفاقات سياسية لرفع العقوبات فإنها يمكن أن تتغير الوقائع بجرة قلم واحدة، والاتفاق
النووي الإيراني خير دليل على ذلك.
مع أخذ هذه التطورات بعين
الاعتبار، يتعين على الشركات الروسية التطلع إلى بناء أساس أقوى على الجانب
الشرقي. ومع أن الوضع الحالي يؤثر أيضًا على الشرق، الذي لم تنضم حكوماته إلى
العقوبات المناهضة لروسيا، فإن الشركات قد تمتثل للمطالب الأمريكية.
وتجاوزت العديد من وسائل الإعلام
الروسية والأجنبية القانون الدولي خلال العامين الماضيين. ومن الواضح أنه كلما
ارتفع مستوى الصراع في العلاقات الدولية، زاد الإخلال بالقانون الدولي. فعلى سبيل
المثال، واجهت العلاقات الروسية الأمريكية في مجال التعاون بين وكالات إنفاذ
القانون بعض المشاكل بسبب الاحتكاك السياسي. وفي نفس الوقت، تنشأ صعوبات في ما
يتعلق بإنفاذ القانون، بما في ذلك في سياق الصراع العربي الإسرائيلي والصراع في
أوكرانيا.
وتتجه أصابع الاتهام نحو الأمم
المتحدة في الوقت الراهن، ومع تفاقم الوضع في قطاع غزة بات واضحا أن الأمم المتحدة
لا تستطيع حل الصراعات الكبيرة والصغيرة على حد سواء. وإلى جانب الأمم المتحدة،
فإن مؤسسات مثل منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، التي تعمل بشكل
ديناميكي على تطوير وتوسيع قائمة الدول الأعضاء في مجموعة البريكس، والتي ستترأسها
روسيا في هذه السنة، تعمل بشكل فعال. ورغم الخوف من إمكانية تسييسها غير أن
المؤسسات الدولية ما زالت تتطور.
وقال ألكسندر الثالث ذات مرة إن
روسيا تمتلك حليفين فقط وهما الجيش والقوات البحرية. ومع ذلك، فإنها في عهد ألكسندر الثالث
أنشأت تحالفات نشطة مع فرنسا. في عهده وضعت هذه الأسس وتم الحفاظ على منطق
الدبلوماسية، أي تقليل عدد الأعداء وتعظيم عدد الحلفاء. وفي العالم الحديث، لا تزال
هناك حاجة بالتأكيد إلى الحلفاء.
لم تتخلّ روسيا عن هذه الفكرة،
سواء في المجال العسكري أو الاقتصادي. على الصعيد الاقتصادي تنتمي إلى الاتحاد
الاقتصادي الأوراسي وعلى الصعيد العسكري السياسي هي عضو في منظمة معاهدة الأمن
الجماعي - مع العلم أن قدرات كلا الهيكلين محدودة، ولا يمكن مقارنتهما بحلف شمال
الأطلسي والاتحاد الأوروبي، إذ تواجه منظمة معاهدة الأمن الجماعي في الوقت الراهن
صعوباتها الخاصة في سياق العلاقات بين روسيا وأرمينيا.
في الوقت نفسه، لا تمثل التحالفات
اليوم شراكة تعاقدية صارمة ويمكن أن تكون ظرفية هدفها حل مشاكل محددة. وهكذا فإن
دول البريكس، بالإضافة إلى روسيا، تحافظ على علاقاتها مع الغرب ولا تتخلى عن تنويع
علاقاتها. وبالنسبة لروسيا فإنه سيظل الحدث الرئيسي في السياسة الخارجية هو الوضع حول
أوكرانيا وبناء ملامح الوجود في ظل الأزمة مع الغرب وتطوير العلاقات مع الصين.