لاتزال الولايات المتحدة الأمريكية هي اللاعب الرئيسي والمؤثر في
الحرب الإسرائيلية على قطاع
غزة، بعيد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول الماضي، على الرغم من وجود لاعبين إقليميين فاعلين مثل مصر وقطر.
الصين التي دعمت القضية الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، وقدمت السلاح لحركات التحرر الوطني وعلى رأسها «فتح» في عهد ماوتسي تونغ، هذه الصين ليست كما كانت من قبل، حيث تحسب خطواتها بالمسطرة وتقيم حسابا للاعب الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.
السياسة التي تنتهجها الصين مع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تقوم على التوازن، انطلاقا من عدة اعتبارات، أولها أن هناك علاقة شراكة اقتصادية جيدة بين بكين وتل أبيب، وهي تترسخ عاما بعد عام، وثانيا أن هناك مصالح اقتصادية هائلة لدى الصين في منطقة الشرق الأوسط، ولا تريد لها أن تتأثر بأي انعطافة في سياستها الخارجية مع إسرائيل.
أيضا يمكن القول؛ إن الصين لا ترغب في التنافس مع الولايات المتحدة على منطقة الشرق الأوسط، وحيث إن للأخيرة يدا طولى هناك والعديد من القواعد العسكرية المنتشرة في بعض الدول العربية، غير أن بكين ترى في سياسة «التمسكن حتى التمكن» مظلة تحقق لها منافع سياسية واقتصادية إلى أن تحين ساعة الصفر.
كل ذلك ينعكس على السياسة الخارجية الصينية التي دعت منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة بتصريحات دبلوماسية ناعمة، إلى وقف الحرب ومنع استهداف المدنيين العزل ومحاصرة الشعب الفلسطيني، وكانت واضحة بشأن موقفها الداعم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
تأمل بكين أن يتم حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بطرق سلمية وعبر التفاوض المباشر؛ لأن هذا الطريق مفيد بالنسبة لها ولا يجعلها تنحاز لأي طرف عن الآخر، ولأنها ترى في حل القضية الفلسطينية تزايدا للنفوذ الصيني في المنطقة.
في خضم حدة الاستقطاب السياسي والانحياز الدولي للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، لم تغضب الصين إسرائيل أبدا، ولم تضغط عليها بشأن تحييد استهداف المواطنين الفلسطينيين العزل، وكذلك الحال وقفت على مسافة واحدة بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية وحركة «حماس».
في المحافل الدولية، نعم، كان لبكين صوت ضد الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة سواء في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، أو عبر استضافتها في قمة القاهرة للسلام 2023، لكنه صوت دبلوماسي خجول لا يعكس حجم وقوة ونفوذ الصين على الصعيد العالمي.
إن أكثر ما يشد انتباه السياسة الصينية هو منع توسع الصراع وانفجاره إلى حدود أكبر من جغرافية فلسطين المحتلة؛ لأن ذلك من شأنه أن يؤثر على مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدا مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها قبل 11 عاما، التي تعزز علاقاتها وشراكاتها التجارية بما يوسع من نفوذها العالمي.
كذلك لا تريد أن تحدث جلبة بانخراطها المباشر في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي؛ لأنها باختصار مرتاحة من فكرة الانشغال الأمريكي والانحياز السخي وغير المحدود لإسرائيل، وترى بكين في هذا الانشغال عاملا مهما لتعزيز نفوذها في المحيطين الهندي والهادي.
وعدا عن انشغال واشنطن في دعم تل أبيب وتوجيه العديد من أسلحتها وقطعها البحرية إلى البحر المتوسط، ترى الصين في الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل طرفا غير نزيه، وسمعتها تتآكل في المحافل الدولية وبين شعوب العالم، وعلى العكس منها -الولايات المتحدة-، تقدم بكين نفسها على أنها طرف محايد ونزيه، ويمكن الوثوق به لحل الصراعات الإقليمية والدولية.
بالمختصر، الصين تُقيّم علاقاتها بالدول وفقا للمصالح الاقتصادية، ولديها مصلحة استراتيجية مع العرب الذين يغطون أكثر من نصف احتياجاتها من النفط، في حين تعتمد أيضا على إسرائيل في الحصول على أشباه الموصلات سنويا بحوالي مليار دولار.
المتتبع للعلاقات الصينية- العربية، يلحظ تنامي الشراكة البينية بين الطرفين بسرعة كبيرة، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما حتى نهاية العام 2022 حوالي 431 مليار دولار، وبالنسبة لشراكة بكين مع تل أبيب فهي تنمو بوتيرة عالية، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 24 مليار دولار.
ثمة مقولة «المال يتحدث»، وهي تلخص نهج السياسة الخارجية الصينية الحذرة في التعامل مع الملفات الحسّاسة، خصوصا حين تكون على علاقة اقتصادية جيدة مع أطراف النزاع، حينها ستبقى سلعها تتدفق بكثافة إلى تلك الدول، وهذا هو مربط الفرس بالنسبة لها.
من جهة أخرى، يمكن القول؛ إن العرب والفلسطينيين لا يتوقعون أن تُغيّر بكين من سياساتها وتقف إلى جانبهم وتدعمهم بـ«الباع والذراع»، وكذلك لا تتوقع إسرائيل أن تمارس الصين ضغوطا عليها، ففي نهاية الأمر هناك لاعب رئيسي اسمه الولايات المتحدة، وهي المتحكمة بقواعد اللعبة، ولن تسمح للصين أن تكون لاعبا رئيسيا ينافسها في هذه المنطقة.
(الأيام الفلسطينية)