في كل قواميس الحرب تكون حروب التجويع واستهداف الناس في مأكلهم ومشربهم ومحاصرتهم حتى الموت مكروهة جداً، ولم نشهد في تاريخ الحروب الحديثة مثل العدوان الذي تشنه إسرائيل على قطاع
غزة بكل ما فيه من دموية وقساوة وبشاعة.
إسرائيل التي لم تجد ضالتها في فتح كل أنواع النار على الفلسطينيين لتركيعهم، تعمدت استخدام سياسة الجوع واستهدفت مختلف المؤسسات التجارية والإغاثية الدولية والعاملة في غزة لمنعها من توصيل
المساعدات الإنسانية المستعجلة.
هذه السياسة التي لا تجدي نفعاً مع الفلسطينيين، ربما هي مهمة بالنسبة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يجتهد لإطالة أمد الحرب واختراع مختلف الوسائل التي تمكنه من رد الاعتبار لكرامة إسرائيل المهدورة بعد عملية «طوفان الأقصى».
بعد أزيد من 150 يوماً على الحرب الإسرائيلية والدمار الهائل الذي أتى على غزة، يواصل الاحتلال عدوانه البري على خان يونس جنوب القطاع وعدد من المحاور شمال ووسط غزة، بصرف النظر عن الصولات والجولات التفاوضية في القاهرة للبحث في وقف إطلاق النار.
تعتقد إسرائيل أنه يمكنها كسر صمود الفلسطينيين برفض وقف إطلاق النار، وممارسة ضغوطات بشأن منع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة أو السماح للقوافل الدخول «بالقطارة»، وفتح النار على جموع المحتشدين لتلقي المساعدات.
المشكلة أنها تفعل ذلك وتحارب كل المؤسسات الدولية المعنية بتقديم المساعدات الإنسانية والطارئة، بما فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، تحت مرأى ومسمع من كل دول العالم التي لم تحرك ساكناً، سوى بعض المحاولات الخجولة لإيصال المساعدات عبر جسور جوية.
في الآونة الأخيرة، نشطت المحادثات والمفاوضات للوصول إلى وقف إطلاق للنار قبل حلول شهر رمضان، ولم تتبين بعد بوادر باتجاه إقرار تهدئة، لأن إسرائيل ترغب في هدنة زمنية لا تتجاوز الستة أسابيع، فضلاً عن منع سكان شمال القطاع من العودة إلى منازلهم المدمرة.
كل ما يجري الآن هو محاولات ترقيعية وإيجاد حلول سريعة لإيصال مساعدات غذائية فورية مع حلول شهر رمضان، ويلحظ أن الولايات المتحدة الأميركية منسجمة مع فكرة بناء ميناء عسكري على سواحل غزة لإيصال المساعدات العاجلة للسكان هناك.
في كل الأحوال، تحتاج واشنطن إلى أسابيع حتى إتمام هذه العملية، والجوع الشديد الذي يشهده سكان شمال غزة يستدعي الضغط الأميركي والدولي على إسرائيل لحثها للسماح بإدخال قوافل المساعدات من معبر «إيريز» شمال غزة وعبر معبري رفح وكرم أبو سالم.
ثم هناك مشكلة في مسألة التوزيع الجغرافي لهذه المساعدات، خصوصاً أن الاحتلال الإسرائيلي يحاصر القطاع ويفتح كل أسلحته على الطواقم الطبية والإغاثية وغيرها من المؤسسات الدولية وغير الدولية والسكان، فهل هناك خطة محكمة من قبل واشنطن للتعامل مع هذا الموضوع؟
أضف إلى ذلك، إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من الضغط على إسرائيل بشأن إيصال المساعدات براً، هل ستسمح الأخيرة بوصولها بحراً بدون إخضاعها للرقابة والمعاينة، وهل يترتب على ذلك وجود قوات أميركية على قطاع غزة لتأمين وصول المساعدات؟
في كل الأحوال هذه «طبخة» مُحضّرة سلفاً بين واشنطن وتل أبيب، بصرف النظر حول كل ما يقال عن تعمق الخلافات بين البلدين، إذ من غير المعقول لأقوى دولة في العالم أن تعتمد طريقاً آخر أصعب لوصول المساعدات، وكأنه لا يمكنها أن تقول لإسرائيل: لا أو كفى!
كذلك موضوع بناء ميناء عسكري في غزة يشي أن هذه الحرب طويلة، وأنه ليس هناك من أفق واضح بشأن وقف دائم لإطلاق النار، غير أن هذه المعادلة قد تنقلب في سياق الحراك الشعبي الإسرائيلي المتزايد والمطالب باستعادة الأسرى لدى «حماس».
المشكلة أن الوقت بدأ ينفد بالنسبة لغالبية الفلسطينيين الذين هم على حافة المجاعة، وليس مستغرباً على إسرائيل أن تزيد هذا النوع من الضغط حتى تكسر صمودهم وتجعلهم يائسين ولا حلول أمامهم سوى مغادرة قطاع غزة بدون عودة.
شهر رمضان على الأبواب وليس هناك من صوت عربي فاعل وضاغط لثني إسرائيل عن ارتكاب جرائهما اليومية وشن حروبها الكثيرة ضد النساء والأطفال والرضع، وحروب أخرى على الغذاء والماء والدواء وكل مستلزمات الحياة.
من المعيب جداً أن تتحرك دول بعيدة كلياً عن ديننا وثقافتنا وامتدادنا العروبي لمساندة الشعب الفلسطيني كما هو حال جنوب أفريقيا والبرازيل وأيرلندا وكولومبيا، بينما دول عربية محسوبة في العمق الجغرافي للوطن العربي لم تحرك ساكناً.
الإدانات والمناشدات وحدها لا تكفي، ولا أيضاً استدعاء السفير الإسرائيلي أو تقديم رسائل احتجاج على قتل الفلسطينيين. المطلوب صحوة عربية ووقفة حقيقية وجادة لوقف هذه الحرب الكارثية التي استنزفت كثيراً من رصيد سكان غزة.
ثم من غير المعقول اختصار نكبة غزة وحصرها فقط في المساعدات الإنسانية وتناسي العنوان الرئيسي المتصل بالحرب الدموية على الفلسطينيين. الأساس يتطلب وقف هذه الحرب وليس تجاهلها والتركيز على المشكلة الثانوية التي تعتبر مهمة والمتمحورة في سياسة التجويع.
(الأيام الفلسطينية)