كان
إعلان الرئيس
قيس سعيد "حالة الاستثناء" يوم 25 تموز/ يوليو 2021،
إيذانا بدخول "الاستثناء
التونسي" (أي استمرار التجربة الديمقراطية على
خلاف باقي بلدان "الربيع العربي") مرحلة "الموت السريري".
ونحن قد قصدنا استعمال هذا المصطلح الطبي لمطابقته للإجراءات التي اتخذها النظام
في أيامه الأولى: التعليق والتجميد وما يعنيان -نظريا- من احتمالات القطع أو
الاستئناف. كما أننا استعملناه للإشارة إلى ما بلغته "الديمقراطية
التمثيلية" والنظام البرلماني المعدّل -وما يحكمهما من الأجسام الوسيطة سياسيا
ونقابيا ومدنيا- من أزمة "وجودية" نتيجة صراعاتها "الهوياتية"
وتناقضاتها البينية التي غذّاها الدستور "التوافقي" نفسه.
لقد
جاءت الإجراءات الرئاسية لتؤكد هشاشة الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي، بل
في مجمل مستويات الحياة الجماعية، وهو ما شجّع النظام بقيادة الرئيس سعيّد على
تحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لجمهورية
جديدة. إنها تلك الجمهورية التي بشّر بها الرئيس نفسه خلال "الحملة
التفسيرية" (أي خلال الحملة الدعائية للانتخابات الرئاسية) ولم يجد حرجا في
بيان أهم مرتكزاتها خلال حواره مع الصحفية كوثر زنطور يوم 12 حزيران/ يونيو 2019؛
من مثل "البناء القاعدي" وتعديل الدستور "لأن القضية في التأسيس.
يجب أن يكون هناك فكر سياسي جديد يترجمه نص دستوري جديد بالفعل". لقد كان
جوهر الفكر السياسي للمترشح قيس سعيد هو أنّ "الديمقراطية النيابية في الدول
الغربية نفسها أفلست وانتهى عهدها"، واقتراب نهاية دور الأحزاب واندثارها
بصورة ذاتية لا تحتاج إلى قرار سلطوي.
جاءت الإجراءات الرئاسية لتؤكد هشاشة الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي، بل في مجمل مستويات الحياة الجماعية، وهو ما شجّع النظام بقيادة الرئيس سعيّد على تحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لجمهورية جديدة
إننا
أمام خطاب واضح يريد أن يكون مناسبا للمرحلة التاريخية الجديدة التي يسميها
المترشح الرئاسي "الانتقال الثوري الجديد". ولم يكن 25 تموز/ يوليو إلا نقطة
البدء لتفعيل هذا المشروع السياسي بعد أن وصل صاحبه إلى قصر قرطاج، وقد نجح
"تصحيح المسار" في فرض توازنات سياسية ونقابية ومدنية مكّنته من تمرير
خارطته السياسية (الاستشارة الوطنية، الاستفتاء على الدستور الجديد،
الانتخابات
البرلمانية والمحلية) ولم يبق أمامه إلا لبنة واحدة ليكتمل البناء: الانتخابات
الرئاسية.
ورغم
أن كل المحطات التي عاد فيها الرئيس لإرادة الشعب (المواطن، الناخب) قد أثبتت
محدودية الدعم الشعبي لمشروع الرئيس، فإن ذلك لم يكن قادرا على تعديل
"المسار" الذي يأبى إلا أن يبلع منتهاه ولو كره "المعارضون"،
حتى لو انتقلت المعارضة من النخب المسيّسة إلى أغلبية المواطنين المسجلين في
القوائم الانتخابية كما تشهد على ذلك الأرقام الرسمية ذاتها.
منذ
أن التقى الرئيس سعيد بفاروق بن جعفر، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات،
بات مؤكدا أن الانتخابات الرئاسية التونسية ستجرى في موعدها (خلال شهر أيلول/ سبتمبر
أو تشرين الأول/ أكتوبر القادمين). ولكن انتهاء الغموض في شأن الموعد لا يرفع
الغموض عن أمور أخرى ذات صلة بتلك الانتخابات. ويبدو أنّ المشاركة المحتملة لبعض
رموز المعارضة الجذرية ليس هو فقط ما يعكس "مفارقات" الواقع السياسي في
جهة المعارضة، كما ذهب إلى ذلك الرئيس سعيد نفسه عندما أشار إلى التناقض بين عدم
المشاركة في كل المحطات الانتخابية ثم الإعداد للمشاركة في الرئاسيات. فالمفارقة
الأعظم تكمن في الثقة في العملية الانتخابية برمتها، وهي عملية يتحكم النظام في كل
مفاصلها بدءا من "تعيين" أعضاء هيئة الانتخابات "المستقلة" ومرورا
باختيار المراقبين المحليين والأجانب -قبولا ورفضا- وانتهاءً بالتحكم في المشهد
الإعلامي بعد إخراج "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري" (الهايكا)
واقعيا عن أي دور في تعديل المشهد الإعلامي ومراقبة الحملات الانتخابية.
المفارقة الأعظم تكمن في الثقة في العملية الانتخابية برمتها، وهي عملية يتحكم النظام في كل مفاصلها بدءا من "تعيين" أعضاء هيئة الانتخابات "المستقلة" ومرورا باختيار المراقبين المحليين والأجانب -قبولا ورفضا- وانتهاءً بالتحكم في المشهد الإعلامي بعد إخراج "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري" (الهايكا) واقعيا عن أي دور في تعديل المشهد الإعلامي ومراقبة الحملات الانتخابية
ولا
يبدو أن الاعتراض باختلاف الرهان الرئاسي عن بقية الرهانات أو الاعتراض بعدم طعن
المعارضة في نتائج المواعيد السابقة؛ كافيان لرفع هذه "المفارقة" التي
مدارها التناقض بين الطعن في شرعية النظام ذاته -ووصفه بالانقلابي- وبين القبول
بمنافسته بشروطه، وهو ما يعني ضمنيا الاعتراف بشرعيته. وإذا كانت مفارقة المعارضة
الجذرية تكمن فيما سبق، فإن مفارقة الموالاة النقدية -أو المعارضة من داخل
"تصحيح المسار"- تكمن في أنّ رموزها لا هم موالون صرحاء وبالتالي لا
معنى لمنافستهم للرئيس قيس سعيد، ولا هم معارضون جذريون، وبالتالي لا معنى أيضا
لمشاركتهم في الانتخابات بما يعنيه ذلك من اعتراف بشرعية النظام. وهذا يجعلهم في
وضعية سيئة أمام مختلف القواعد الانتخابية "الصلبة"، رغم كل عمليات سبر
الآراء "المشبوهة" التي قد تضع بعضهم في مراكز متقدمة من جهة نوايا
التصويت.
إذا
كانت مفارقة المعارضة الأساسية تكمن في التناقض بين عدم الاعتراف بشرعية النظام
وبين المشاركة في الاستحقاق الانتخابي في خارطة الطريق التي أنجزها ذلك النظام
بعيدا عن التشاركية بكل معانيها المعروفة، فإن مفارقة النظام الأساسية تكمن في عدم
قراءته لنتائج الاستحقاقات الانتخابية السابقة بعيدا عن شيطنة المعارضة. فقد أكدت
كل تلك الاستحقاقات عدم وجود دعم شعبي واسع للمشروع الرئاسي، وهو واقع لا يمكن أن
نرده إلى مخلفات "العشرية السوداء" إلا بضرب من التعسف.
فالأمر
يرتبط أيضا بغياب "المشروعية" أو بغياب الإنجاز، أي بفشل الوعود
الإصلاحية الكبرى التي أطلقها النظام منذ 25 تموز/ يوليو 2021. ولا يمكن لكل
سرديات الشيطنة للمعارضة أن تقنع التونسي بأن النظام لا يتحمل جزءا من الأزمة
المتفاقمة اقتصاديا واجتماعيا (ارتفاع مستوى التضخم، فساد الإدارة وتغوّل
الكارتيلات المالية-العائلية، اهتراء منظومة التعليم وظاهرة الانقطاع عن الدراسة،
عدم تعديل التشريعات المكرسة للاقتصاد الريعي، تنامي ظاهرة الإجرام خاصة بين
التلاميذ.. الخ).
منطقيا،
لا يمكن أن ننتظر من الرئيس سعيد إلا مواصلة منطق "شيطنة" المعارضة
بإطلاق مع "أمثلة" الذات دون تقييد أو تنسيب، فكل من يعارض النظام أو
ينوي منافسته -حتى بشروطه- هو شخص مشبوه (فاسد ماليا، متصهين، هدفه الحكم وتحقيق
مصالحه لا مصالح الشعب، يظن الحكم تشريفا لا تكليفا، لا يفهم أن الحكم ابتلاء ووزر
ثقيل.. الخ). وعلى هيئة الانتخابات أن تتحرى في كل هؤلاء ممن تتعلق بذممهم قضايا
من قبل الإرهاب أو ممن لهم علاقة بالمال السياسي وبالفاسدين.
ولا
يبدو أن الرئيس التونسي يجد حرجا في التحول من منافس إلى "خصم وحكم" في
الآن نفسه بـ"توجيهاته" لرئيس هيئة الانتخابات، كما لا يبدو أنه يهتم
للآثار الكارثية التي ستكون للتعامل مع المنافسين بمنطق "الشبهة" وكأنها
حكم قضائي نهائي غير قابل للطعن.
ختاما،
فإننا نرى أن "أمّ المفارقات" جميعا أو المفارقة الأصلية التي تجعل من
المفارقات الأخرى مجرد "مفارقات مشتقة" (مفارقات المعارضة الجذرية
والموالاة النقدية والسلطة) هي أن الجميع يديرون الصراع السياسي بمنطق
"الثورة" و"الإصلاح" والحال أن سقف تحركهم -دون استثناء- هو
"الترقيع"، أي التحرك تحت سقف "منظومة الاستعمار الداخلي" دون
تهديدها بصورة وجودية. ونحن لا نستثني من هذا الحكم ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021، بل
نعتبر أنه هو المدخل الملكي لعودة المنظومة القديمة ونواتها الصلبة (المُركّب
المالي-الجهوي-الأمني) للتحكم في الانتقال الديمقراطي وتشكيله حسب ما تقتضيه
مصالحها المادية والرمزية.
نرجّح -حسب المعطيات الحالية- استمرار الرئيس سعيد في عهدة رئاسية ثانية. فهو من جهة أولى، لا يمثل تهديدا وجوديا لمنظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين والدوليين -على الأقل إلى حد هذه اللحظة- ومن جهة ثانية سيحظى بقاعدة انتخابية أكبر من أي شخصية معارضة سيقبل النظام ترشحها؛ مع غياب أي إجماع شامل حولها داخل مختلف أطياف المعارضة
إن
قوة المشروع السياسي للرئيس تكمن في أنه قد استطاع تقديم جملة سياسية تنقذ تلك
المنظومة من مأزق "النظام البرلماني المعدل"، وفي الآن نفسه لا تجد رفضا
لدى شريحة واسعة من النخب والأجسام الوسيطة، بل من عامة الشعب (على الأقل في
الأيام الأولى التي أعقبت "تصحيح المسار"). ولكنّ الوضع الآن قد تغير،
وهو ما يعني أن علاقة الرئيس -ومشروعه السياسي- بالدولة العميقة لم تعد هي ذاتها.
ونحن
نذهب إلى أنه سيعاد التفاوض في تلك العلاقة أو تحديد ملامحها بصورة جلية في مستوى
الانتخابات الرئاسية، فنجاح الرئيس في تلك الانتخابات سيجعله في موقع قوة غير
مسبوق أمام "شركائه" في الداخل والخارج، وقد يصبح تهديدا جديا لمنظومة
الاستعمار الداخلي، سواء عن اقتناع ذاتي أو تحت ضغط أنصاره، أما ظهور منافس
"قوي" في تلك الانتخابات أو حتى فوزه بها -بدعم من الدولة العميقة أو من
قوى خارجية- فلن يعني بالضرورة نهاية النظام "الرئاسوي" أو عودة
الديمقراطية التمثيلية، بل كل ما يعنيه انتهاء الحاجة لسردية "التأسيس الثوري
الجديد".
ونحن
نرجّح -حسب المعطيات الحالية- استمرار الرئيس سعيد في عهدة رئاسية ثانية. فهو من
جهة أولى، لا يمثل تهديدا وجوديا لمنظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين
والدوليين -على الأقل إلى حد هذه اللحظة- ومن جهة ثانية سيحظى بقاعدة انتخابية
أكبر من أي شخصية معارضة سيقبل النظام ترشحها؛ مع غياب أي إجماع شامل حولها داخل
مختلف أطياف المعارضة المهووسة حتى الآن بصراعاتها الهوياتية.
twitter.com/adel_arabi21