تصاعدت
الحرب
الإسرائيلية على
غزة بشكل ملحوظ، حيث أدت حرب الإبادة الجماعية إلى استشهاد
أكثر من 31 ألف
فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال. كما أدت العمليات العسكرية
الإسرائيلية إلى دمار واسع النطاق في جميع أنحاء غزة، مما أدى إلى تدمير أو إتلاف
أكثر من نصف الوحدات السكنية، وتدمير شبه كامل للمرافق التعليمية والصحية والبنى
التحتية، في كل جزء من أجزاء القطاع.
وقد
أثارت العمليات العسكرية الإسرائيلية إدانة دولية ودعوات لوقف إطلاق النار، لا
سيما بسبب الوضع الإنساني المتردي، حيث حثّ الاتحاد الأوروبي إسرائيل على الامتناع
عن شن هجوم على رفح؛ لتجنب تفاقم الكارثة التي يعاني منها 1.5 مليون لاجئ في
المدينة.
علاوة
على الضغوط الدولية، هناك ضغوط داخلية كبيرة داخل إسرائيل من أجل إطلاق سراح
الأسرى المحتجزين في غزة فورا، من خلال تنظيم الاحتجاجات اليومية في تل أبيب، والدعوات المتكررة لعقد انتخابات مبكرة، أو حتى من خلال ظهور الخلافات بين الطبقات
السياسية المختلفة. وعلى الرغم من هذه الدعوات التي لا تترافق بضغط سياسي، لا تزال
إسرائيل مصرة على قتل الفلسطينيين وتشريدهم، بشكل منهجي ومستمر.
تحاول إسرائيل، من خلال تصوير حماس كمعرقل للمفاوضات، خلق انقسامات داخل المجتمع الفلسطيني. إن تصوير حماس على أنها تعطي الأولوية لبقائها على رفاهية الشعب الفلسطيني، يهدف إلى تآكل الدعم الذي تحظى به حماس داخل غزة، وبين السكان الفلسطينيين الأوسع.
في
الديناميكيات المعقدة لحرب إسرائيل على غزة، تؤثر الاستراتيجيات التي يستخدمها
الجانبان بشكل كبير على عمليات التفاوض والسياسة الإقليمية الأوسع. إن إصرار
إسرائيل على النظر إلى أي هدنة مع
حماس باعتبارها مؤقتة، إلى جانب التهديد المستمر
باستئناف العمليات العسكرية، وخاصة في مناطق مثل رفح، يخدم أغراضا استراتيجية إسرائيلية
متعددة، أهم هذه الأغراض هي:
أولا، تأكيد الطابع المؤقت لوقف إطلاق النار يبعث برسالة قوية إلى حماس والشعب
الفلسطيني، مفادها أن العمليات العسكرية من الممكن أن تُستأنف في أي وقت. ويهدف هذا
الموقف إلى ممارسة الضغط على حماس، من خلال الإشارة إلى أن إطلاق سراح المحتجزين
الإسرائيليين لا يشكل نهاية الاشتباك العسكري، بل هو مجرد توقف مؤقت، مع ظهور شبح
استئناف العمليات في الأفق. ومن خلال القيام بذلك، تسعى إسرائيل إلى إضعاف موقف
حماس التفاوضي في المفاوضات، وتأطيرها كتهديد مستمر لأمن إسرائيل، وتبرير المزيد
من العمليات العسكرية عندما ترى ذلك ضروريا.
ثانيا،
تهدف استراتيجية مواصلة العمليات العسكرية، حتى في أثناء المفاوضات، إلى تقليص عدد
السجناء الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس، إما عن طريق عمليات الإنقاذ المتوهمة
والفاشلة في أغلب الأحيان، أو من خلال التأثير الأوسع للضربات العسكرية على قطاع
غزة؛ التي أدت إلى مقتل الكثير من هؤلاء الأسرى. وهذا التكتيك لا يهدف فقط إلى
الحد من نفوذ حماس في المفاوضات من خلال تقليل عدد الأسرى الذين يمكن أن تستخدمهم
كورقة مساومة، بل يهدف أيضا إلى إرسال إشارة مسمومة إلى السكان الفلسطينيين، بالعواقب الوخيمة المترتبة على رفض هدنة بشروط إسرائيلية محضة.
ثالثا:
تحاول إسرائيل، من خلال تصوير حماس كمعرقل للمفاوضات، خلق انقسامات داخل المجتمع
الفلسطيني. إن تصوير حماس على أنها تعطي الأولوية لبقائها على رفاهية الشعب
الفلسطيني، يهدف إلى تآكل الدعم الذي تحظى به حماس داخل غزة، وبين السكان
الفلسطينيين الأوسع.
رابعا:
تضيف مشاركة السلطة الفلسطينية وحركة فتح في هذه الاستراتيجية طبقة أخرى من
التعقيد. إن انتقادات السلطة وفتح لحماس، كما رأينا في التصريحات التي أدلى بها عزام
الأحمد، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وعضو المجلس الثوري في
حركة "فتح"، ومن ثم تصريحات فتح لوكالة الأنباء الفلسطينية، التي ألقت
فيها باللوم على حماس من حيث إعادة احتلال غزة والأزمة الإنسانية التي تلت ذلك،
تتوافق مع السرد الإسرائيلي المسموم، القائل بأن تصرفات حماس تضر بالمصالح الوطنية
الفلسطينية. ومن خلال الاتفاق مع الخطوط العريضة لموقف إسرائيل، وإن كان ذلك على
الأرجح لأسباب سياسية، تساهم السلطة الفلسطينية وفتح في استراتيجية إسرائيل لعزل
حماس سياسيا.
يبدو
أن تطلعات إسرائيل في قطاع غزة تتشكل بفعل الرغبة في ترسيخ هيمنتها الأمنية
والعسكرية والسياسية. ويتجلى هذا الطموح في النوايا الرامية إلى توسيع السيطرة على
الأراضي؛ إما من خلال المزيد من الاحتلال واقتطاع الأراضي، أو إنشاء مستوطنات
جديدة. ومع ذلك، فإن التحديات والنكسات في تحقيق الأهداف العسكرية في غزة، اقتضت
استكشاف استراتيجيات بديلة، وتتضمن إحدى هذه الاستراتيجيات التعامل مع الهياكل
القبلية والعائلية داخل غزة، كشركاء محتملين في الحكم في مرحلة ما بعد الصراع.
يشير اقتراح الاستفادة من الدعم العشائري للحكم في غزة بعد الحرب، إلى تحول استراتيجي من جانب إسرائيل، يهدف إلى تجاوز الكيانات السياسية التقليدية، والعمل بدلا من ذلك بشكل مباشر مع الفصائل المجتمعية، التي يمكن اعتبارها أكثر قابلية للتنسيق. وشمل النهج الذي اتبعته إسرائيل تقييد مشاركة هياكل الحكم المدني في غزة في توفير الخدمات الأساسية وتوزيع المساعدات، مما أدى فعليا إلى تهميش السلطة السياسية القائمة.
يشير
اقتراح الاستفادة من الدعم العشائري للحكم في غزة بعد الحرب، إلى تحول استراتيجي من
جانب إسرائيل، يهدف إلى تجاوز الكيانات السياسية التقليدية، والعمل بدلا من ذلك
بشكل مباشر مع الفصائل المجتمعية، التي يمكن اعتبارها أكثر قابلية للتنسيق. وشمل
النهج الذي اتبعته إسرائيل تقييد مشاركة هياكل الحكم المدني في غزة في توفير
الخدمات الأساسية وتوزيع المساعدات، مما أدى فعليا إلى تهميش السلطة السياسية
القائمة. وكان المقصود من هذه المناورة، خلق فراغ يمكن أن تملأه القيادة العشائرية،
ومن ثم تسهيل شكل من أشكال الحكم قد تجده إسرائيل أكثر ملاءمة.
وكان
رد فعل العشائر في غزة وزعماء العائلات البارزة واضحا، لا لبس فيه، في رفضهم الاشتراك
في مثل هذا المخطط. ويؤكد موقفهم الجماعي:
1)
مبدأ الحكم الذاتي في ظل القيادة السياسية الحالية التابعة لحماس.
2)
أي تعاون في الجهود الإنسانية، يجب أن يتم بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الموجودة في
غزة، التي تشكل جزءا لا يتجزأ من إطار الحكم الحالي في القطاع.
3)
ويؤكد هذا الموقف رفضا أوسع لمحاولات فرض نموذج حكم خارجي، يتجاوز الهياكل السياسية
والمجتمعية التي اختارها سكان غزة.
ويلخص
بيان أبو سلمان المغني، المشاعر السائدة بين عشائر غزة، ويسلط الضوء على الرفض
الأساسي للعمل كبديل لهياكل الحكم المنتخبة من السكان. وتؤكد هذه المقاومة من
جانب وجهاء العشائر، التزاما أعمق بالحفاظ على الشعور بالسيادة وتقرير المصير، حتى
في مواجهة ضغوط خارجية كبيرة، ووسط سياق إنساني مليء بالتحديات.
وبعد
فشل خطة حكم العشائر والعوائل لقطاع غزة، بدأت إسرائيل بتطوير خطة جديدة، تنطوي على
إنشاء سلطة إدارية جديدة في غزة، بقيادة شخصيات يُنظر إليها على أنها أكثر انصياعا
للمصالح الإسرائيلية، مثل محمد دحلان واللواء ماجد فرج. تمثل هذه الخطة محورا مهما
في نهجها تجاه الصراع الطويل الأمد، ويشير هذا التحول إلى محاولة استبدال حكم حماس، بقيادة تتألف من أفراد يتمتعون بعلاقات تنسيق أمنية راسخة مع إسرائيل، وربما أكثر
ملاءمة لمشاريع إسرائيل الإقليمية.
يتمتع
اللواء ماجد فرج، بصفته رئيس جهاز المخابرات التابعة للسلطة الفلسطينية، بتاريخ من
التنسيق الأمني مع إسرائيل، وكان هذا التنسيق جزءا من جهود أوسع، تهدف إلى الحفاظ
على السيطرة على الضفة الغربية. إن المشاركة المحتملة لفرج في تشكيل إداري جديد في
غزة، من شأنه أن يشير إلى استمرار هذه الارتباطات التي تركز على أمن إسرائيل.
وأما
محمد دحلان، فهو شخصية مثيرة للجدل داخل السياسة الفلسطينية، كما أنّ علاقاته مع بعض
الجهات الإقليمية الفاعلة تعد غامضة ومثيرة للجدل. وظهرت علاقة الأخير بالموساد
الإسرائيلي من خلال تكرار أنشطة استخباراتية لتنفيذ انقلاب في تركيا، حيث كتبت
صحيفة "صباح" التركية أن دحلان، الذي يعيش في الإمارات والمقرب من حكومة
أبو ظبي، مرتبط بشبكة التجسس التي كانت مسؤولة عن المهام التي أسندها الموساد،
خاصة استهداف الشخصيات الأجنبية المقيمة في تركيا. وبحسب الصحيفة، فإن محمد دحلان
مدرج على قائمة المطلوبين في تركيا منذ عام 2019، وهو على اتصال وثيق ببعض المشتبه
بهم في الموساد الذين تم اعتقالهم مؤخرا في تركيا، كما أنه مطلوب أيضا بقضية
الانقلاب العسكري ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 2016، وقد صدرت بحقه مذكرة
اعتقال من الإنتربول، وتم عرقلة هذه المذكرة من حلفاء دحلان؛ سواء في الإمارات
أو في إسرائيل.
من
جهة أخرى، يؤكد دعم الجنرال يوآف غالانت لمثل هذا التحول، على الأهمية التي توليها
بعض الشخصيات العسكرية والسياسية الإسرائيلية لإيجاد شريك فلسطيني "يعتمد
عليه" في غزة، شريك يمكن أن يضمن تلبية المصالح الأمنية الإسرائيلية. إن
التركيز على إنشاء إدارة "مؤقتة" يسلط الضوء على الطبيعة الانتقالية
لمثل هذه المقترحات، التي تهدف إلى إنشاء إطار حكم في غزة، يمكن أن يمهد الطريق
لترتيبات سياسية وأمنية مستقبلية أكثر ملاءمة لوجهات النظر الإسرائيلية، وبالطبع تقوم
بتهميش أي مستقبل سياسي للشعب في القطاع، ولا تولي أي أهمية لرغبة هذا الشعب
باختيار من يحكمه.
من خلال اقتراح قيادة فلسطينية بديلة موالية وتنسّق أمنيا مع إسرائيل في غزة، تحاول إسرائيل استبعاد حماس بشكل كامل عن حكم غزة، وتحاول كذلك خلق شكل آخر من أشكال الاحتلال، الذي يرفض ويعارض رغبة السكان في تقرير المصير واختيار نظام الحكم في غزة.
ختام
القول، يكشف الوضع في غزة عن تأزم الموقف الإسرائيلي وفقدانه لأي تصورّ مستقبلي، وذلك
كله بسبب الهزائم العسكرية التي يتعرض لها في قطاع غزة، وفشله بتحقيق أي من الأهداف
المعلنة التي رسمها قبل الحرب، ولذلك بدأت إسرائيل بالبحث عن نماذج حكم بديلة، كوسيلة لتأمين مصالحها وأمنها فيما تصفه باليوم التالي للحرب. إن رد فعل القبائل
والعائلات البارزة في غزة، لا يعكس رفضا لمثل هذه الاستراتيجيات المسمومة فحسب، بل
يعكس أيضا تأكيد أهمية تقرير المصير وشرعية هياكل الحكم القائمة في غزة.
إن
هذه الشبكة المعقدة من الاستراتيجيات الإسرائيلية، لا تهدف إلى تحقيق أهداف عسكرية
فحسب، بل تهدف أيضا إلى التأثير على التصور العام والديناميكيات السياسية داخل
المجتمع الفلسطيني. ومن خلال القيام بذلك، تسعى إسرائيل إلى إضعاف موقف حماس،
عسكريا وسياسيا، في حين تحاول أيضا حشد الدعم الدولي والمحلي لجرائمها في القطاع.
ومن
خلال اقتراح قيادة فلسطينية بديلة موالية وتنسق أمنيا مع إسرائيل في غزة، تحاول
إسرائيل استبعاد حماس بشكل كامل عن حكم غزة، وتحاول كذلك خلق شكل آخر من أشكال
الاحتلال الذي يرفض ويعارض رغبة السكان في تقرير المصير واختيار نظام الحكم في
غزة، وهو ما يجب أن يتنبه له الفلسطينيون في حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وذلك من
خلال رفض الانخراط في هذه المشاريع، وتأكيد الحوار المستمر مع حماس للوصول
إلى حلول فلسطينية-فلسطينية. والسؤال الذي يبقى عالقا هو: هل يتمتع جميع هؤلاء
بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية لحمام الدم الفلسطيني؟؟