"إذا
كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض
لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم،
تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين! وإن الكيل
بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في
المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي
تاريخ الحروب
والثورات
التحريرية العظمى، دروس للمعتبرين، وإن الذكرى قد تنفع حتى البغاة
والعصاة والطغاة، فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة
القرن العشرين دون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر
1954)، وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة
والساعة الدولية، عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر
المعتبرين بدروس التاريخ الحي، الذي عشناه في هذه
الثورة لحما ودما وجهادا
و"استشهادا"، لما يزيد عن السبع سنين، مماثلة لما يراه العالم
على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في
معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد
الأمين على المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا
يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال
العريضة في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في
معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف
جيش تحريرها، حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال. وكنت شاهدا على كثير من
مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها
بالإحباطات والتقلبات والخيانات، التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962، كان
هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور
احتلال، كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال؛ إذا بقي عزم الرجال كما كان
واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع
ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير
المدفونين في القدس الشريف على مر التاريخ الإسلامي للأمة، عندما كانت
أمة حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي (الأرحم
مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر
من 4000 مجاهد سنة 1948، ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة
الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في
أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة، على امتداد سماع الآذان
وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان، مرورا
بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر:
حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة
حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما
كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام؛ لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما
قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير، التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا
لأكثر من سبع سنين دون انقطاع)، في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة،
لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله قادة العالم الغربي الاستعماري كله،
ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات
وأحقاد تاريخية دفينة.
كنا
نعتقد، وإن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة
والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة
بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان،
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار
ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار
دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان،
والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام
والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام
يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل
يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار
يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.
وهذا
المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق فقط حول مصير البشرية في
هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك
الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما
تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة
والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة
عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان البشري
المتحضر المتعلم والمتقدم"!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى)
الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب
تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.
نقاط على الحروف
لقد عشت مثلما عاش ملايين المواطنين، وسعدت مثلهم بعودة الوعي الذي
تمثل في تنظيم الملتقى الأول لكتابة تاريخ الثورة، وما تبعه من ندوات ومحاضرات
لقادة الثورة الذين لم يبخلوا بالإدلاء بشهاداتهم الناصعة والصافعة أحيانا، والمرة
كالحقيقة في فم من لم يتعود على طعمها في عهد الاستبداد والتجهيل والتضليل!
وكم كانت دهشة الجميع عظيمة بتلك الصراحة المعهودة لدى المجاهدين
وتلك الشجاعة النادرة، وأخيرا تلك الذاكرة القوية التي يتمتع بها هؤلاء الشهود مما
يبعث على الارتياح والتفاؤل بقراءة تاريخ صحيح وفصيح، يكون في مستوى عظمة تلك
الثورة، وأولئك الرجال الذين فجروها فصنعت منهم وبهم تاريخا مجيدا للبلاد، يفتخر به
كل الشرفاء من العباد.
ولقد كانت تلك الصفحات المؤلمة أولى الأجوبة المفحمة للذين يجهلون
حقيقة الثورة، أو يتجاهلون ثمن الاستقلال، وتصلب الجنرال ديغول في موقفه إلى آخر
رصاصة في جعبته، بعد أن جرب كل العمليات الجهنمية المادية منها والنفسية، لتفتيت
الصفوف والنيل من العزيمة الثورية، والوحدة الوطنية (كما أثبتنا ذلك في الفصلين
الرابع والخامس)، فتحطمت كل مخططاته على صخرة الجهاد الصلبة التي لا تلين لباطل،
ولا تحول دون هدفها أية قوة بشرية؛ لأنها قوة باركها الله وتعهد بنصرتها كما قال
في كتابه العزيز: ﴿وَكانَ حَقّا عَلَينا نَصْرُ المُؤمِنينَ﴾ [سورة الروم: 47].
و﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ﴾ [سورة آل عمران: 160].
وما أصدق المجاهدين في إيمانهم، فكان وعد الله حقّا. وكانت تلك حقيقة
أولى عن هذه الثورة التي لا يماري في انتصارها الظاهر عاقلان، ولو فرنسيان!
والحقيقة الثانية الساطعة التي أسفر عنها ذلك الملتقى، فهي أن
الاستقلال لم يكن نتيجة الصراع الطبقي (كما برهنا على ذلك في الفصل السابق)، وإنما
كان نتيجة إيمان بالحق والوطن، واقتناع بمبدأ الجهاد الذي لا يفرق بين صغير وكبير
أو غني وفقير، وإنما هو توقان إلى الحرية والكرامة والشرف التي هي قيم إنسانية لا
تعوض أبدا بالترف أو بالعلف!!
الجيل الذي خطط للثورة وفجرها لم يبقها حكرا عليه بحكم ظروف اختيارية أو اضطرارية، بل ترك الباب مفتوحا لكل الكفاءات المخلصة من أبناء الوطن، بحيث إن الذي فجر الثورة (جماعة 22) ليست هي الجماعة نفسها التي فاوضت فرنسا على الاستقلال، بل تعاقب على الثورة رجال وأجيال.
والحقيقة الثالثة، هي أن الزعيم الأول للثورة كان وسيظل هو الشعب
الجزائري من أقصاه إلى أقصاه، ولا يعود الفضل لشخص بعينه مهما كان دوره في نجاح
الثورة!
والحقيقة الرابعة المتصلة بالحقيقة الثالثة، هي أن الجيل الذي خطط
للثورة وفجرها لم يبقها حكرا عليه بحكم ظروف اختيارية أو اضطرارية، بل ترك الباب
مفتوحا لكل الكفاءات المخلصة من أبناء الوطن، بحيث إن الذي فجر الثورة (جماعة 22)
ليست هي الجماعة نفسها التي فاوضت فرنسا على الاستقلال، بل تعاقب على الثورة رجال
وأجيال.
فكانت سياسة (عمل الفريق) هي السائدة طوال أيام الثورة، حيث كان
الثوار في عمومهم عبارة عن فريق محترف لكرة القدم، هذا يمرر لذاك، وهذا يتخلى عن
موقفه أو موقعه لرفيقه، دون أية حساسية أو أنانية؛ لأن الثقة كانت متبادلة بين
المجاهدين، وغاية الجميع هي كأس النصر، دون اكتراث في الغالب بمن يحقق هدف النصر،
ذلك أن الهدف هو غاية الجميع، بقطع النظر عن الأدوار التي يقوم بها كل فرد في
عملية الإحراز على الكأس!
ومما يجدر ذكره وتوضيحه زيادة على هذه الحقائق الثابتة... هو ظهور
موقفين شبه متعارضين لدى بعض المجاهدين والثوار!
فأصحاب الموقف الأول (وهم الأكثرية) يصرحون بأن الانضمام إلى صفوف
الجهاد كان بدافع الرغبة لديهم في التضحية بالنفس، من أجل تحرير الوطن والالتحاق
بعالم الوعود والخلود في حال استشهادهم، وهو ما يجعلهم رابحين في كلتا الحالتين.
وأصحاب الموقف الثاني يؤكدون بأنهم لم يلتحقوا بالثورة ـ قط ـ من أجل
الجنة في الآخرة، وإنما التحقوا بدافع الوطنية وحدها، وبوازع من الإيمان بضرورة
التحرر والاستقلال، وطرد المحتلين من الأرض لا غير، وأنهم سعداء بعدم استشهادهم كي
ينعموا بالاستقلال والحرية.
وأمام هذين الموقفين أو الرأيين (اللذين يبدوان غير متفقين في
الظاهر)، لا نملك إلا أن نقف قليلا لنستوضح ونوضح الحقيقة الخامسة للأجيال القادمة
الفاهمة وغير العالمة!
فللفريق الأول نقول أين الوطنية؟ أليس حب الوطن من الإيمان؟ فإذا
قالوا بأنهم يعرفون ذلك جيدا نقول إذن: ينبغي أن تكون الجنة (التي تنال
بالاستشهاد)، بديلا لحياة الذل والعبودية، والظلم الاستعماري المفروض والمرفوض،
ولا تكون الجنة غاية وحيدة في ذاتها، نستعجلها على حساب أي شيء آخر، إذ إن المؤمن
يستطيع أن يدخل الجنة بطرق أخرى غير الاستشهاد في المعارك بالضرورة، أو تحت التعذيب
الجهنمي الفظيع والشنيع!!
والدليل على ذلك أن أصحاب هذا الفريق ما زالوا أحياء يرزقون ويشهدون
على ذلك، فهل عدم استشهادهم في المعارك دليل على أن هدفهم من الجهاد لم يتحقق؟ فهل
خسروا الرهان بعد طول عمرهم هذا الذي امتد لرؤية العلم الوطني يرفرف على المؤسسات
الرسمية؟ واندحار الخونة الظاهرين واسترجاع "أوراق الجنسية" في انتظار
استكمال باقي مقومات السيادة والهوية الوطنية الضامنة لبقاء أوراق الجنسية،
واستكمال مقومات الاستقلال التام؛ لأنه إذا كان كل احتلال يحمل بذور استقلال فإن
كل استقلال قد يحمل بذور احتلال أيضا، إن غابت أو غيبت روح الجهاد والنضال، من
نفوس الأجيال التي لم تعش تحت سيطرة الممثلين الأنذال!!
وفي الحقيقة، فإن هذا الفريق قد حقق (كما هو مفروض) هدفا مضاعفا، أو
هدفين اثنين من الجهاد الأصغر (أو جهاد الدفع) حيث نعموا بالهدف العاجل المتمثل في
تحقيق هذا الاستقلال، وسينعمون ـ إن شاء الله ـ بالهدف الآجل في جنة رضوان؛ لأنها
هي خير وأبقى، إن ظلوا أوفياء لعهدهم وجهادهم لمواصلة المعركة المتوارثة بشرف،
خلفا عن وسلف، إلى أن يتوفاهم الله غير مبدلين ولا مغيرين، كما وعدهم في كتابه
اليقين، الذي تقول آياته: ﴿فمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [سورة الأحزاب:23].
وهنا تظهر شمولية الإسلام، وعبقرية التنزيل التي يجب أن تفهم في
سياقها الصحيح وإطارها الكامل، حيث جعل الله عز وجل الآخرة والدنيا تخدم كلاهما
الأخرى، ولا تقام الواحدة على حساب الأخرى.
فلولا الدنيا ما استشهد شهيد، ولولا الآخرة ما تحرّر عبيد! تطلب
الموت تأتيك الحياة، وتجاهد من أجل الجنة فتنال الاستقلال والحرية رغما عنك! تحقق
الاستقلال للآخرين بجهادك، فتكتب لك الجنة، عاجلا أو آجلا، وتنال الحسنيين بدلا من
حسنى واحدة إن بقيت على عهدك ونيتك، ليكون الجهاد هو أفضل تجارة رابحة على
الإطلاق؟! بحيث إن صاحبه يفيد ويستفيد دائما، إذا تمسك بجعل دنياه في خدمة أخراه،
وأخراه في خدمة دنياه. وهذا على الأصح هو المعنى الذي يجب أن يفهم بالنسبة للجهاد
والاستشهاد في الإسلام، من أجل تحقيق الاستقلال الذي قد ينعم به المجاهدون وغير
المجاهدين!؟
وأما بالنسبة لأصحاب الرأي أو الموقف الثاني فنقول؛ إن لكل ثائر أو
مجاهد الحق في أن يصرح بما كان ينويه، في قرارة نفسه التي لا يعلم نجواها إلا
خالقها، وأن كل فريق صادق في شهادته على نفسه بما كان يضمره وينويه في قلبه، إلا
أن الذي يهم في هذه الحالة هو رأي الأغلبية من المجاهدين الشهداء والأحياء على حد
سواء. وهنا يحق لنا أن نسأل و نتساءل -للتاريخ- عن الذي كان يحدو الأغلبية الساحقة
من أبطال الجهاد، هل كان الدافع الجهادي والاستشهادي بالمعنى الذي فهمه الفريق
الأول هو السائد والغالب لدى المجاهدين، (و نحن على ذلك من الشاهدين) أم كانوا
يحاربون فقط من أجل الاستقلال دون أية نية
في الاستشهاد والفوز بالجنة كبديل محقق للمخلصين في نيتهم الجهادية لوجه الله
والوطن!؟
فإذا كان الجواب بنعم، فمن أين أتت كلمة (الجهاد والاستشهاد،
والمجاهد؟).
ينبغي أن تكون الجنة (التي تنال بالاستشهاد)، بديلا لحياة الذل والعبودية، والظلم الاستعماري المفروض والمرفوض، ولا تكون الجنة غاية وحيدة في ذاتها، نستعجلها على حساب أي شيء آخر، إذ إن المؤمن يستطيع أن يدخل الجنة بطرق أخرى غير الاستشهاد في المعارك بالضرورة، أو تحت التعذيب الجهنمي الفظيع والشنيع!!
ولماذا لم يختر قادة الثورة اسما آخر للثوار؟ غير هذا النعت الديني
الصرف المقدس، حتى إننا نذكر أن العديد من المواطنين كانوا يقسمون "بحق
الجهاد" بدلا من "حق العباد" من الأولياء والصالحين، كما هو واقع اليوم بعد إقفال باب
الجهاد و الاجتهاد.
وإذا أجاب أحدهم بأن بعض قادة الثورة قد اتخذوا من الإسلام وسيلة،
والجهاد منهجا وطريقة لتحميس الجماهير (الأمية المؤمنة) فقط، دون أن يكونوا هم
مؤمنين بما يقولون... فنقول له: هل كان قادة الثورة مخادعين يقولون مالا يفعلون أو
ما لا يؤمنون به؟ وهذا ما ننزه عنه كل القادة من الشهداء وغير الشهداء الذين
نعرفهم أو نعرف عنهم؛ لأنهم كانوا على درجة عالية من الإيمان بالله، والتقوى
والتدين، ومن ثم لم يكونوا يكذبون، ولا ينافقون، ولا يخادعون، وإذا وجد بعض
"الثوار" من الذين لم يلتحقوا بالجبال بنية الذهاب إلى الجنة (كما يصرح
بعضهم اليوم بذلك!) فإن ذلك من حقهم، وهو ليس غريبا ولا مستبعدا وقوعه في كل عصر
ومصر! ولكن الذي يجب أن ننبه إليه هو أن يتوهم البعض أن هذه النسبة القليلة جدا من
الثوار، هي التي حققت الاستقلال (وليس الملايين من المؤمنين الصادقين الذين لم
يكونوا يعرفون غير االله أكبر في المعارك سلاحا أو الجنة للشهداء جزاء)، هم الذين
كانوا وقودا للثورة، وطعما للرصاص طوال سبع سنوات ونصف من النيران الملتهبة دون
خمود أو همود، حتى أرغموا العدو على التفاوض معهم على الاستقلال.
ونعود إلى التذكير بضرورة معرفة معنى الجهاد في الإسلام، الذي لم
يدرك بكل أبعاده لدى بعض هؤلاء المجاهدين أنفسهم من الذين حرمهم الاحتلال من
الثقافة الوطنية، وهم الذين نعنيهم تحديدا هنا بالفئة الثانية المضللة ثقافيا وإيمانيا مع الأسف.
ولتوضيح ذلك نريد أن نسأل هنا ـ جدلا ـ أحد أصحاب هذا الفريق (من
الذين لم ينووا الذهاب إلى الجنة عند الالتحاق بصفوف المجاهدين، كما صرح أحدهم بذلك
أمام الأشهاد في هذه الأيام)، فنقول لهذا الثائر الوطني هل كان يضع الموت في حسبانه
عندما التحق بالجبل أم لا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل كان مؤمنا بالبعث
الأخروي أم لا؟ وإذا كان مؤمنا بالأخرى حقّا، فهل كان سيرفض الذهاب إلى الجنة لو
قدر له أن يسقط في الميدان؟ أم سيقول إنه عندما ذهب إلى الجبل لم يكن يرغب في
الجنة، ولكن إذا فرضت عليه في الآخرة فلا يرفضها.
وهنا بصرف النظر عن درجة النيات ونوعيتها لدى الفريقين (كما أسلفنا)،
فإننا نجدهما يلتقيان بالضرورة في نقطة واحدة أو هدف واحد ـ على الأقل ـ وهو
الاستقلال، والله وحده أعلم بمن يختار إلى جواره، وكيف ومتى يتم هذا الاختيار،
والدليل على ذلك أن الله لم يشرف هذا الثائر بالشهادة، وأخذ الأخيار فقط، وهو أدرى
بالأبرار من المجاهدين المؤمنين، ومن الثوار الملحدين والمشركين.
فإذا كان الجواب بالنفي لدى هذا الفريق، أي إنه لم يكن يؤمن بالآخرة
(لا خيرها ولا شرها) فكيف ينتظر منه الخير الكثير للوطن ولغيره مادام يحب الحياة
ولا يؤمن بسواها بديلا، وتكون الأسباب التي دفعته إلى الموت (إذا افترضنا أنه كان
صادقا في تضحيته بعمره)، لا تعدو أن تكون هي نيل الشهرة وتسجيل اسمه في التاريخ. وهذا ما قد حصل.
نقول ذلك لأننا نعلم أن شعار الحزب الشيوعي هنا في الجزائر وفي فرنسا
أيضا، قبل الثورة وبعدها، كان يتمثل في شيئين اثنين هما: (الخبز والأرض) وإذا
حدثنا التاريخ عن أقوام ماتوا من أجل الكرامة والشرف، فلم يحدثنا عن أقوام ماتوا
بسبب الجوع، مهما كان نوعه وبلغت درجته؛ لأن الإنسان يستطيع أن يحيا بالحشيش ولا
يموت، وقد فعلها ألوف المجاهدين في حرب التحرير حين جاعوا، فأكلوا الحشيش (في أثناء
عملية المنظار الشهيرة(*))، ولم يستسلموا إلى الخبز في ثكنات العدو؛ لأن الشرف عند المجاهدين فوق العلف، بل فوق الحياة الدنيا ذاتها بكل ما فيها وما عليها!
وبعد هذا وذاك، فإن التاريخ القريب يشهد لنا أن الذي حقق الاستقلال
للجزائر هو جهاد وصمود الأبطال أمثال محمد العربي بن مهيدي، الذي استشهد تحت
التعذيب دون أن يبوح للعدو بكلمة سر واحدة، بشهادة جلاديه أنفسهم! فالذي حرر
الجزائر -في نظرنا- ومتعنا بهذه الحرية والاستقلال، هم المجاهدون المؤمنون بالجنة
والحياة الكريمة معا، والأغلبية هي القاعدة في هذه المسألة وليس الاستثناء.
إنهم أمثال ذلك الشهيد الذي كان يحتضر تحت الاستنطاق والتعذيب الشنيع، ولما أبى البوح بأي سر عن الثورة، تعجب منه الضابط الفرنسي المستنطق وسأل في
استغراب عن سر ذلك التحمل العجيب. فأجابه أحد الحاضرين من أبناء جلدتنا (أمام
شهود مازالوا أحياء يرزقون)، بأن هذا النوع من "الخارجين عن القانون" قد
أقسموا على القرآن بألا يبوحوا بأي سر عن تنظيم الثورة، ونظام المجاهدين كي
يذهبوا إلى الجنة.
لولا الدنيا ما استشهد شهيد، ولولا الآخرة ما تحرّر عبيد! تطلب الموت تأتيك الحياة، وتجاهد من أجل الجنة، فتنال الاستقلال والحرية رغما عنك!
وهذا الشهيد ليس إلا واحدا من الآلاف الذين صنعهم الإسلام الواضح
والإيمان الراسخ، في مدرسة ابن مهيدي الجهادية والوطنية النموذجية.
وإذ نكرر مرة أخرى مبدأ الأعمال بالنيات، وأن لكل امرئ ما نوى... لا
نقبل أن يتحول الاستثناء إلى قاعدة، والقاعدة إلى استثناء، فذلك من أقدس مهمات
الباحثين والحريصين على كتابة تاريخ ثورة الجهاد للأولاد والأحفاد.
وهناك تصريح
آخر لأحد قادة الثورة في شهر نيسان/أفريل من هذه السنة (1982) في أثناء محاضرة ألقاها في
اتحاد الكتاب الجزائريين(*) (وقد كنت من
بين الحاضرين): حيث ورد على لسانه ما يفيد بأن الجمعيات الدينية (بما فيها جمعية
العلماء المسلمين الجزائريين)، كانت أكبر عثرة واجهت الثورة عند اندلاعها...
والحقيقة أن هذا التصريح يؤكد لنا مرة أخرى ما قلناه عن الدور الأساسي للدين
الإسلامي في الثورة التحريرية المجيدة؛ لأن الشعب الجزائري المؤمن لا يثق في أحد
غير متدين، ولذلك بقيت الكلمة الأخيرة للدين ورجاله الموثوق في إخلاصهم وجهادهم،
وهو أكبر دليل على دور الدين في تعبئة الجماهير للثورة، الذين ظل الشعب ينتظر
تزكيتهم وفتواهم لمشروعية الجهاد، وهذا ما قد حصل بالفعل.