لم
تشهد الولايات المتحدة هذا السقوط المدوي لحرية التعبير والحرية الأكاديمية الذي
شهدناه في الأشهر القليلة الماضية، منذ عهد المكارثية في الخمسينيات والاحتجاجات المناهضة
لحرب فيتنام في أواخر الستينيات من القرن الماضي. وقد تلا ذلك الحملات القمعية في أعقاب
أحداث 11 أيلول/ سبتمبر والغزو الأمريكي
للعراق وأفغانستان، لا سيما في مجال القانون والمراقبة، وخاصة داخل
الجامعات (وفي
تلك الأثناء، تم استهدافي لأول مرة من قوى القمع؛ لإيقافي عن تدريس تاريخ
فلسطين
وإسرائيل).
وقد
ساد الاعتقاد لدى الليبراليين الغربيين، بأن هذا النوع من القمع، وخاصة في الجامعات
التي أعادت إلزام نفسها في أعقاب استخدامها الأساليب القمعية في الستينيات بالمُثُل
الليبرالية، التي غالبا ما تلوح بها بأعلى صوت، لن يتكرر أبدا في جمهورية الولايات المتحدة
بالمستوى الذي نشهده في الوقت الحالي. وباعتباري كنت ولم أزل أخضع للمضايقات المستمرة
لأكثر من عقدين من الزمن من قِبَل جامعة كولومبيا، حيث أدرس منذ ربع قرن، التي تعاونت
مع قوى خارجية من خارج أسوار الجامعة، للحد من حريتي في التعبير ومن حريتي الأكاديمية
من خلال تهديدات صريحة وضمنية، فأنا لم أتبنّ قط هذا الاعتقاد الليبرالي، رغم العديد
من محاولات إقناعي به.
وعادة
ما يتعثر التزام المؤسسات بهذه المبادئ والحريات في المجتمعات الليبرالية، ويتراجع بمجرد
الحكم عليها بأنها فعّالة في مساءلة وتهديد العقيدة السياسية السائدة. ربما ثمة حاجة إلى درس في النظرية السياسية لفهم
أداء الدولة الليبرالية ومؤسساتها.
كانت
نصيحة نيكّولو ماكيافيلي سيئة السمعة للحكام، حول ما إذا كان ينبغي عليهم أن يهدفوا
إلى أن يكونوا محبوبين أم مهابين، هي أن الحكام يرغبون في "أن يكونوا الاثنين
معا، ولكن بما أن هذين الهدفين لا يجتمعان بسهولة، وإذا كان عليك اختيار أحدهما، فالأكثر
أمانا هو أن تكون مهابا على أن تكون محبوبا"، تتضمن أنظمة الحكم الحديث ضرورة
أن يستمع الحكام المستبدون والديمقراطيون على حد سواء إلى مثل هذه النصيحة كملاذ أخير،
ولكن يتعين عليهم أيضا أن يؤسسوا في تلك الأثناء آليات يستطيعون من خلالها أن يضمنوا
أنهم محبوبون أيضا. لقد فهم كارل ماركس فعالية تلك الآليات التي تهدف إلى إنتاج
"الحب" والطاعة المطلوبة غير القسرية لنظام الحكم، باعتبارها "أيديولوجيا".
غالبا ما يُشار إلى النظام الذي يستخدم أساليب هيمنة أكثر من الوسائل الإكراهية على أنه نظام "ديمقراطي"، في حين يُشار إلى النظام الذي يستخدم أساليب إكراهية أكثر من أساليب الهيمنة على أنه نظام "استبدادي". والحقيقة أن كليهما مصمم لإنتاج الخوف من النظام الحاكم والحب الطوعي له، لكنهما يقومان بذلك بكميات مختلفة.
فبدلا
من النظر إلى أنظمة الحكم الاستبدادية والديمقراطية المعاصرة على أنها أنظمة متعارضة
إن لم تكن متضادة، كما يحاجج معظم المعلقين السياسيين، ينبغي علينا، كما كنت قد
حاججت سابقا، وبناء على طروحات المنظر السياسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي كان قارئا
فطنا لماكيافيلي، النظر إليهما على أنهما نفس نظام الحكم، حيث يستخدم هذا النظام كميات
متفاوتة من الهيمنة والإكراه -المكونان الرئيسيان للسيطرة- لإنتاج الرضى والموافقة
الشعبية.
غالبا ما يُشار إلى النظام الذي يستخدم أساليب هيمنة أكثر من الوسائل الإكراهية على أنه نظام "ديمقراطي"، في حين يُشار إلى النظام الذي يستخدم أساليب إكراهية أكثر من أساليب الهيمنة على أنه نظام "استبدادي". والحقيقة أن كليهما مصمم لإنتاج الخوف من النظام الحاكم والحب الطوعي له، لكنهما يقومان بذلك بكميات مختلفة.
كان
غرامشي يقصد بالهيمنة القواعد الفكرية والمؤسسية والأخلاقية الحاكمة للمجتمع، باختصار،
ما يشار إليه غالبا باسم "الثقافة" الحاكمة. وقد سمّى الفيلسوف الفرنسي لوي
ألتوسير هذه بـ"أجهزة الدولة الأيديولوجية"، وأطلق على الآليات الإكراهية
اسم "أجهزة الدولة القمعية". وقد أشار البراغماتيون الناطقون باللغة الإنجليزية
إلى هذه الاستراتيجيات منذ الحرب العالمية الثانية بمصطلح "الجزرة والعصا".
سيساعدنا فهم هذه الآليات على تحليل الوضع القائم اليوم في الجامعات الأمريكية.
عندما
لا تعود الهيمنة كافية لضمان موافقة الشعب على سيطرة نظام الحكم فيما يسمى بأنظمة الحكم
"الديمقراطية"، أو إذا فشلت في مهمتها المتمثلة في إنتاج تلك الموافقة، مما
يؤدي إلى أزمة سلطة، فإن مقدار الإكراه يتزايد بسرعة فائقة لضمان استمرار الهيمنة،
مراعاة لمقولة ماكيافيلي أنه "الأكثر أمانا، هو أن تكون مهابا على أن تكون محبوبا".
وقد استخدمت وتُستخدم هذه الاستراتيجية من قبل كل من الأنظمة "الاستبدادية"
و"الديمقراطية" في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وقد استخدمتها الولايات
المتحدة بشكل دوري خلال كل عقد من الزمن منذ الحرب العالمية الأولى، وقد بلغت ذروة
استخدامها لهذه الاستراتيجية في سن قانون باتريوت ("الوطني")، وممارساتها
في معسكر غوانتانامو، وممارسات "تسليم" الأسرى وتعذيبهم، وسياسة الاغتيالات،
وغير ذلك من التدابير القمعية المتنوعة التي استهدفت وتستهدف المواطنين وغير المواطنين
منذ عام 2001.
في
تلك الحالات التي يكون فيها النظام لا يزال يتمتع بالمحبة، ومن ثم بالشرعية
الشعبية، فإن استخدامه للمزيد من الإكراه قد يهدد الاستقرار، ويمكن أن يؤدي إلى المزيد
من التعبئة الشعبية ضد النظام (أو ضد إدارة الجامعة في حالتنا) بدلا من التسريح المنشود.
ومع مثل هذه التعبئة، يخاطر النظام بخسارة محبة شعبه له والخوف منه معا، ولذلك يُنصح
أحيانا بالتقليل من الإكراه والمزيد من الهيمنة من أجل استعادة الاستقرار. هذا هو الظرف
الذي أخطأت في فهمه رئيسة جامعة كولومبيا نعمت "مينوش" شفيق، وآخرون ممن ساروا
على خطاها في الآونة الأخيرة.
وتوضح
الحملة الضخمة التي تستهدف أعضاء هيئة التدريس والطلاب في الجامعات الأمريكية في الأشهر
السبعة الماضية هذه الاستراتيجيات. وقد سبقتها بروفة قبل عشر سنوات خلال حرب
إسرائيل
على غزة عام 2014، عندما فقد البروفيسور ستيفن سلايطة منصبه كأستاذ في جامعة إلينوي؛ لأن إحدى تغريداته ضد قتل الفلسطينيين كشفت حدود المعارضة المقبولة في الثقافة السياسية
السائدة والمساندة لإسرائيل في الولايات المتحدة.
تعمل
الجامعات، وكذلك نظام القواعد الليبرالية الذي يدعمها، بشكل جيد عندما لا تؤدي الحرية
الأكاديمية وحرية التعبير إلى الحيد عن الأفكار المهيمنة، إلا بالقدر الذي لا يهدد
تلك الهيمنة. ما يعنيه ذلك، هو أن الدفاع عن هذه
الحريات مضمون عندما لا يتم اختباره
فعليا، بمجرد أن تهدد المعارضة الأفكار المهيمنة للأيديولوجيا الحاكمة وتختبر مدى تسامحها،
فإن القمع يتبع ذلك بأشكال مختلفة داخل الجامعة، ومن قبل القوى الخاصة والعامة خارج
أسوارها.
تعد جامعة كولومبيا، باعتبارها معقلا رئيسا للحفاظ على أيديولوجيا النخبة الحاكمة، ضرورية للحفاظ على الاستقرار الأيديولوجي. لكن يُستشعر الخوف عندما ينحرف طلابها وأعضاء هيئة التدريس عن النص الليبرالي، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى ما يسمى بتأثير "وقوع قطع الدومينو تباعا" على بقية النظام الجامعي في جميع أنحاء الولايات المتحدة، أو حتى يمكن أن ينتقل إلى أنظمة ليبرالية أخرى.
تعد جامعة كولومبيا،
باعتبارها معقلا رئيسا للحفاظ على أيديولوجيا النخبة الحاكمة، ضرورية للحفاظ على الاستقرار
الأيديولوجي. لكن يُستشعر الخوف عندما ينحرف طلابها وأعضاء هيئة التدريس عن النص الليبرالي،
حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى ما يسمى بتأثير "وقوع قطع الدومينو تباعا" على
بقية النظام الجامعي في جميع أنحاء الولايات المتحدة، أو حتى يمكن أن ينتقل إلى أنظمة
ليبرالية أخرى، كما حدث مؤخرا في الجامعات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا،
وأستراليا.
وفي الواقع، لقد
انتقلت النشاطات المعارضة للطلاب وأعضاء هيئة التدريس ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية
المستمرة إلى عشرات الجامعات، بما في ذلك جامعة نيويورك، وييل، وكورنيل، وهارفارد،
وبرينستون، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة إيموري، وجامعة تكساس في أوستن، وجامعة
كاليفورنيا في بيركلي، وجامعة جنوب كاليفورنيا، على سبيل المثال لا الحصر من الأمثلة، التي تم فيها استخدام القمع الهائل مؤخرا أو التهديد باستخدامه.
لقد
تمت إدانة الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في جامعة كولومبيا من قبل الكونغرس، والبيت الأبيض،
ورجال الأعمال الأثرياء، والمنظمات الخاصة، والمديرين التنفيذيين للشركات، والصحافة
المحافظة والليبرالية، وكذلك من قبل مجلس أمناء الجامعة نفسه ومن رئيسة جامعة
كولومبيا نعمت شفيق الشوساء (أم هل هي خائفة ربما؟). وقد تلقوا المساعدة والتحريض من
قبل شرطة مدينة نيويورك التي دعتها شفيق لقمع الطلاب وحرمانهم من حرياتهم الليبرالية،
التي، ويا للمفارقة، لم تزل شفيق تواصل الاحتفاء بها خطابيا بينما تقوم بقمعها عمليا!!
قد
يعتقد المراقب لهذه الإجراءات القمعية، بأن هؤلاء الطلاب وأعضاء هيئة التدريس يدعمون
الإبادة الجماعية بدلا من معارضتها؛ أو أنهم يدعمون الوحشية التي يتعرض لها شعب، وليس
وقف الإبادة الجماعية لذلك الشعب الذي اضطهدته إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948، مصحوبة
بجرعة كبيرة من الدعم الليبرالي والمحافظ الغربي لها. أو بأن هؤلاء الطلاب وأعضاء هيئة
التدريس يدعمون زيادة تواطؤ جامعة كولومبيا في دعم الفصل العنصري والاستعمار الإسرائيلي،
وليس أنهم يطالبونها بوقف هذا التواطؤ.
إن
عكس الأدوار في القضية الفلسطينية والإسرائيلية في جميع أنحاء العالم الغربي، هو عملية
أورويلية للغاية، لدرجة أن الفلسطينيين، الذين تم اضطهادهم بأعنف الطرق الممكنة من
قبل مستعمرة استيطانية أقامتها أوروبا على أرضهم لمدة ثلاثة أرباع قرن من الزمان، يتم
تصويرهم على أنهم هم مرتكبو الإبادة الجماعية والمعادون للسامية من قبل المسيحيين الأوروبيين
والأمريكيين البيض المؤيدين للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل اليوم، والذين ارتكب
أسلافهم المحرقة أو دعموها أو التزموا الصمت بشأنها.
عكس الأدوار في القضية الفلسطينية والإسرائيلية في جميع أنحاء العالم الغربي، هو عملية أورويلية للغاية، لدرجة أن الفلسطينيين، الذين تم اضطهادهم بأعنف الطرق الممكنة من قبل مستعمرة استيطانية أقامتها أوروبا على أرضهم لمدة ثلاثة أرباع قرن من الزمان، يتم تصويرهم على أنهم هم مرتكبو الإبادة الجماعية والمعادون للسامية من قبل المسيحيين الأوروبيين والأمريكيين البيض المؤيدين للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل اليوم.
وفي
المناخ النيوليبرالي اليوم، أصبح القمع المتزايد داخل الولايات المتحدة ضرورة من أجل
الحفاظ على الوضع الراهن المؤيد للإبادة الجماعية. فقد تم تنفيذ هذه المهمة منذ 11
أيلول/ سبتمبر من خلال التشريعات القمعية والمراقبة البوليسية القانونية وغير القانونية،
وأيضا عبر عسكرة قوات الشرطة بشكل أكثر شمولا في جميع أنحاء البلاد. ومع اعتبار المتظاهرين
السلميين ضد العلل الاقتصادية والفقر، على أنهم متظاهرون "ليسوا غير-عنيفين"
أو "غير غير-عنيفين"، فقد نشأت عقلية جديدة تماما حول كيفية قمعهم.
ولكن، بما أن الشرطة العسكرية قد تم نشرها لقمع هؤلاء المنشقين "غير غير-العنيفين"،
سواء في أثناء حركة "احتلوا وول ستريت"، أو لاحقا خلال انتفاضات "حياة
السود مهمة"، فإنها لم تتمكن من القيام بذلك بسهولة مع المنشقين داخل أسوار
الجامعات، على الأقل لحين دعتها الرئيسة شفيق مرتين للقيام بذلك في الأسابيع الأخيرة.
ومع ذلك، فإن تحقيق هذه السيطرة على النظام الجامعي على المدى الطويل، لن يكون سهلا
في ظل ثقافة جامعية تدعي تقدير الحرية الأكاديمية وحرية الرأي. لذلك، كان لا بد من العثور
على حلقة ضعيفة في سلسلة الحرية الأكاديمية، حلقة يمكن للناس أن يحشدوا حولها بسهولة
أكبر، حلقة يمكن أن تشكّل سابقة، هنا وفي هذا السياق برزت قضية فلسطين وإسرائيل.
وكما
حاججت قبل عشر سنوات، لقد كان هناك إجماع قوي منذ عام 1948 بين مختلف فروع النخبة الأمريكية
بشأن إسرائيل، مصحوبا بدعم شعبي واسع النطاق. وفي حين أن المعارضة لهذا الإجماع كانت
موجودة دائما، إلا أنها كانت مقتصرة على أفراد وجماعات سياسية مهمشة، وفي حالة الأخيرين،
إذا لم يكن الفرد أو المجموعة مهمشين بالفعل، فسوف يترتب على ذلك تهميشهم على الفور.
ولكن
في السنوات الخمس والعشرين الماضية، انتقلت المعارضة بشأن قضية فلسطين والإسرائيليين
من الهامش إلى المركز في الولايات المتحدة، إلى الفنانين والعلماء والصحفيين والأكاديميين
والطلاب، بما في ذلك الأكاديميون اليهود البارزون والطلاب اليهود. وفي حين كان نعوم
تشومسكي سابقا الأكاديمي اليهودي البارز الوحيد الذي انشق عن إسرائيل، وتم تهميشه من
قبل الرأي العام السائد عقابا له على معارضته، فإن عددا كبيرا من الأكاديميين اليهود،
والعديد من الطلاب اليهود، هم اليوم منشقون.
لكن
الإجماع السائد المستمر في مراكز الحكم وبين النخبة بشأن إسرائيل، هو ما يجعل القوى
المقتنعة بأن نجاح حملتها لقمع المعارضة في الجامعات سيكون أكثر رجحانا، إذا كان الفلسطينيون
وإسرائيل هم نقطة دخولها، حيث يمكنهم تسليط الضوء على المسائل ذات الصلة التي ثمة إجماع
عليها، وهي على وجه التحديد، مسألة معاداة السامية، وتاريخ المحرقة اليهودية، وكيف
أن إسرائيل هي "الديمقراطية" المزعومة الوحيدة في الشرق الأوسط.
إن
استخدام فلسطين والإسرائيليين كمدخل لقمع المعارضة داخل أسوار الجامعة، هو عملية تكتيكية
واستراتيجية على حد سواء: إنها تكتيكية لأنه بمجرد نجاحها، فإنها ستختطف السلطة
الإدارية لكيفية إدارة الجامعات التي يمتلكها الأساتذة، وتنقلها إلى إداريي الجامعات
النيوليبرالية (وهو ما حدث في جامعة كولومبيا في الأسابيع القليلة الماضية)، ومن شأن
ذلك أن يشكّل سابقة يترتب عليها تأثير سيخيف المعارضة لسياسات أخرى، وربما أكثر خطورة، التي تحظى بدعم شعبي أكبر من الدعم الشعبي الذي يحظى به الفلسطينيون (كمعارضة
النظام النيوليبرالي نفسه، ومعارضة إفقار الناس، وقمع الفقراء والسود، وعنف
الشرطة، والاجتياحات العسكرية الأمريكية حول العالم، وما إلى ذلك).
استخدام فلسطين والإسرائيليين كمدخل لقمع المعارضة داخل أسوار الجامعة، هو عملية تكتيكية واستراتيجية على حد سواء: إنها تكتيكية لأنه بمجرد نجاحها، فإنها ستختطف السلطة الإدارية لكيفية إدارة الجامعات التي يمتلكها الأساتذة، وتنقلها إلى إداريي الجامعات النيوليبرالية (وهو ما حدث في جامعة كولومبيا في الأسابيع القليلة الماضية)، ومن شأن ذلك أن يشكّل سابقة يترتب عليها تأثير سيخيف المعارضة لسياسات أخرى.
دعوني
أذكِّر هنا بأن مؤسسة فورد كانت قد استخدمت الفلسطينيين وإسرائيل في عام 2003 لفرض
شرط يقضي بأن يقوم الحاصلون المحتملون على منح مؤسسة فورد بالتوقيع على بيان يتعهدون
فيه بمعارضة "العنف، أو الإرهاب، أو التعصب، أو تدمير أي دولة"، وهي الخطوة
التي كانت، في ذلك الوقت، قد أثارت إدانة بعض عمداء الجامعات بما في ذلك جامعة برينستون،
وستانفورد، وهارفارد، وجامعة شيكاغو، وجامعة بنسلفانيا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا،
وييل، وكورنيل، وجامعة كولومبيا، ولم يترددوا للحظة في الدفاع عن الحرية الأكاديمية.
وقد
كتب عمداء هذه الجامعات خطابا لمؤسسة فورد في نيسان/ أبريل 2004 (أي قبل بضعة أشهر
من بدء حملة القمع الرسمية التي استهدفتني في جامعة كولومبيا)، أعربوا فيه عن
"مخاوف جدية" بشأن اللغة الجديدة، على أساس أنها تحاول "تنظيم سلوك
الجامعات وخطابها خارج نطاق المنحة". وكتبوا: "من الصعب أن نرى كيف أن هذا
البند لن يتعارض مع المبدأ الأساسي المتمثل في حماية التعبير في جامعاتنا".
يعد
استخدام فلسطين والمسألة الإسرائيلية بهذه الطريقة أيضا، أمرا استراتيجيا لوقف المد
المتزايد للمعارضة الأكاديمية ضد إسرائيل، وتحديدا فيما يتعلق بالمقاطعة وسحب الاستثمارات
التي تؤثر على أشكال الاستثمار النيوليبرالية والسياسة الأمريكية الشاملة في الشرق
الأوسط. وفي هذا السياق، كان الهجوم الذي استهدفني قد اشتد بين عامي 2002 و2009 في
جامعة كولومبيا، لكنه فشل في نهاية المطاف، رغم جهود الكثيرين من المتنفذين في عرقلة
تثبيتي في الجامعة.
واليوم، نقف مرة أخرى أسرى في قبضة هذه الحرب المستمرة. في اللغة الأورويلية الحالية، تُترجم
معارضة الإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين على أنها دعم للإبادة الجماعية الفلسطينية
لليهود؛ وتترجم معارضة التفوق العرقي اليهودي الإسرائيلي والفصل العنصري الاستعماري، إلى شكل من أشكال معاداة السامية؛ ويصبح قمع الحرية الأكاديمية وحرية التعبير المحمية
في الجامعات شكلا من أشكال الدفاع عنها.
يبدو أن كبار المسؤولين النيوليبراليين في
الجامعات ومموليهم من القطاعين العام والخاص وحلفاءهم في الحكومة، يعملون تحت وهم أنهم
قادرون على قمع معارضة الإبادة الجماعية بكل قوة ممكنة، وأن هذا من شأنه إنهاء المعارضة
وتعزيز الدعم الثابت للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في الولايات المتحدة وداخل
دوائر النخبة الغربية. لكن ما أثبته الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في الأشهر السبعة الماضية، هو أن الهيمنة الأيديولوجية الغربية حول الفلسطينيين وإسرائيل قد فُقدت إلى الأبد،
وأنه كلما زاد استخدام نظام الحكم والإدارات الجامعية للإكراه لإعادة وترسيخ الهيمنة، تآكلت تلك الهيمنة أكثر.