سبل تفعيل المقاصد في المجال الاقتصادي:
أمام هذه الحاجة المتبادلة بين المقاصد والاقتصاد يظل السؤال الأهم
هو كيف يمكن تنزيل ذلك في الواقع وماهي سبل تفعيل المقاصد الشرعية في الحقل
الاقتصادي؟ أو بعبارة أدق كيف يمكن توظيف المقاصد في الإجابة على القضايا العملية
الكبرى التي تؤرق الفكر الاقتصادي المعاصر وتحول دون تحقيق جملة الاهداف المرسومة.
ويمكن اجمال تلك القضايا والاشكاليات فيما يلي:
ـ توظيف المقاصد في تحديد أصل المشكلة
الاقتصادية:
تعد المشكلة الاقتصادية جزءا من مشكلات الانسان عموما وهي لا تزال
تشكل مسألة خلافية في التشخيص والمعالجة بين النظريات والمذاهب الفكرية والنظم
الاقتصادية المختلفة. ففي حين تختزل النظرة الرأسمالية المشكلة الاقتصادية في
مقولة الندرة أي ندرة الموارد ومحدوديتها مقابل تزايد حاجيات الانسان وتوسعها جراء
تطور الحياة الانسانية ومتطلباتها، تقوم النظرة الماركسية على فكرة التَّناقض
الجوهري والمستمرِّ بين نظامي الإنتاج والتوزيع في المجتمع.
يقدم الإسلام نظرة مغايرة لفهم المشكلة الاقتصادية وأسبابها، تستند
الى نقد للنظرتين الرأسمالية والاشتراكية من جهة، وتقوم على تحميل المسؤولية لسلوك
الانسان كفرد وككيان مجتمعي من جهة أخرى. ويعود أصل المشكلة وفق هذه النظرة
بالأساس الى ظاهرة الفساد وما يتعلق بها من استغلال الموارد وهدر الثروات، وسوء
التوزيع الذي يرتبط بالظلم والنهب واستغلال العلاقات الاقتصادية في المجتمع الواحد
وبين الشعوب والمجتمعات البشرية، طبقا للنص القرآني الصريح في هذا الإطار: ﴿ظهر
الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس﴾ (الروم/41).
القاعدة الذهبية للتمويل الإسلامي هي قاعدة تقاسم المخاطر أو المشاركة في الربح والخسارة والتي تستند إلى اقتباسات نبوية ذات أهمية كبيرة "الغنم بالغرم والخراج بالضمان" مما يعني أنه لا يوجد ربح بدون مخاطر ولا مكافأة بدون ضمان
والقاعدة الشرعية الكبرى التي تنبني عليها الشريعة كلها كما حدد ذلك
أهل العلم، هي قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" وتعتبر مقصدا
عظيما من مقاصد الشرع ومبدأ تأصيليا من مبادئ الاقتصاد الإسلامي في مقاومة الفساد.
وتعكس هذه القاعدة الأصولية المقاصدية فرادة النظرة الإسلامية للفساد
باعتباره أصل المشكلة الاقتصادية الأمّ ومصدر الظلم السائد في حياة البشر، فلولا
انتشار الفساد بمعناه العام لما كانت هناك مشكلة اقتصادية أصلا. فالمعادلة بين
الاثنين معادلة صفرية، كلما تفاقمت ظاهرة الفساد كلما احتد حجم المشكلة
الاقتصادية، والعكس صحيح أيضا. ولا شك أن هذه النظرة المتميزة تختلف جذريا مع
النظرة الوضعية التي حبست المسألة في دائرة الندرة، واتجهت للنتيجة بدل الاهتمام بالسبب.
ولم يفلح التفكير البشري في هذا الجانب للوصول الى الحقيقة العلمية للفساد
باعتباره نتيجة طبيعية للسلوكيات الانسانية- بما كسبت أيدي الناس- كما عبر عن ذلك
القرآن الكريم، وليس لندرة الموارد. فالنظرة الإسلامية تقوم على حقيقة الوفرة وليس
مشكلة الندرة، لأن الكون يزخر بالثروات والموارد المكشوفة منها والمكنونة،
والسلوكيات الاقتصادية للأفراد والمجتمعات من فساد وظلم بالأساس في علاقة بالتخصيص
غير العادل وغير الكفؤ للموارد فضلا عن التوزيع غير العادل للثروة هو الذي يحدد
طبيعة وحجم المشكلة الاقتصادية.
ـ توظيف المقاصد في تحديد الأولويات
التنموية:
من المعضلات الأساسية التي تواجه مشاريع التنمية في معظم بلدان
العالم وخصوصا البلدان النامية منها تذبذب الخيارات واضطراب السياسات واختلال
الأولويات بسبب غياب المنهج الملائم الذي تتحدد في اطاره تلك الأولويات، وتوظيف
المقاصد في هذا الباب يضع حدا لهذا التذبذب والاضطراب. فقد وضع علماء المقاصد سلما
في فقه الأولويات يقوم على التمييز بين الضرورات والحاجيات والتحسينيات، وهو سلّم
تراتبي مهم يشكل خيطا ناظما لفرز الهام من المهم والضروري من الكمالي أو التحسيني
كي لا تتبعثر جهود التنمية في خيارات لا تراعي الظروف الموضوعية والحاجيات
الأساسية للمجتمعات والشعوب.
كما وضعوا آلية لتنزيل هذه القاعدة عبر استخدام فقه الموازنات عندما
تكون هناك حاجة الى الموازنة بين مصلحتين أو بين مفسدتين، أو بين مصلحة ومفسدة وهو
ما يستلزم فهماً دقيقاً لمقاصد الشريعة وفقه المناط ومعرفة الواقع وتقدير حجم
المفسدة المراد درؤها قياسا بالمصلحة المرجوة او المستجلبة. وهذه الموازنة تنطوي
على علم ودراية وليس مجرد تخمين او تحوط، وهي منهجية حكيمة في مقاومة الفساد.
كما ان فقه الموازنات يقوم بالإضافة الى ذلك، على الموازنة بين
المصالح أو الخيرات المشروعة نفسها بعضها وبعض، والموازنة بين المفاسد أو المضار
أو الشرور الممنوعة نفسها بعضها ببعض، الموازنة أيضاً بين المصالح والمفاسد أو
الخيرات والشرور إذا تصادمت وتعارض بعضها ببعض، وهي كذلك منهجية علمية تتيحها
المقاصد من أجل محاربة الفساد وانفاذ الإصلاح.
ـ توظيف المقاصد في تأصيل دور القيم
والأخلاق في النظام الاقتصادي:
إذا كان التوجه الجديد في التفكير الاقتصادي الحديث هو الحرص على
انفاذ مصالحة بين الاقتصاد والأخلاق بعد انفصام تاريخي دام أكثر من قرنين من الزمن
هيمنت فيه العلمانية الاقتصادية وأعلنت خلاله طلاقا بائنا مع الاخلاق، فان استدعاء
المقاصد من شأنه أن يعزز هذا التوجه ويدعم نظرية "الاقتصاد الأخلاقي"
التي ينادي بها علماء الاقتصاد مؤخرا وفي طليعتهم أمارتيا سان حيث بيّنت أن علم
الاقتصاد والأخلاق لا ينفصلان، وأن الأخلاق يجب أن توضع في قلب علم الاقتصاد بعد
أن وصل "اللاأخلاقي" إلى مستويات عالية في العالم الاقتصادي والاجتماعي لدرجة أن
أشد مؤيدي الليبرالية الجديدة مستعدون أحيانًا، من أجل إسكات الأصوات الناقدة لها،
لقبول اتخاذ تدابير لجعل النظام المملوك للدولة مقبولًا اجتماعيًا وسياسيًا. هذه
هي الطريقة التي نشهد بها ظهور مفاهيم جديدة تحاول إضفاء الطابع الإنساني على
الرأسمالية وإضفاء الطابع الأخلاقي على سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، من قبيل:
المسؤولية الاجتماعية للشركات، والاستثمار المسؤول اجتماعيًا، والتجارة العادلة،
والتنمية المستدامة، وما إلى ذلك ... وقد تم تأطير كل هذه المفاهيم في نهج جديد
يوفق بين الاقتصاد والأخلاق وبالتالي قطع حالة الطلاق القسري بين المجالين.
بإمكان المقاصد توطيد هذه المفاهيم من خلال التأثيرات التي يحدثها
تنزيل الضرورات الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال وهي مقاصد مرتبطة
ومحمّلة بمخزون قيمي وأخلاقي. كما يحدثها أيضا تنزيل مقاصد التصرفات المالية التي
طوّرها الشيخ الطاهر بن عاشور وهي حفظ المال ورواجه ووضوحه وثباته والعدل فيه. وهي
كلها مقاصد شرعية قوامها الاخلاق.
ـ توظيف المقاصد في ترشيد السياسة
الاقتصادية الشرعية:
تعتبر السياسة الاقتصادية بابا من أبواب السياسة الشرعية. ويقصد
بالسياسة الشرعية حسب الفقهاء "ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح
وأبعد عن الفساد". وبالتالي فإنّ السياسة الاقتصادية تصبح شرعية إذا روعي في
أصل بنائها وإعمالها موافقة مقاصد الشرع وغاياته وكلياته وقواعده العامة الحاكمة
للسياسة ، وعدم مخالفة أي دليل شرعي. وتوظيف المقاصد في هذا الباب من حيث مراعاة
حفظ الضروريات الخمس الى جانب مقاصد التصرفات المالية في المجتمع يقود الى ترشيد
السياسات الاقتصادية وضبط أولوياتها، فتتحول المقاصد الشرعية العامة والخاصة الى
موجّهات وضوابط يجب التقيد بها لاكتساب تلك السياسات صفة الشرعية. فمقصد حفظ المال
يتطلب حفظه من الفساد بكل أشكاله والعمل على تنميته واستثماره بالأساليب المشروعة
من اتجار وايجار ومشاركة واسترباح.
ومن الوسائل التي تضمن حفظ المال ايجادا
وتحصيلا، كما بيّن ذلك ابن عاشور، وسيلتي التملك والتكسب. فالتملك هو أصل الاثراء
البشري ومن أجل ذلك أقرّت الشريعة الملكية الخاصة وعملت على صيانتها ومنع الاعتداء
عليها، والتكسّب هو السبيل لبناء الثروة عبر وسائل ثلاث هي التدبير والعمل
والمادة، أو بالتعبير الاقتصادي المعاصر عناصر الإنتاج وهي الأرض والعمل ورأس
المال. كما يتطلب مقصد حفظ المال كذلك حفظه من التبذير والاسراف والتبديد والتلف
من خلال منعه عن دائرة السفهاء، وحفظه من سائر التصرفات المحرمة من ربا وغرر وأكل
المال بالباطل واحتكار واكتناز وغيرها، وكل ذلك يعتبر من أساليب ترشيد السياسة
الشرعية في المجال الاقتصادي.
ـ توظيف المقاصد في تحديد نمط جديد
لتمويل الاقتصاد:
تعتبر مسألة التمويل من القضايا البارزة التي حظيت باهتمام علماء
الاقتصاد المعاصر على اختلاف آراءهم وتوجهاتهم الفكرية باعتبارها الوسيلة الرئيسية
لتحقيق التراكم الرأسمالي وبناء الثروة. وقد استقر
الرأي لديهم أن تمويل الاقتصاد
يمكن أن يكون عبر المديونية المرتبطة أساسا بسعر الفائدة وأن اللجوء الى التداين
بشقيه الداخلي والخارجي ليس في حد ذاته تفكير خاطئ أو حتى سلبي لكونه يسمح للبلدان
التي تحتاج الي تمويل اقتصادها بالحصول على هذا التمويل دون عناء ويمكنها من سد
الفجوة المالية التي تواجهها. وبسبب هذا التفكير أصبح الاقتصاد العالمي على نحو
متزايد اقتصاد قائم على المديونية ولا تشكل الأصول والموارد فيه سوى جزء ضئيل
تقريبًا. يسود القطاع المالي يومًا بعد يوم على القطاع الحقيقي وتتسع الفجوة
بينهما بشكل خطير.
في هذا السياق يقدم الإسلام نظرة مغايرة للتمويل تقوم على فلسفة
التبادل (البيع) بدلا من الإقراض القائم على سعر الفائدة وظلت الرسالة العالمية
التي ينادي بها لأكثر من أربعة عشر قرنًا هي تأسيس اقتصاد قائم على الموارد وليس
على الديون. بل يجب أن تحتل هذه الديون فقط مكانًا هامشيًا في نموذج التمويل
الاقتصادي الإسلامي. حظيت هذه الفكرة باهتمام كبير من قبل العديدين من خبراء الغرب
وعلمائه. فقد اقترح البروفيسور ويليم بويتر Willem Buiter، من كلية لندن للاقتصاد، تبني مبادئ التمويل
الإسلامي، لا سيما تلك المتعلقة بتقاسم الأرباح والخسائر، لإنشاء نظام أكثر
استقرارًا. انتهى الشكل الجديد للتمويل الإسلامي، بعد أقل من نصف قرن من وجوده، من
ترسيخ مصداقيته كبديل أو على الأقل كمكمل للنظام التقليدي. في الواقع، من اللافت
للنظر أنه خلال الأزمة المالية العالمية الأخيرة، كانت المؤسسات المالية الإسلامية
أكثر استقرارًا من المؤسسات التقليدية.
كان القرآن واضحًا جدًا منذ البداية بإعلانه بشكل لا لبس فيه الفرق الأساسي بين معاملات البيع ومعاملات الائتمان ذات الفائدة، أي بين المخاطرة وتحويل المخاطر، بين البيع والربا: "وأحلّ الله البيع (بمعنى آخر أي نشاط يتعلق بالإنتاج والمخاطرة) وحرّم الربا (بمعنى آخر القرض بفائدة وهو المصدر الرئيسي للمديونية) ".
القاعدة الذهبية للتمويل الإسلامي هي قاعدة تقاسم المخاطر أو
المشاركة في الربح والخسارة والتي تستند إلى اقتباسات نبوية ذات أهمية كبيرة "الغنم بالغرم والخراج بالضمان" مما يعني أنه لا يوجد ربح بدون مخاطر ولا مكافأة
بدون ضمان، وتركز الفلسفة الإسلامية للتمويل على التبادل لأن الغرض الأساسي من
التمويل هو تسهيل وتعزيز التبادل وأنشطة الاقتصاد الحقيقي. يحتل التبادل مكانة
مهمة في الاقتصاد لأنه من خلال الاستثمار أو الاستهلاك يشكل الخطوة الأولى نحو
النمو وتراكم الثروة وتنمية الاقتصاد ورفاهية الأفراد.
كان القرآن واضحًا جدًا منذ البداية بإعلانه بشكل لا لبس فيه الفرق
الأساسي بين معاملات البيع ومعاملات الائتمان ذات الفائدة، أي بين المخاطرة وتحويل
المخاطر، بين البيع والربا: "وأحلّ الله البيع (بمعنى آخر أي نشاط يتعلق
بالإنتاج والمخاطرة) وحرّم الربا (بمعنى آخر القرض بفائدة وهو المصدر الرئيسي
للمديونية) ".
على هذا الأساس، ترتبط جميع عمليات التمويل الإسلامي ارتباطًا وثيقًا
بعقود الشراء والبيع: بيع المرابحة (البيع بهامش الربح)، بيع السلم (البيع للتسليم
أي تأجيل المبيع وتعجيل الثمن)، بيع الاستصناع (عقد التصنيع أو التعاقد)، عقد
الإجارة ( بيع حق الانتفاع) ، إلخ. في الوقت نفسه، ترتبط عمليات الاستثمار
ارتباطًا وثيقًا بالإنتاج وتكوين الثروة من خلال عقود مختلفة مثل: المضاربة
والمشاركة، والمزارعة، والمغارسة والمساقاة (الري) ، الخ. وتهدف كل هذه العمليات
إلى تعزيز الاقتصاد الحقيقي من خلال التمويل. ومن هنا تأتي أهمية تحريم الربا الذي
هو مجرد نوع من الانحراف عن دور المال والانحراف عن وظيفة المال. وتعكس كل هذه
المعاملات مقصد رواج المال وتنمية التبادل الذي هو المصدر الحقيقي لتوفير التمويل
دون اللجوء الى الاقتراض والديون.
*أستاذ وباحث في الاقتصاد الإسلامي
اقرأ أيضا: تفعيل المقاصد الشرعية في المجال الاقتصادي.. التحديات والآفاق (1من2)