(1)
أعجبتني قصة على صفحات
السوشال ميديا عن دب عاطل قدم أوراقه للحصول على وظيفة "أرنب مستكشف
أنفاق"، ولما تمخض الفأر في
مصر وأعلن الدكتور مدبولي تشكيل وزارته الثانية،
عادت القصة بقوة إلى ذاكرتي، برغم أنني كنت قد نسيت تفاصيلها، وبعد قليل من البحث
وجدت القصة منشورة (باللغتين العربية والإنجليزية) في صفحات عربية فقط، بدون أي
معلومة عن المؤلف، فقط توجد إشارة في بعض المنشورات إلى أنها منقولة من الأدب
التشيكي..
أنفقت أسبوعا كاملا للبحث عن
أصل القصة ومؤلفها والتحقق من المصدر، ولم أجد أي معلومة عن الأصل الأدبي، ولا أي
أثر للقصة في اللغة التشيكية، وأرجح الاحتمالات التي توصلت إليها أنها ترجمة عربية
لإحدى حلقات الكارتون المنتجة في التشيك تحت عنوان "الدب والأرنب"!
(2)
أسبوع من البحث المجهد لكي
أعرف حقيقة ما أكتب عنه، وأحيانا أتعب في البحث عن معلومة لكي لا أكتب عنها، المهم
أنني أبذل الجهد لكي أتحقق، ولما تأخر إعلان التشكيل الوزاري خطر في بالي أن
الدولة ومؤسساتها الأمنية والبيروقراطية تعلمت فضيلة التحري عن الأسماء المرشحة
لتولي الوظائف العمومية، وهي فضيلة تحتاج إلى جهد ووقت، لكي تكون النتائج موثوقة،
لذلك لم أنزعج من تأخير التشكيل، فأنا ممن ينتظرون السلامة من التأني، على طريقة
المثل الانجليزي "سلولي بت شورلي" (وئيدا.. لكن أكيدا)..
كعادتنا بعد كل تغيير وزاري ننتقد ونسخر ونختلف في تقييم من خرج ومن دخل، لكن هذه المرة زاد على الحديث المكرر والمألوف، مهزلة أخرى تتعلق بتقارير التحري وتدقيق معلومات المرشحين، وخاصة ما أثير حول وزير التعليم الجديد الذي نال السخرية الأكبر بسبب تهافت التعريف الرسمي المنشور عنه من جانب الحكومة، ثم بسبب أزمة الشهادة الجامعية
كعادتنا بعد كل تغيير وزاري
ننتقد ونسخر ونختلف في تقييم من خرج ومن دخل، لكن هذه المرة زاد على الحديث المكرر
والمألوف، مهزلة أخرى تتعلق بتقارير التحري وتدقيق معلومات المرشحين، وخاصة ما
أثير حول وزير التعليم الجديد الذي نال السخرية الأكبر بسبب تهافت التعريف الرسمي
المنشور عنه من جانب الحكومة، ثم بسبب أزمة الشهادة الجامعية ودرجة الدكتوراة التي
تم التشكيك فيها، لأنها صادرة من جامعة غير موثوقة "تبيع" الدرجات
العلمية (عن بعد) بدون دراسة ولا أبحاث ولا حتى وجود واقعي للجامعة، حيث أثبت
المجتهدون في الإعلام الشعبي أن الجامعة بلا مقر، وعنوانها المنشور يخص مبنى
لتأجير المكاتب، كنوع من التحايل القانوني لاستيفاء أوراق الترخيص الشكلي، وتوصيل
البضاعة المغشوشة للزبائن الراغبين..
(3)
تذكرت وقائع سابقة لوزراء؛
أحدهم كان وزيرا شهيرا للتعليم في مصر، ثبت بعد توليه الوزارة أنه لم يحصل على
الثانوية العامة وقام بتزوير شهاداته الجامعية وما بعدها، وسألت نفسي بدهشة: هل هي
مصادفة أن تتكرر مثل هذه الفضائح في وزارة التعليم دون سواها؟ أم أن
التزوير يتكرر
في كل المجالات، ولا نعرف نحن إلا القليل المفضوح الذي يتم كشفه بسبب ثغرة ما، أو
بسبب زيادة جرعة الاستهبال من نوع: سافر أمريكا وعنده 13 سنة وأمه بنت وزير الدفاع
الذي حقق نصر أكتوبر، وسابقة أعماله تتلخص في إدارته للمدرسة الخاصة التي أسستها
الست الوالدة؟!
(4)
ارتباط وزارة التعليم بفضائح
علمية وأخلاقية من هذا النوع ساعدني على تذكر محاضرة شهيرة ألقاها عالم الفيزياء
الأمريكي الشهير "ريتشارد فاينمان" في افتتاح معهد كاليفورنيا
للتكنولوجيا عام 1974 تحت عنوان "علم عبادة البضائع.. ملاحظات حول العلم
الزائف وخداع النفس"..
كان فاينمان قد حصل على جائزة
نوبل وصار مشهورا جدا، لكنه حكى في المحاضرة عن تجربة حدثت عام 1937 قبل تخرجه
بعامين تقريبا، وأثرت في مسيرته العلمية كلها، والتجربة التي كان يكرر الحديث عنها
في مؤتمرات ومحاضرات كثيرة تخص باحثا مجهولا اسمه "يونج" كان مشغولا
بإجراء تجربة لتعليم الفئران، وكان لديه ممر طويل يحتوي على أبواب في الجانبين، فاستخدمه
كمتاهة وشرع في تدريب الفئران على الدخول من الباب الثالث للحصول على الطعام، ولما
وضع الطعام بعد أول محاولة فوجئ بأن الفئران اتجهت مباشرة لمكان الطعام دون أن تمر
بالباب الثالث..
سأل يونج نفسه: كيف عرفت
الفئران مكان الطعام مباشرة؟ ليس من المعقول أن تتعلم الفئران بهذه السرعة، وتشكك
في شكل الأبواب فأعاد طلاءها جميعا بلون موحد وهيئة متماثلة، لكن الفئران نجحت
أيضا في الوصول إلى الطعام. اعتقد يونج أن الفئران ربما كانت تشم رائحة الطعام، فاستخدم
مواد كيميائية لتغيير الرائحة، لكن الفئران نجحت أيضا في الوصول مباشرة إلى مكان
الطعام.
تشكك يونج في أن الفئران قد تستطيع
التعرف على مكان الطعام من خلال توزيع الضوء والظلال وترتيب الأشياء في المختبر، لذلك
قام بتغطية الممر بقماش موحد، لكن الفئران عرفت المكان الصحيح، فاكتشف أخيرا أنها تستطيع
معرفة طريقها من خلال أرضية الممر، فنثر الرمال على الأرضية وعالج كل الاختلافات
التي تجعل الفئران تعرف مكان الطعام، وأخيرا نجح في إجبار الفئران على تعلم الدخول
من الباب الثالث، من غير أن تصل إلى الهدف بطرق احتيالية قد تحقق النتائج المطلوبة
بوسائل احتيالية وليس بالتعلم.
يقول فاينمان إن التعليم
والعلم الحقيقي يحتاج إلى دقة وإبداع وصرامة في المعايير، والمؤسف أن يونج هذا قد
تم إسقاطه وتجاهله، ولم يتم ذكره بعد ذلك، برغم تأثيره الكبير في التجارب اللاحقة
التي تواصلت بكثافة وادعاء في موضوع تعليم الفئران والدراسات من هذا النوع..
تعلمت من العالم المغمور المنسي أهم درس في تحقيق شرط "سلامة العلم" و"ضوابط التعليم"، والاستعداد الدائم لاعتراف العالم بأنه مخطئ إذا ثبت ذلك، لكنني اليوم أقابل الكثير من الأشخاص الذين يتحدثون عن الأطباق الطائرة المجهولة، والتنجيم، والروحانيات، والتوقعات، وأنواع جديدة من الوعي الزائف، وهذا ليس علما دقيقا، لكنه تخمينات وخيالات
لقد تعلمت من العالم المغمور
المنسي أهم درس في تحقيق شرط "سلامة العلم" و"ضوابط التعليم"،
والاستعداد الدائم لاعتراف العالم بأنه مخطئ إذا ثبت ذلك، لكنني اليوم أقابل الكثير من الأشخاص الذين يتحدثون عن
الأطباق الطائرة المجهولة، والتنجيم، والروحانيات، والتوقعات، وأنواع جديدة من
الوعي الزائف، وهذا ليس علما دقيقا، لكنه تخمينات وخيالات تحتاج إلى تحذير وتحقيق
حتى لا نخدع بها الناس ونخدع أنفسنا في زمن عبادة السلع والبضائع.
(5)
أعود إلى نص القصة الرمزية
التي ارتبطت في ذاكرتي بالوزارة " الجديدة/ القديمة"، وأثق أنكم قادرون
على استخلاص العبرة بدون شرح:
في إحدى الغابات العجيبة تم
الإعلان عن وظيفة شاغرة:
"مطلوب أرنب مستكشف
أنفاق"..
تقدم للوظيفة دب عاطل، وتم
قبول أوراقه وتعيينه.
بعد فترة لاحظ الدب أن في
الغابة أرنبا يعمل بوظيفة "دب ممهد طرق"، ويحصل ذلك الأرنب المحظوظ على
راتب ومكافآت وحوافز أعلى منه بكثير!
تقدم الدب بشكوى إلى مدير الغابة،
وتم تحويِل الشكوى إلى لجنة من النمور، وحددت اللجنة موعد جلسة يحضرها كل من الدب
والأرنب ومعهما المستندات المطلوبة، وبعد فحص الوثائق والشهادات المقدمة، استقر
يقين "لجنة النمور" على أن الأرنب دب، والدب أرنب، وبعد الفحص والمداولة
قررت اللجنة بقاء الحال على ما هو عليه وعدم إجراء أي تغيير، لأن الوثائق
والشهادات أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن الأرنب دب، والدب أرنب!
لم يعترض الدب على قرار اللجنة،
وعندما عاتبه بعض الحالمين بالإصلاح: لماذا لم تعترض؟ قال لهم الدب: كيف أعترض على
قرار "لجنة النمور" وهي أصلا مجموعة من الحمير، كل أوراقهم تقول إنهم نمور؟!
* * *
انتهت القصة ولم تنته
المهزلة، فالغابة كلها مزورة وليست شهادة الأرنب المحظوظ!
[email protected]